اخبار السودان

في الإصلاح السياسي أصلاح الكائن السياسي

د. أيمن بشرى

١ مقدمة
انشغل كثير من الفاعلين السياسيين في الآونة الأخيرة بموضوع الإصلاح الأمني والعسكري ، وهو أمر مفهوم في ظل حرب الفاعلين الأساسيين فيها هي قوات أمنية وعسكرية. ثم أن فترة ما بعد استقلال السودان خضعت البلاد في معظمها لحكم العسكر. بيد أن هذه الحقيقة قد تقود لخلاصة خاطئة مفادها أن إصلاح المنظومة الأمنية وحده يقود تلقائيا الى وضع البلاد في مسارها الصحيح. ومعروف أن “الارتباط لا يعني السببية” (Association does not mean causation).والخطأ في التشخيص يقود بالضرورة لوضع تصورات خاطئة للحلول. أو لحلول جزئية لا تؤدي إلى المقاصد المرجوة.
والظواهر الإجتماعية (social phenomena) عموماً هي اكثر تعقيداً من الظواهر الأخرى مثل الظواهر البيولوجية والظواهر الفيزيائية ، مما يجعل دراسة عواملها المتعددة (multi factorial) أكثر تعقيداً. فحتى عند تحديد العوامل الأكثر تأثيراً في الظاهرة الاجتماعية يصعب تحديد دورها النسبي في تحديد النتيجة النهائية ، وذلك لتأثير هذه العوامل في بعضها البعض.
المؤسسة العسكرية السودانية ليست فريدة في العالم بسيطرتها على السلطة السياسية والاقتصادية في البلاد. وهناك العديد من التجارب التي تمكنت الشعوب فيها من عمل إصلاحات لم يتجاوز بعضها التحول لنظم شبه ديمقراطية (انوقراطية) (anocracy seni democracy)، بينما تمكنت شعوب أخرى من التحول الى نظم ديمقراطية متكاملة الأركان.
افتراض أن إشكالية المؤسسة العسكرية والحكم هي مشكلة متأصلة في المؤسسة العسكرية (inherent) ، بلا إي تأثيرات أخرى خارجية مثل العوامل المجتمعية ، السياسية … الخ ، سيحد من قدرة الناس على ابتكار حلول عملية للدولة السودانية.
في الجانب السياسي ، نجد أن ضعف التجربة الديمقراطية وقصرها قد ألقت بظلالها على كيفية تعاطي الناس مع التحديات السياسية المختلفة وعلى تحديد أولويات معقولة متفق عليها. كما أن تجربة الإنقاذ انتهت انقسامات مجتمعية وجهوية خطيرة أصبحت تهدد بقاء السودان نفسه كدولة متحدة. ورغم استحالة تحديد مدى التأثير النسبي اكل هذه العوامل فيما صار إليه أمر البلاد ، يكون الزاماً على الساعين لإيجاد الحلول من دراسة كل عامل على حدة ، ومحاولة إيجاد حلول عملية قابلة للتطبيق على أرض الواقع.
عليه ، فأن هناك حوجة ملحة لاصلاح المنظومة المدنية (الحزبية) من أجل الوصول لممارسة ديمقراطية قويمة تؤدي إلى حلحلة مشاكل المجتمع بصورة تمنع التوترات المجتمعية والتدهور السياسي والاقتصادي الذي يؤدي لتطلع الشعب للخلاص عن طريق العسكر.
إصلاح الجانب المدني (الحزبي) يتعلق بجانبين لا ينفصلان ، أولهما هو إصلاح الأحزاب وطريقة تكوينها ، عملها في إنتاج السياسات وغيرها ، وهذا هو موضوع لمقالٍ قادم. الجانب الآخر هو إصلاح الكائن السياسي نفسه ، بحيث يتمكن من إدارة الأحزاب ، المؤسسات التشريعية والتنفيذية بالصورة المطلوبة. وهذا هو موضوع هذا المقال.
يجب التنبيه الى أن العملية الإصلاحية في الجانب السياسي هي في الأصل جزء من العملية الإصلاحية لكامل مناحي الدولة وقطاعاتها. ما نحتاجه هو “نفير قومي” لإصلاح ما أفسده دهر من سوء إدارة البلاد. افتراض أن هناك قطاع قد سلم من هذا الفساد ، يجعل الناس في موضع دفاع وحالة إنكار لن تساعد في إيجاد مواطن الخلل وامكانيات الحلول.

