لبنان 55 عاما من المقاومة.. لتصحيح المسار
أمد/ عندما يترنح التاريخ على جغرافية متحركة يصاب الجميع بدوار واختلال التوازن، حينذاك تفقد المفاهيم قدرتها على ضبط السلوك، وينهار إذ ذاك ما أنتجه التاريخ من علاقات وأوضاع.. لعل هذه الكلمات هي الأكثر إيلاما لأرواحنا ونحن نشاهد انهيار وحدة الأمة إلى شعوب بثقافات إقليمية والى دول لكل منها أجندته وأهدافه المعزولة والمنفردة.. من هنا كانت بدايات تكريس المشروع الاستعماري بطبعته المعاصرة في بلداننا.. قيام كيانات ورسم حدود حركتها وضبط إيقاع تحركها بإشراف أو توجيه من قيادة المشروع الاستعماري.. لقد كان إنشاء لبنان المستحدثة كما الأردن المستحدثة ضرورة جيوسياسية لتوفير الأمن الكافي للكيان الصهيوني، وإسقاط الحلم بدولة عربية كبيرة.. إن الوحدة وفلسطين توأم، كما أن التجزئة والكيان الصهيوني توأم.. من هنا تبدأ حكاية لبنان المعاصر بكل تعقيداته، فهل ينقذه الطوفان من التيه والتشتت ويحرره من القيود والأدوار المصنوعة له.
دولة بالمعايير الفرنسية:
في سنة 1918 أعلنت عصبة الأمم فرض الوصاية على البلاد التي انتزعت من الدولة العثمانية فيما عرف بالانتداب. وذلك في محاولة لبناء كيانات سياسية عربية على المقاس الغربي ليتم تكريس الكيان الصهيوني في القلب من المشرق العربي بأمان. و كان هذا الإعلان مصحوبا باتفاقية سايكس بيكو لتجزئة المشرق العربي وانتداب فرنسا للإشراف على منطقة سورية والتي شملت لبنان حسب مؤتمر “فرساي” سنة 1919.. في هذه الأثناء كان الملك فيصل بن الحسين يسعي لإعلان المملكة العربية وعاصمتها دمشق وتشمل سورية ولبنان والعراق والاردن فاندفع مسلمو الساحل اللبناني للمطالبة بالانضمام للدولة العربية المقترحة في حين طالب البطريرك “الحويك” استقلال لبنان بالصيغة الفرنسية.
و في أيلول/سبتمبر من عام 1920 أعلن الجنرال الفرنسي غورو قيام دولة لبنان الكبير معلنا بيروت عاصمة لها ويكون علم الدولة بدمج علمي فرنسا ولبنان معاً ووصفت الدولة الجديدة باسم لبنان الكبير على أساس ضمّها ولاية بيروت مع أقضيتها وتوابعها (صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار) والبقاع مع أقضيته الأربعة (بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا)، فاتسعت مساحته من 3500 كلم مربع إلى 10452 كلم مربع، وازداد سكانه من 414 ألف نسمة إلى 628 ألفاً .
وفي عام 1926 أنشأ الفرنسيون الجمهورية اللبنانية، والتي تعتبر بداية التاريخ الحديث للبنان وانتخب” شارل دباس” كأول رئيس للبنان.. فيما رفض المسلمون اللبنانيونالحركة الوطنية السورية الكيان اللبناني الوليد وذلك لانه يكرس تجزئة بلاد الشام و يتناقض مع الدولة العربية الكبيرة وعلى الأقل دولة سورية الكبرى “سورية الحالية ولبنان وفلسطين والعراق” بالإضافة لموقفهم الرافض للحكم الفرنسي ” الاستعمار” والخضوع لإملاءاته.. الا ان فرنسا اشترطت قبول استقلال لبنان مقابل الاعتراف باستقلال سورية.. فخضع ممثلو الحركة الوطنية لهذا الابتزاز الفرنسي الأمر الذي أحدث تصدعا في صفوف السياسيين المسلمين «الوحدويين» في لبنان.. ومن عام 1930 إلى عام 1943، تبلورت «صيغة» رياض الصلح/بشارة الخوري وغيرهم من طلاب الاستقلال، إلى ان تحولت إلى ما سمي بالميثاق الوطني اللبناني، وهو يقوم على المعادلة التالية: من أجل بلوغ الاستقلال، على المسيحيين ان يتنازلوا عن مطلب حماية فرنسا لهم، وأن يتنازل المسلمون عن طلب الانضمام إلى الداخل السوري ـ العربي.
