اخبار السودان

الصعود من بين أنقاض عالم متعدد الأقطاب السودانية , اخبار السودان

 

الصعود من بين أنقاض عالم متعدد الأقطاب

ناصر السيد النور

يشار إلى المنظر الاستراتيجي والفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين إعلامياً، في العادة، بصفته عقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومدبر مخططات الدولة الروسية في نسختها البوتينية، نظراً لما يشغله من حيزٍ واسعٍ في الاعلام والسياسة الدولية والسجالات الفكرية في قضايا الحرب والاستراتيجية الروسية. وقد تصاعد هذا الدور في الحرب التي شنتها روسيا ضد أوكرانيا في شتاء 2021، بما أظهر من آراء بدت متطرفة تمثل خط القوميين الروس، وتسعى إلى إعادة روسيا إلى المشهد العالمي كدولة مهمة تناهض النظام العالمي بصيغته الغربية. والرجل لا يكتفي بدوره كمفكر الظَّل للدولة الروسية، ولكن من موقعه الاكاديمي كأستاذ للعلاقات الدولية ولكتاباته وكتبه في النظرية السياسية (النظرية السياسية الرابعة) والاستراتيجية والجيوبوليتكا (أسس الجغرافيا السياسية: المستقبل الجيوسياسي لروسيا) والفلسفة (مارتن هيدغر، فلسفة بداية أخرى) وكتابه (نظرية عالم متعدد الأقطاب)، وغيرها من مؤلفات كلها تدور حول إثبات أنَّ ثمة حضارات ونظم سياسية غير تلك التي تسود العالم من ديمقراطية الغرب وأنماطها الثقافية في السياسة الليبرالية، وبتركيز أكثر على دحض نظرية صدام الحضارات لصموئيل هنتنغتون، ونهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، وما مثلته أطروحاتهما التي تعكس الهيمنة والسيادة العالمية للحضارة الغربية، وموقع روسيا كقوة تبحث عن موقعٍ على أسس استراتيجية كما ينظر لها في مفهوم الأوراسيا الجديدة.

مفسراً العالم وحضاراته التأريخية ونظمه السياسية بناءً على تصورات نظرياته وقراءاته من منظور الجيوبولتيكيا لروسيا (أوراسيا) لإمكانية قيام عالم تتعدد أقطابه (Multipolarism) السياسية والاقتصادية على أسس التنوع، يقدم دوغين تصوراً لعالم متعدد الأقطاب يكون محوره قارات وحضارات وثقافات ودول تقع خارج منظومة النطاق الغربي، تمثل برأيه تكتلات حضارية واقتصادية صاعدة كالصين والهند والبرازيل. ويطَّوف دعماً لنظريته حول مفهوم التاريخ والحضارة والعلاقات الدولية بمرجعيات وأبحاث غربية في الأساس على نحو ما تأسست في منشئها الغربي في حزمة العلوم السياسية والفلسفية وعلوم الاجتماع والتاريخ. وبهذا التداخل المنهجي الكثيف المتباين في مساراته النظرية والتطبيقية، يطرح دوغين نظرياته في تعدد الأقطاب كما لو كانت طريقاً للشعوب للخلاص مما يسميه بالهيمنة الحضارية الغربية، مستشهداً بالتناقضات وربما الاختلافات ببعدها الإنساني في الثقافات والحضارات البشرية في قدرتها على بناء عالم يخصَّها بعيداً عن الهيمنة الغربية؛ وهي هيمنة بالمعايير العالمية لا تعني غير الديمقراطية وحقوق الإنسان والنظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي والمؤسسات الدولية المهيمن عليها من قبل الدول الغربية. بمعنى من القول التخلي عن منجزات الحضارة الإنسانية، واستبدالها بقيِّم ينافح عنها دوغين ممثلة في قيم الديانات الأرثوذكسية والبوذية والإسلام، وكل ما يدخل في تعريفات من منظور الثقافة الأنثروبولوجية في العالم خارج نطاق نيوتن، كما أطلق عليها منظر السياسة والدبلوماسي الأميركي هنري كيسنجر. وتشكل بدورها تمييزاً لها عن العالم الأوروبي كما يروج لها في القرون الثلاث الأخيرة من عمر الحضارة الإنسانية.

هذه المقاربات النظرية بدت وكأنها محاولة أخرى لاستعادة أو استمرار لجزء من تاريخ العالم في فترة الحرب الباردة، حيث سادت ثنائية قطبية إحداها مثلتها روسيا الاتحاد السوفييتي السابق، وما مثله من قوة مناوئة للغرب ومشروعه الاستعماري. وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية لخلَّل بنيوي لم تستجب فيها العقيدة الاشتراكية التي منحت نسخة تبشيرية عالمية، تشكل النظام العالمي بقطبية أحادية (الغرب والولايات المتحدة الأميركية). فإذا كانت روسيا قد عادت بعد مرحلة الاتحاد السوفيتي مفككة الأوصال إلى مواجهة استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو عسكرياً، يضع دوغين رؤية تعبر عن شكل هذه المواجهة، أو ما يطلق عليها الإمبراطورية الأميركية وموقف روسيا إما أن تكون السيادة الروسية، وأو الإمبراطورية العالمية، وهو دور يصعب على الطرفين القيام به لعدم الحاجة إليه. فمفهوم مشروع الإمبراطورية لا يفهم منه في سياقه الروسي إلا تعبيراً عن “أوراسيا” كنتيجة تأريخية حتمية للوجود الروسي، إلا أن الموقع الجيوبولتيكي وحده لا يحدد وحده مواقع القوة في موازين القوة والنظام العالمي. وينطبق الأمر على مشروع القرن الأميركي الذي بشر به الليبراليون الجديد وبدا تطبيقه عملياً بعيد المنال.

 

 

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *