اخبار السودان

كيف يكون انتخاب ترمب حدثا ثقافيا؟

الثقافة، كما استقر في الأدبيات، تنشغل دائماً بالزمن البعيد الذي يخلف العاصفة. إنها تنأى بنفسها عن الخوض في الحرائق في عز اشتعالها، لأنها تحتاج إلى التأمل العميق والتبصر وقراءة الأحداث بأناة وتعقل.  هذه النظرة إلى الثقافة ليست نهائية، إذ يمكن أن نغرف من النهر وهو يجري، مع الإدراك التام أن الماء متغير ومتبدل.

في ضوء ذلك، يبدو أن السباق الانتخابي بين ترمب والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس تعدى كونه صراعاً بين برنامجين انتخابيين، بل بين قيم ثقافية اختار الأميركيون الانحياز فيها إلى ترمب الذي يمثل اليمين الأميركي القائم على الشعبوية، والطامح إلى استعادة المجد “الإمبراطوري” للأمة، وهو ما تجسده حركة “اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً” (MAGA) التي تفصح عن شعور طاغ بالتفوق، والضيق بالآخر غير الأبيض، وتتبنى، بالتالي، الأفكار المتصلة باللون والعرق والمنبت، إذ انتقدت هاريس (الموصوفة باليسارية الراديكالية) ترمب الذي “يهين المتحدرين من أصول لاتينية، ويجعل من المهاجرين كبش فداء”.

 فضلاً عن ذلك، فإن في خطاب ترمب المتكرر دعوات إلى الفصل العنصري، بل وإلى الإقصاء، إذ يصف الهجرة غير النظامية إلى أميركا بـ”الغزو” وبأن هؤلاء المهاجرين الذين ضاقوا ذرعاً ببلادهم مجرمون، ولديهم “جينات قاتلة”، وأنهم “يسممون دماء بلدنا”. وهدد بطردهم جميعاً، مستنداً إلى ذرائعية يكشف عنها علم النفس الثقافي تربط بين الهجرة والجريمة، في مغالطة منطقية تبني التعميم على حوادث جزئية منفصلة.

وتستبطن هذه الخطابات نزوعاً نحو “النقاء العرقي” الذي يتخيله ترمب، وتهديداً لحقوق الإنسان، وهو ما لا يلقى صدوداً من جمهور ترمب الذي يجهر بأفكار متشددة في قضايا خلافية تتصل بالإجهاض وحقوق النساء، وتصورات أخرى محافظة حول الأسرة، تحت مزاعم إعادة تنشيط مفهوم الهوية الأميركية، إذ يعتقد ناخبو ترمب أن الدعاية الليبرالية (والديمقراطيون جزء أساس فيها) اختطفت روح أميركا التي يعد ترمب بتجديدها وانبعاثها.

الخطاب الترمبي في جزئه الذي يمكن قراءته ثقافياً بدا متحيزاً ضد المرأة، وهذا كان جلياً من تعليقات ترمب ضد هاريس وشكلها ولونها ونمط أزيائها، منذ لحظة انخراطها في السباق الانتخابي. ولعل أنصار ترمب الذين ينفخون في كيره ويمتدحون هزيمته لهيلاري كلينتون 2016، مسرورون لأن رئيسهم الجسور هزم امرأتين.

هذا الجمهور (وغالبيته من البيض) يتغنى بذكوريته والقيم الرجولية، لأنه يعتقد أن عظمة أميركا مرهونة بالقوة والسيطرة والعنف، وهو ما فعله آباؤهم وأجدادهم، من جهة التحمل البدني والقدرة على إلحاق الأذى بالأعداء. وهذا ما يفسر الصورة النمطية لترمب في المتخيل العام لأنصاره، باعتباره شجاعاً قوي الشكيمة لا يكترث بالمشاعر ولا يضعف أو يستسلم، ويستلهم صورة الصياد الذي يختطف لأنه مسيطر.