وفي 21 أيلول من السنة نفسها فاز الشيخ بشارة الخوري وأصبح رئيسا للجمهورية وألف حكومته رياض الصلح وأعلنوا الاستقلال التام واعتبر هذا القرار تحديا “سافرا” للمفوض السامي الفرنسي مما جعله يأمر بتعليق الدستور وأرسل ضباطا” إلى رئيس الجمهورية فاعتقلوه مع رياض الصلح وبعض الوزراء والزعماء الوطنيين عندها قام رئيس المجلس النيابي آنذاك صبري حمادة وبعض النواب باجتماع مصغر في قرية صغيرة هي بشامون وألفوا حكومة مؤقتة ورفع العلم اللبناني الذي تكون من ثلاث أقسام الأحمر، الأبيض وفي الوسط ضمن اللون الأبيض شجرة أرز خضراء. وقد أدى هذا إلى استقلال لبنان بتاريخ 22 تشرين الثاني 1943.. هذه هي الدولة المقتطعة من بلاد الشام والمركبة بتوازن طائفي يمثل القنابل الموقوتة والمعرقل الكبير عن انخراط لبنان في قضاياه العربية، و على قاعدة هذا البناء الخاص للبنان أصبح مادة جاذبة لأصحاب الأجندات والمشاريع لاسيما فرنسا التي تفردت في البدايات بالتوغل في الدولة والمجتمع ولحق بها الأمريكان الذين وجدوا منها محطة أساسية للتحرك الأمني في الاقليم كله.. ولعله من الواضح أن الطائفة أصبحت مع الزمن هي الوطن لاتباعها.. استمر لبنان بهذه التركيبة تحت شعار الديمقراطية الطائفية وقد أريد له أن يكون بلدا سياحيا يغطي تحته مفاسد سياسية واخلاقية متنوعة.
المقاومة الفلسطينية أداة التغيير:
بعد النكبة التي لحقت بالمقاومة الفلسطينية الوليدة شرقي نهر الأردن كان واضحا أن الكيانية الفلسطينية التي تحاول التمثل خطر واضح سياسيا على واقع المملكة الاردنية الهاشمية لجهة ان شطر هذه المملكة هو الضفة الغربية التي ستجد الحركة الوطنية فيها السبيل واضحا للالتحاق بالثورة الفلسطينية وتمثيلها للشعب الفلسطيني، ومن جهة أخرى فان وجود المقاومة الفلسطينية شرق النهر وما ينتج عنه من اعلان حالة اشتباك واستنزاف مع العدو الذي احتل الضفة كاملة يعني بوضوح أن شرق النهر سيتحول شيئا فشيئا الى ساحات حرب وحشد وسيجد الجميع ان الاردن هو الفرصة الكبيرة لمواجهة الكيان الصهيوني لعدة اعتبارات.. من هنا كانت المواجهة حتمية ولقد تأجلت ثلاث سنوات من 1967 حتى 1970 فلقد كان النظام محتاجا لالتقاط انفاسه بعد أن ضيع القدس والضفة الغربية بما يمكن اعتباره لا مقاومة تذكر..
خرجت الثورة من الاردن بعد ان تحالف ضدها أكثر من طرف عربي ودولي.. خرجت مدماة في خيبة أمل كبيرة ولم تجد لها سبيلا الا الالتحاق ببعض قواعدها التي تأسست من قبل في لبنان الامر الذي واجهه الجيش اللبناني بعدم الرضى وانتهى الى صدام في 1969 وجد حلا له في قمة فلسطينية لبنانية مصرية بالقاهرة وذلك من خلال اتفاق ينظم العلاقة..
لقد سبق ذلك ترامي المخيمات الفلسطينية في الشمال والجنوب حيث مثل اللجوء الى لبنان أحد أكبر موجات الترحيل الصهيوني.. وتعرض الفلسطينيون في لبنان منذ 1948 حتى 1970 معاملات عنصرية قاسية من قبل الدرك اللبناني وطبقات سياسية نافذة في البلد ولعل الفلسطينيين في لبنان مروا بأسوأ حالة لجوء عاشها الشعب الفلسطيني.. يكفي للاشارة أن أكثر من 100 مهنة ممنوعة على الفلسطيني.. وكانت المخيمات عبارة عن غيتو ومعسكرات للاجئين.. وحول المخيمات احتشدت التجمعات اللبنانية الفقيرة المحرومة في وطنها.
بانتقال الثورة الفلسطينية الى لبنان تم كسر الهيمنة الرسمية على المخيمات الفلسطينية التي وجد شبابها فرصتهم في الالتحاق بصفوف الثورة الفلسطينية التي لم تتوقف عند هذا بل فتحت ابوابها للبنانيين الذين وجدوا فيها طريقا لحريتهم وتكسير النظام الطائفي.. فاصبحت المقاومة الفلسطينية في لبنان ذات مهمات استراتيجية كبيرة لعل دعم كل حالات المقاومة في المنطقة ضد الاستعمار والأنظمة المتعاملة معه لاسيما النظام الايراني الشاهنشاهي.
منذ سنة 1970 حتى سنة 1982 كانت كافية باحداث التغيير العميق في التركيب الاجتماعي السياسي اللبناني.. في هذه السنوات لم تترك فرصة لالتقاط الانفاس فكانت الاجتياحات الصهيونية باستمرار وكانت المؤامرات الداخلية عنيفة تزج بالثورة في حروب هامشية ويتم من خلالها ارتكاب المجاذر في حث المخيمات الفلسطينية فلقد تحالف الموارنة ومليشيا الكتائب وقوى محلية واقليمية من اجل شطب الثورة الفلسطينية في لبنان وكانت حرب السنتين 19751977.. كانت تلك السنوات عاصفة في التركيب اللبناني وكذلك الفلسطيني وفيها نالت المنظمة الفلسطينية قرارات عربية بأنها هي فقط من يمثل الفلسطينيين وفي هذه الفترة دخل ياسر عرفات الجمعية العامة للأمم المتحدة معلنا عن خياراته الواضحة.. وفي هذه الفترة أدرك الجميع ان المقاومة الفلسطينية هي من هيأ للثورة الايرانية قادة مدربين على السلاح والعمل اللازم ليكونوا من قيادات الثورة الايرانية فيما بعد.
لقد أدركت الاطراف المعادية للفلسطينيين وادواتها ان الفلسطينيين اذا استقر لهم الحال قليلا بعد كارثة ايلول الاسود فانهم حتما سيفجرون الأوضاع في المنطقة ضد المصالح الاستعمارية.. ويعيدون صياغة المجتمع اللبناني بكيفية مختلفة ستكون لصالح انتماء الناس وسياقهم التاريخي.. لهذا اشتركت دول اقليمية مع مليشيات محلية لنصب المكائد والمؤامرات والهدف واضح من وراء ذلك كله الا وهو اغراق المنظمة وتبديدها.
لم تنجح الاجتياحات الصهيونية الجزئية ولا عمليات الاغتيال المتكررة لقادة الثورة الفلسطينية ولم تنجح القوى صديقة الاحتلال في جر المقاومة بعيدا عن أهدافها واستراتيجياتها ..فكان لابد للصهاينة من الهجوم الواسع ضد لبنان لاخراج المقاومة
منه وبذلك يتم ابعاد المقاومة الفلسطينية عن حدود فلسطين كليا..
كان لوجود المقاومة الفلسطينية الأثر البالغ في احداث تغييرات عميقة في احجام القوى اللبنانية وفرض لغة جديدة وشعارات جديدة وهكذا نمت الحركة الوطنية اللبنانية وبرزت اجنحة مسلحة لبنانية بالقرب من المقاومة الفلسطينية.. يعني بوضوح تجديد الاواصر مع فلسطين ولكن القرار الامريكي والاقليمي كان يجد ان اخراج المقاومة الفلسطينية من حدود فلسطين هو الأمر الذي لا تنازل عنه.
لبنان منذ 1982:
برزت المقاومة اللبنانية فور خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان لتواجه الاحتلال الامريكي والفرنسي والصهيوني بعمليات نوعية كانت هي قاعدة انطلاقها في مشروع طويل تعرجت بها السبل وناله من التشتت احيانا كثيرة الا انه دوما كان يعزز خطا جديدا في الساحة اللبنانية..
اصبح لبنان في وسط المعركة ولكن هذه المرة ليس من خلال المقاومة الفلسطينية انما من خلال مقاومة لبنانية اخذة في التصاعد.. وقد تمكنت المقاومة من الصمود في حروب متتالية لتجر خلفها جموع غفيرة من الناس ولتدخل على المنظومة المفاهيمية اللبنانية ان الكيان الصهيوني عدو للبنان وان على اللبنانيين التصدي له.
اصبح من الواضح ان المقاومة اللبنانية شريك تلقائي لقوى المقاومة الفلسطينية التي بدأت في النمو داخل فلسطين ورغم ان هناك ملفات مؤلمة للفلسطينيين في مخيمات لبنان الا ان التفاهم العميق بين المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين يدور حول الاشتباك مع العدو..
جاء الطوفان لانقاذ المقاومة اللبنانية التي وجدت نفسها في حرب الفتنة داخل سورية وقد يصعب التحليل الان حول ذلك الخيار ولكن الذي لابد من معرفته أن الفترة ما بين تموز 2006 الى اكتوبر 2023 كانت فترة اعداد وتقوية للكوادر والسلاح وكانت كذلك انهماك بالملف السوري الذي الحق بالمقاومة اللبنانية خسائر كبيرة مادية ومعنوية حيث الحساسيات المفرطة طائفيا في المنطقة.
الشقيق كامل الاداء:
بعد مائة سنة من المؤامرة على الجغرافيا يستقيم التاريخ ليتصل بسياقه ويعود لبنان مع فلسطين في كتلة جغرافية واحدة ونسيج اجتماعي واحد ومهمات واحدة في التصدي للمشروع الاستعماري.. تسقط قواعد بناء الدولة الطائفية بالصيغة الفرنسية وتسقط مهمات الدولة حسب الرغبات الفرنسية ليعود لبنان الى حيث ابعاده الحقيقية جزءا اصيلا متكاملا مع فلسطين في صياغة بلاد الشام.. لقد اثمرت المقاومة الفلسطينية بعد نصف قرن وسقط المشروع التجزيئي بعد قرن.. وهكذا نسجل للطوفان واحدا من اعظم انجازاته: الوحدة .. والله غالب على أمره.