٢ الكائن السياسي
تعريف السياسي هو الشخص الذي ينصب او يسعى لتنصيب في موقع سياسي. هذا الموقع السياسي يمكن ان يكون في الدولة ، في الاقليم او في المنطقة المحلية.
مهمة السياسي الأساسية هي حل مشاكل المواطنين والمجتمع عن طريق إصدار قوانين ولوائح في عملية ديمقراطية متفق عليها .

٣ الإشكالية في السودان
كشفت بعض الاخفاقات التي تمت في الفترة الانتقالية بعد توقيع الوثيقة الدستورية (٢٠١٩) عن ضعف المقدرات السياسية للقيادات المدنية. وقد عزت هذه القوى المدنية الأمر لتطاول أمد الحكم العسكري الشمولي مما منع هذه القوى من تطورها الطبيعي.
السبب أعلاه لا يمكن استخدامه في وصف إشكالات الفترات الديمقراطية السابقة. والأرجح أن ضعف الأداء مرجعه ضعف ذاتي في هذه القوى.
الزعم بأن الزمن كفيل بإصلاح القوى المدنية من خلال اكتساب الخبرات اذا اتيح للديمقراطية أن تستمر ، يواجه تحديين الأول هي أن استدامة الديمقراطية نفسه مرتبط بوجود قدر معين من جودة الأداء الديمقراطي ، بغض النظر عن درجة الاصلاح الامني الذي تحقق. والأخرى هي افتراض أن الزمن نفسه عنده قدرات سحرية في التغيير. وهذا زعم يستبعد اهمية التدريب، التعليم ، النقد والحوارات البناءة.
هناك تباين كبير بين السودانيين في درجة وكفاءة التعليم الذي تحصلوا عليه ، وهذا سينعكس تلقائياً على التمثيل في أي برلمان يتم بإنتخابات نزيهة. هذا سيؤدي بالضرورة إلى وجود اختلاف في فهم الناس للتعريفات المختلفة للمصطلحات وللمفاهيم ، كما سيتضح لاحقا في هذا المقال.

٤ أهمية وضع معيار معرفي أساسي
١ يناقش البرلمان قضايا متعددة يتم التعبير عنها بمصطلحات لا ضامن لأن يكون أعضاء البرلمان ملمين بها أو بتطبيقاتها العملية والتي تنبني عليها قوانين عليهم الموافقة على سنها. دراسة منهج موحد يقود الى تأكد البرلمانيون من أنهم يناقشون القضايا بفهم محدد ومشترك لها.
٢ إعطاء البرلمانيون الذين يأتون من مختلف مناحي الحياة وبمعارف مختلفة ، الثقة من امتلاكهم القدر الكافي من المعرفة لأداء مهامهم.
٣ تأكد الناخبين من أن من انتخبوهم سيتأهلون معرفيا بمستوى يناسب حجم الثقة التي أولوها لهم.
٤ إعادة ثقة الناس بالعملية الديمقراطية، بالتأكيد على هناك عمل تأهيلي للمشرعين/برلمانيين ، كجزء أساسي في اعادة التأهيل الشامل لكل مفاصل الدولة. هذا سيسهل تقبل الناس في جميع مناحي الحياة لعمليات الإصلاح الشامل للدولة.

٥ المعارف المهمة:
نقترح، وبمجرد تنسم المرء لمنصب سياسي محدد (مثل عضوية البرلمان) ، ان يبدأ هذا الشخص في اختيار المعارف التي يحتاجها. للمختصين في كل مجال معرفي وضع المناهج وتحديد الطريقة المناسبة لاكتساب المعرفة (كورسات ، ورشات عمل، فيديوهات، كتيبات … الخ). يقوم البرلمان بتوفير هذه الوسائل داخل مبانيه بحيث يخصص زمن محدد من اليوم لتفرغ الأعضاء للالتحاق بأحد هذه الأنشطة.
تُقسّم المعارف لقسمين ، القسم الاول اجباري لكل الاعضاء. الشق الثاني اختياري ، وهو يغطي حاجة العضو المهتم بقضايا محددة) الصحة التعليم، البيئة .. الخ).
يمكن اعتبار هذه الخطوة كخطوة إسعافية مؤقتة. ففي الدولة التي استقرت فيها الديمقراطية ، تدرس أساسيات هذه المعارف المختلفة في المدارس في التعليم غير الجامعي كما أنها تمارس في الحياة بصورة روتينية لأنها أصبحت جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع. لذلك لا بد من إدخال هذه المعارف في المدارس السودانية كأحد أهم عمليات الإصلاح التي تهدف الاستدامة الديمقراطية.