في ضوء التحليل الثقافي لهذه المعطيات، يتبين أن القيم التي وعد بها جيل “التنوير” الغربي، ومن ضمنهم المنظرون والمفكرون والفلاسفة الأميركيون، في طريقها إلى التبدل، وهو ما يحتاج (من أجل تفسيره) إلى الاستعانة بفلسفة الأخلاق التي ظن بعضهم أن روح كانط تهيمن عليها وتلهمها، بينما الواقع الجديد يكشف عن أن أفكار نيتشه تستعيد حيويتها، من جهة التبشير بـ”إرادة القوة” والتطلع إلى الإنسان المتفوق “السوبرمان”.

انتخاب ترمب، من الوجهة الثقافية السياسية، تطيح أفكار روسو، إذ جرى ويجري تمزيق “العقد الاجتماعي” الذي صاغه ودشنه في بناء عمارة الفكر السياسي والاجتماعي والأخلاقي الحديث، القائم على الحرية والمساواة والقيم الديمقراطية المبنية على الإرادة العامة للشعب، وهي أفكار ألهمت الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.

القوة المطلقة

أما من الوجهة الثقافية الفلسفية فتقرأ إعادة انتخاب ترمب وكأنها تجديد لوعد يتغذى على القوة المطلقة في ظلالها التي تذكر بنقاء العرق الآري وتفوق الرجل الأبيض، مما يعني سيادة قيم تنمو باطراد، وتتطلع إلى أن تكون علامة للزمن القادم في أميركا وأوروبا بعامة. فإذا كانت فلسفة نيتشه أنجبت شخصية هتلر، كما يقال، فإن فلسفة ميكافيللي أنجبت شخصية موسوليني، فهل تكون فلسفة ترمب ثمرة للعناق الحميم بين هاتين الفلسفتين؟

بعدما أصبح رئيساً للولايات المتحدة في دورته الأولى 2016، عطف ترمب اقتراحاته “الاقتصادية” على أفكار سياسية رأى أنها تعبر عن نبض الأميركيين، فنشأت النظرية “الترمبية” التي أضحت رمزاً للحركات القومية المحافظة والقومية الشعبوية في “الديمقراطيات” الأخرى في أوروبا وخارجها. وقد أسهم في رواجها أنها تحاكي النزعات الدفينة في قيعان النفس، والتي قمعتها القيم الليبرالية طويلاً، وحاولت التشريعات والقوانين ضبطها، والحيلولة دون إفلاتها من عقالها.

الزمن القادم في أميركا، وسواها من دول أوروبا مقبل على “فاشية”، وقد يمتد ذلك إلى العالم كله المتجه بقوة إلى اليمين. ومن حق الفلسفة والمثقفين أن يجهروا بأن الإنسان الخارج من سجن العولمة ذاهب إلى سجن العزلات القومية والميول الانفصالية التي لا تقتصر على الجغرافيا وحسب، بل تتجاوزها إلى قيم المشاعر والتضامن التي يتم هدم معبدها، بلا رأفة، وبلا أدنى إحساس بتأنيب الضمير، وليس أدل على ذلك من الحروب وما تخلفه من نكبات تتلوها هجرات، ومن لا تقتله الصواريخ يتولى البحر والأسلاك الشائكة بنزع آخر ما تبقى من أنفاسه.

سأنهي الحروب، وأخمد النزاعات، أعلنها ترمب قبل أيام في فلوريدا، وهو يزف إلى أنصاره نبأ فوزه. وأكد آنذاك أن “الله أنقذ حياتي لإعادة عظمة أميركا”. فهل يفعلها الرئيس الـ47 للولايات المتحدة، الذي قال في كتابه “فن الصفقة” (The Art Of The Deal) 1987، بمشاركة الصحافي توني شوارتز: “يرسم أشخاص آخرون بصورة جميلة على القماش أو يكتبون شعراً رائعاً. أحب عقد الصفقات، ويفضل أن تكون صفقات كبيرة. هذه هي الطريقة التي أحصل بها على ركلاتي”.

قد يفعلها ترمب، فالبساطة العبقرية هي فن المباغتة وتحطيم التوقعات: “كثيراً ما شعرت أن كثيراً من الفنون الحديثة هي خدعة، وأن الرسامين الأكثر نجاحاً غالباً ما يكونون بائعين ومروجين أفضل من الفنانين”.

إندبندنت عربية

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *