من مسمار يدق في نعش المفاوضات العبثية من أوسلو*..إلى الدوحة..؟!
أمد/ “أقفلوا دَمَ الشهداء..لافتتاح الحوار../فلسطين لا تغلق الدَّمَ..مهما ضاعت الأدلة /تبقى تحقّق مهما يطول الحصار/تبقى تفتّش في شركات الدّماء/وتربط بين سماسرة دوليين جدّا/وبين الطغاة الكبار..”(مظفر النواب بتصرف).
في التاسع والعشرين من ايلول/سبتمبر 2000 كان الزلزال الشعبي الهادر صدمة كهربائية قلبت موائد اللعب رأسا على عقب،فقد اشتعل لهيب الانتفاضة وتأجّج كما قرّر الشارع العربي وبعد بدء الحريق بقليل، وفي لحظة مشرقة من التاريخ، قلّما تجود بها الأقدار، اتخذ قرار مغاير لحسابات واشنطن وتل أبيب وعواصم الدول الغربية، وبفطرة سياسية لا مثيل لها أعلن رفض الهزيمة.. رفض الصلف الإسرائيلي بكل تمظهراته المخاتلة وأشكاله المخزية، وبدأ تبعا لذلك العقل الجمعي للشعب الفلسطيني يرى في الانتفاضة رمزا نضاليا لهذا الرّفض، وتحرّك بشكل مباغت ليجسّد هذا الرّمز، وبذلك تجلّى الصّراع حاسما بين نقيضين: الانتفاضة الشاملة من جهة والعربدة الإسرائيلية من جهة أخرى، وكان خط الدفاع الأول، العقل العربي جاهزا للدّفاع عن قومية التراب العربي والوجدان الديني معا، كان الفكر حاضرا والضمير أيضا،وكان شعب برمته على استعداد للشهادة من أجل ما يعتقد أنّه الحق.
إنّ ما وقع في التاسع والعشرين من سبتمبر 2000 هو حصاد تراكمات نضال الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية طيلة سنوات طوال،وهو كذلك نقطة لقاء الغضب الشعبي المتصاعد، وثأر الفصائل الفلسطينية لشرفها الكفاحي، وهو أيضا تأكيد الشارع العربي على ارتباطه العضوي بطموحات الشعب الفلسطيني المشروعة في الاستقلال والتحرر والانعتاق.
إن ما وقع في التاسع والعشرين من سبتمبرالمجيدهو تجسيد راق لأسمى أشكال الصمود في وجه الطغاة،وهو إصرار إنساني شامل ترجمه الشعب الفلسطيني والأمة العربية للعالم،وهو أن المساس بمقدسات الأمة وأهدافها الوطنية النبيلة أمر يهون دونه الموت،وأن الحسابات الوهمية التي يخطط لها الأجنبي في عدائه لأمتنا وحضارتنا، مصيرها الزوال،وأن كذلك معانقة الموت بروح استشهادية عالية سوف تستمر حتى لو لم يبق في الأرض الفلسطينية غير شجرة زيتون واحدة، ترنو بعنفوان إلى الآتي الجليل..
نقول هذا اليوم وبعد مرور سنوات طوال على انتفاضة الأقصى،لأنّ بعضنا مازال يزخرف استراتيجية السلام،زخرفة ميتافيزيقية ويؤسس لسلام لا وجود له في عقلية جُبلت على إراقة الدم والتخريب.
فالمفاوضات العبثية التي انطلقت من أوسلو وحطّت في شرم الشيخ،ثم عادت لاهثة إلى طابا واستراحت قليلا في “أنابوليس”ما فتئت تترنح وتلامس مهاوي الضياع.
وفي المقابل مازال الجميع يتجاهلون حقيقة أن القانون الدولي يكفل لأهل البلاد الواقعة تحت احتلال عسكري حق المقاومة والدفاع عن أنفسهم بشتى الطرق الممكنة.
والسؤال: لمَ لا نحتكم للسلاح؟ ولمَ الاتكاء على ركيزة الرأي العام العالمي وهو الذي وقف منذ 48 إلى جانب إقامة دولة يهودية في فلسطين،ومازال يعادي ضمنيا الطموحات العربية لاسترداد فلسطين أو قبول التقسيم او إقامة دولة فلسطينية في القطاع (غزة) و(الضفة الغربية لنهر الأردن) تبعا لبعض التنازلات العربية؟
وفي الأخير لماذا نمضي من دون وعي منا في طريق مسدود ونتغافل عن حقيقة عارية،وهي أن إسرائيل قد ضربت عرض الحائط بكل عملية السلام وبكل الاتفاقات،وظلت تناور بأسلوب مخاتل بين التفاوض الماراثوني داخل الغرف المغلقة،وتأجيج الصراع على الميدان،من دون أن يتورع قتلتها المحترفون عن التمثيل بجثث الشهداء والتنكيل بالأحياء منهم،مثلما حصل أخيرا في محرقة غزة.
إن العبارات التي تضمنها القاموس “التفاوضي”وهي من قبيل العودة إلى طاولة المفاوضات، أو “الجانبان يتفاوضان” أو”أنتَ شريك في عملية السلام” لم تعد أجراسها الموسيقية تستساغ من قِبل الأذن العربية،وغدت نشازا يتماهى مع الأزمة،من دون حلحلتها وفقا لمقاييس الشرعية الدولية.
ومن هنا نتساءل : هل انخدع العالم إلى حد بدأ يرى في خطاب السلام بمنظوره الإسرائيلي السقيم خلاصا للفلسطينيين، ونفيا لاحتلال عمره أكثر من نصف قرن؟..
إن كان ذلك كذلك،فلماذا أصبحت الظروف المأساوية الفلسطينية،وفقدان بهجة الحياة،أكثر سوءا مما كانت عليه قبل توقيع اتفاقيات أوسلو في سبتمبر93؟ ولماذا تضاعف عدد القوات والمستوطنات الإسرائيلية وازداد أيضا عدد الفلسطينيين (حسب تقديرات البنك الدولي) الذين هم دون مستوى خط الفقر في غزة إلى 50 بالمئة،إلى حد الآن نصف سكان قطاع غزة البالغ عددهم 1.1 مليون نسمة يعيشون على أقل من دولارين في اليوم،علاوة على سياسة الإغلاق والحصار التي تسبّبت في منع آلاف الفلسطينيين من العمل؟
كيف يمكن لشعب يتعرض للتطويق والحصار والطرق المسدودة بالمتاريس أن يتحمّل وزر الحياة ويرى في المفاوضات طريق الخلاص؟..
ألم يتأجج سعار المستوطنين الإسرائيليين مما جعل بعضهم يتصرف بأسلوب دموي إلى درجة ترويع قرى بأكملها ومدن كبيرة في حجم الخليل؟
ألم تتوقف حركة البضائع من وإلى الأرض المحتلة،علما أن حجم التبادل التجاري مع إسرائيل،وطبقا لمكتب التنسيق الخاص التابع لهيئة الأمم المتحدة في الأراضي المحتلة،يبلغ 79.8 من مجموع التجارة الفلسطينية، ومع الأردن وهي الثانية من حيث حجم التبادل التجاري بعد إسرائيل يبلغ 2.39 فقط من مجموع حجم التجارة الفلسطينية، وصغر هذا الحجم يرجع بالأساس إلى الرقابة الإسرائيلية المفروضة على الحدود الفلسطينية الأردنية (بالإضافة إلى الحدود السورية واللبنانية والمصرية).
فهل سيكتفي الشعب الفلسطينيوهذه حالهبفتات الموائد بدل ثورة الرغيف المرعبة؟..
ألم تزعم الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من باراك وصولا إلى نتنياهو مرورا بأولمرت أنها تناصر السلام (وفقا لمزاجها المريض) فلماذا ضاعفت من معدل بناء المستوطنات الإسرائيلية، بما حدا بها إلى مصادرة الملكيات وشق الطرق،علاوة على تجريف الأرض الفلسطينية واكتساح بساتين الزيتون ومزارع الخضر،عبر الحرق والاقتلاع بغرض توطين قطعان المستوطنين وفرضهم تحت تهديد السلاح على أهل الأرض.
ألم نعد جميعا في مأزق تاريخي قد تلعننا بسببه الأجيال الآتية ما لم نسترد حقنا بذات القوة التي أُغتصِب بها؟
إن “مفاوضات السلام” أخذت من الوقت أكثر مما ينبغي ولا حل نهائيا في الأفق لمأساة شعب يرزح تحت نير الاحتلال وتتجاوز معاناته حدود الصبر والتحمّل. فإسرائيل التي ما فتئت تجرد الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة،لا ترغب في حل شامل لاحتلال بغيض دام أكثر من نصف قرن تُسترَدّ بموجبه كامل الأراضي المحتلة،وتتجسد من خلاله السيادة الفلسطينية ويُطبق تبعا له حل لمشكلة اللاجئين،وتصبح بمقتضاه القدس الشرقية عاصمة لفلسطين المستقلة.(1)
ولذا فإن تحقيق هذه المكاسب في ظل الصلف الإسرائيلي هو ضرب من المستحيل،وما على الفلسطينيين إلا أن يفتحوا عيونهم على الواقع بكل تداعياته الدراماتيكية ليصوغوه في شكل مبدأ لا يعترف بغير المقاومة طريقا وحيدا للاستقلال،كما عليهم أن يدركوا أن حكام إسرائيل لا يرومون من وراء المفاوضات إلا حلا عاجلا لقضايا حرجة تتكيف نتائجه وفقا لمصلحة تل أبيب.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع : هل سيغير نتنياهو( 2) ”جلده” ويهرولسريعانحو مفاوضات “جديّة”مع الفلسطينيين.. واللبنانيين ؟!
بإمكانك أيّها القارئ الكريمأن تصوغ الجواب المناسب..
*في يوم 13 سبتمبر/أيلول 1993،وقّع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيضبواشنطن اتفاق تشكيل “سلطة حكم ذاتي فلسطيني انتقالي” يعرف بـ”اتفاق أوسلو” الذي مهد لمرحلة جديدة من تاريخ القضية الفلسطينية.
1)إن إنهاء الانقسام وإعادة الوحدة وبناء منظمة التحرير وفق إعلان القاهرة 2005 والالتزام بوثيقة الأسرى،وصون الحريات العامة وكرامة المواطن،والتمسك بحق الكفاح والمقاومة،هي البدائل المثلى عن استمرارية المفاوضات العبثية.
2) المتعجرف نتنياهو يستخدم المفاوضات لإضاعة الوقت وتنفيذ مخططاتها بتهويد القدس ومواصلة الاستيطان وفرض سياسة الأمر الواقع على قطاع غزة.