المعارف الأساسية (الإجبارية)

١ البرلمان ، مهامه وقواعده
يشتمل هذا الكورس على :
مهام البرلمان
طريقة عمل البرلمان لتحقيق مهامه ، ومن كيفية إنتاج القوانين.
دور العضو البرلماني
المعايير السلوكية والأخلاقية التي يجب ان يلتزم بها الاعضاء
القوانين الضابطة للبرلمان

٢ تاريخ الديمقراطية وتطورها.
امثلة للنظم الديمقراطية

٣ الدولة الحديثة :
مفهوم الدولة الحديثة ، ركائزها والعوامل المؤثرة في نجاحها وفشلها.
القوانين وعلاقتها بالدولة الحديثة
مفهوم المواطنة.

٤ الإعلان العالمي لحقوق الانسان.

٥ العلم واهميته
يرتكز التطور الذي وصل اليه الانسان في القرنين السابقين والذي ادى الى درجة من الرفاه لم يعرفها الإنسان في تاريخه الممتد لآلاف السنين ، على التطور العلمي الكبير الذي تحقق باذدياد مضطرد. لا يمكن توقع أن يحدث إزدهار في أي مجال دون اتخاذ الأساليب العلمية الحديثة. فهم كيفية عمل العلم الحديث مهم لإعطاء البرلمانيون الثقة في العلم ومن ثمة اتخاذه كوسيلة للتعرف على المشاكل، تحليلها ووضع حلول لها.

٦ الفلسفة:
المنطق: علم المنطق لوضع الحجج التي تدعم ما يدعو له البرلمانيون كما يفيد في تفنيد دعاوي الآخرين او دعمها.
القيم الاخلاق: فهمها مهم لاتخاذ القرارات، فهناك كثير من الحلول الحيدة ولكنها ليست أخلاقيا . الاتفاق على معايير اخلاقية مهم للعمل الجماعي داخل البرلمان

٧ علم النفس وعلم النفس الاجتماعي
يعمل العضو البرلماني اساسا لحلحلة قضايا المجتمع وهذا الاخير مكون من افراد. فهم ما يدور داخل نفوس الناس وما يؤثر فيها وطريقة تفاعلهم مع مجتمعاتهم تمثل معرفة اساسية للعضو البرلماني ، ليس فقط لفهم المشاكل، ولكن أيضا لوضع حلول لا تكون لها اثار جانبية غير مدروسة.

٨التاريخ
معرفة التاريخ تورث الحكمة. وقد درج الملوك على تعليم أولادهم التاريخ ليكتسبوا حكمة تؤهلهم لتولي الملك.

٩ الاقتصاد
معرفة مبادئ الاقتصاد، مثل الناتج القومي المحلي وكيفية حسابه، التضخم والعوامل التي تأثر فيه لها دور بالغ في مساعدة اعضاء البرلمان من متابعة النقاشات الاقتصادية. كما ان الاقتصاد يؤثر في كل مفاصل الدولة، وفهم الادء الكلي للدولة مهم لتحديد الاولويات وسهولة التوافق حولها.

الخاتمة:
بعد عقود من سوء الإدارة أورثتنا الحروب والكوارث ، انتهى بنا الحال لدولة منهارة في كل نواحيها ومفاصلها. الإصلاح يجب أن يوجه لكل تلك المفاصل. هذه الورقة تعالج جزء من الإصلاح السياسي وهو إصلاح العضو البرلماني. تفترض هذه الورقة أن إصلاح العضو البرلمان سيكون له عائد مهم في تحسين الأداء البرلماني وبالتالي ترسيخ واستدامة الديمقراطية. كما أن بدء عملية الإصلاح من قمة هرم الدولة سيؤدي الى تقبل المفاصل الأدنى في الدولة للإصلاح بداخلها. يرتكز إصلاح العضو البرلماني على توفير معارف محددة تساعد على اداء المهام المنوطة بالعضو.
هذه مجرد مقترحات خاضعة للتنقيح، والتعديل والنقد.

ملحوظة : استخدام كلمة برلمان هو استعمال اعتباطي. المقصود بالبرلمان هو الجهة التي تصدر التشريعات بغض النظر عن اسمها الذي سيعتمد في المستقبل .

قضايا للنقاش :
١ هل تؤيد وجود مقرر إجباري للسياسي حال انتخابه لمنصب سياسي؟ .
٢ إذا كانت الإجابة “لا”، ما هي الوسائل الأخرى التي تضمن تأهيل السياسي بصورة تجعله/تجعلها قادراً/قادرة على أداء المهام المنوطة به/بها؟
٣ إذا كانت الإجابة “نعم”، ما هي المعارف الضرورية السياسي ؟ .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *