المال الحرام وخداع النفس
إن الإنسان مجبول على حب المال: {وآتى المال على حبه…}، بل على شدة حب المال: {وإنه لحب الخير لشديد} والخير هنا هو المال. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان حب المال، وطول العمر» رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قلب الشيخ شاب على حب اثنتين طول الحياة وحب المال» رواه مسلم.
ولما كان الأمر كذلك، وكان الحب يعمي صاحبه ويصمه، وكانت عواطف الإنسان ذات تأثير كبير على قراراته واختياراته، ومما لا ريب فيه أن من أشدها وأقواها عاطفة عشقه للمال وحبه التزيد منه، تولى الله عز وجل قسمة الأموال التفصيلية في ثلاثة مواضع من المواضع التي يحرك الطمع فيها الناس، وتدفعهم عاطفة حبهم للمال إلى الحرص على أكبر قدر منه دون مراعاة حق الغير ولا حدود الشرع، وهذه المواضع الثلاث هي: قسمة الأنفال والغنائم، حيث جاء فيها قول الله تعالى جلت قدرته: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}. وقسمة الزكاة حيث جاء فيها قول الله تعالى جلت صفاته: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}. وقسمة المواريث حيث جاء فيها قول الله تعالى جلت حكمته: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثَا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث…} الآيات.
ومع ما ورد من التحذير من المال الحرام وآثاره، كقوله صلّى الله عليه وسلم: «إِنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به» رواه أحمد وغيره. وكقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن هذا المال خضرة حلوة من أصابه بحقه بورك له فيه ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار» رواه أحمد وغيره. وغيرها من الأحاديث والنذر إلا أن الناس تساهلوا في شأن أكل الحرام والكسب الحرام والمال الحرام، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام» رواه البخاري، وأحسب أن زمنا هذا من الأزمان التي يصدق عليه هذا الحديث الشريف كما هو مشاهد ومعيش!.
ثم إن الكلام على المال الحرام وأضراره، وصوره ونتائجه وآثاره، طويل الذيول كثير الفروع والفصول، وإنما أريد التنبيه إلى ظاهرة غريبة من بعض الناس الذين استمرأوا الحرام واعتادوا عليه، وسولت لهم أنفسهم ما سولت، فأفتوا لأنفسهم الفتاوى الجاهلة، وغروا أنفسهم بالأماني الخادعة، وحسبوا أنهم يخدعون الناس، بل ويخدعون رب الناس، ولا يخدعون إلا أنفسهم: {يخادعون الله وهو خادعهم}، {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}. وهذا حال أولئك الذين يغتصبون المال وينهبونه ثم تراهم ربما تصدقوا بالقليل مما سرقوا وغصبوا، أو ربما حجوا به أو اعتمروا، وربما ساهموا في بناء مسجد، أو ربما غصبوا ميراثا بالملايير وأعطوا أصحاب الحق في هذا الميراث بعض الدنانير ذرا للرماد في العيون، أو ربما نهبوا المال العام ثم تبرعوا لدار الأيتام، أو ربما أخذوا رشاوي كبيرة وأعانوا مريضا في عملية جراحية، أو ربما جاءوا مفتيا ودلسوا عليه ولبسوا فأفتاهم بحسب قولهم بحل مالهم، أو.. أو.. أو.. ويحسبون أنهم بذلك قد صفوا حسابهم مع الله عز وجل، وطهروا ذلك السحت الخبيث، وصارت أموالهم حلالا طيبا!، ولكن هيهات هيهات، فما لم ترد الحقوق لأصحابها والأموال لأهلها فلسا فلسا و’دُورُو ودُورُو’ فلا حلال ولا كرامة!.
وهذا ما قرره النبي الكريم صلّى الله عليه وسلم في قوله: «من جمع مالا حراما ثم تصدق به؛ لم يكن له فيه أَجر، وكان إِصره عليه» رواه ابن حبان. وفي قوله: «لا اكتسب عبد مالا حراما فتصدق به فيقبل منه، ولا ينفقه فيبارَك له فيه، ولا يدعه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله تبارك وتعالى لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» رواه البزار.
إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة