ورحل أنور جسام !!!
سيف الدين خواجة
حين جلس إلينا المهندس عطا السيد عبد الواحد عضو مجلس إدارة نادي الهلال ، يومذاك بهدوئه المعروف ، وصوته الرخيم ، وشخصيته الجذابة ، بالوقار ، والهيبة ، قال : ذهبت للعراق مفوضا من المجلس لاختيار من يقود دفة العمل بالنادي ، حيث قابلت لجنة التدريب بالاتحاد العراقي ، الذين استقبلوني بحفاوة ، وترحاب ، وتقدير، وقدموا لي كل مساعدة ممكنة وقابلت العديد من المدربين بخبرات وشهادات موثقة حتى الدكتوراة ، وحقيقة كانوا صرحاء معي ، وكلهم بصوت واحد : ينفع معكم مدرب واحد معتكف في بيته لأنه مغاضب للاتحاد ، فذهبت إليه في منزله ، فاستقبلنا بحفاوة ، وترحاب ، ووجدت نفسي أمام رجل خبير ، وواضح ، وصريح من الذين لا تتعب معهم من شدة وضوحه ، وجديته التي تبدو في وجهه بصرامة هادئة ، ووقورة ، لذلك كان من السهل التعامل معه ، والاتفاق بأعجل مما يتصور أي إنسان ، وجاء لتدريب الهلال.
حديثنا عن المدرب القدير العراقي أنور جسام الذي رحل منذ أيام رحمه الله رحمة واسعة ، وغفر له على ما قدم من عمل بكل تقدير ، واحترام رجل عمل في صمت ، ووقار ، وهدوء ، لم يؤثر عنه أي مخاشنة مع أي طرف في الرياضة في السودان عامة ، وبالهلال خاصة ، كان قمة في الانضباط الأخلاقي ، والسلوكي ، واحتفظ بأسرار عمله في الهلال ، ولم يتكلم كثيرا ، وكان حديثه دائما مقتضبا ، لكنه مفيد جدا لصراحنه ، وأنه يضع النقاط علي الحروف مباشرة دون لف أو دوران !!!
أتيح لي اللقاء به عندما جاء مع الهلال للدوحة بمناسبة تكريم نجم الكرة القطرية ونادي السد بدر بلال مطلع التسعينات ، وجلست شخصيا إليه في لحظات كثيرة ، كان ودودا لطيفا ، يتكلم بهدوء واستحياء عقلاني ، فقال لي :ـ “مشكلة الرياضة عندكم كلها ، وخاصة كرة القدم ، أنكم لا تتبعون نظام المراحل السنية ، حيث ما عادت الرياضة موهبة ، ومراوغة ، وباصات بالذات كرة القدم ، والتي صارت خططا ومهاما وواجبات ، لذلك بالمنظومة الحالية لن تحققوا أي إنجاز في قرن كامل إلا صدفة ، والصدفة لا تتكرر كثيرا”، ويبدو كلامه سليما حتى الآن فيما حققنا من إنجاز خارجي!!! .
وقال لي: “اللاعب السوداني موهوب جدا ، وذكي جدا ، لكن يعيق تطوره عدم اتباع نظام المراحل السنية ، لذلك الللاعب لا يستوعب الخطط ، ولا يجيد تطبيقها ، بل بعد عشرة دقائق ينسى المهام ، والواجبات ، لأنه أساسا ، لم يتعلم عليها !!!” .
واصل حديثه في ردهة الفندق معي قائلا: “لذلك السبب أيضا يتم تسجيل اللاعبين بمقاييس متخلفة من ناحية ، ويكون سنه أكبر من التعلم والتدرج ، مما يصعب مهمة تعليمه ، لذلك تحتاج كمدرب أن تكون واقفا طيلة زمن المباراة، لتذكر اللاعبين بالمهام والواجبات !!!”.
وأخذنا الحديث لزاوية مهمة أخرى ، فقد قال لي : “لديكم مشكلة أخرى ، فإعلامكم يكتب للسوق ، وليس للمهنية لذلك لا يفيد اللاعبين ، ولا يقدم أي فائدة للرياضة ، بل يكون سببا في غرور اللاعبين ، مما ينعكس سلبا عليهم إضافة إلى أنه يشحن الجماهير بالجهل ، والعاطفة ، كأنها حرب ، مما يفقد الجماهير وعيها ، لذلك جماهيركم لا تعرف التشجيع المستمر ، بل تسكت عندما يسيطر الفريق الآخر ، وهذا شيء طبيعي أثناء المباراة ، وكثيرا ما تنتقد الجماهير ، وتسئ للاعبين ، وتصرخ تجاه المدرب : اخرج فلان ، وأدخل فلان ، وهذا يحدث ربكة لللاعبين ، والجهاز الفني علي حد سواء” .
بالمناسبة كلام أنور جسام قاله قبل ذلك أكثر من مدرب ، خاصة الشيكي الراحل استاروستا ، وقال يومها بعربي جوبا : “جمهور صفقة بس ، مين يدخل مين يخرج نحن نعرف!!!” .
أعود لكلام أنور جسام في أمسية قطرية لطيفة في التسعينات البعيدة الجميلة : “حتي في المباريات الودية ، إعلامكم يكتب بطريقة السوق ، وذكر أنه استضاف فريق سان جورج الإثيوبي ، وفزنا في الشوط بهدفين، وفي الشوط غيرت الخطة لاختبار الدفاع ، وحراسة المرمي حتي يكونوا تحت ضغط مستمر، لأعرف مدى القوة، والضعف ، وهل يرتكبون أخطاء كإحراز أهداف في أنفسهم ، أو ارتكاب ضربات جزاء ، وانتهت المباراة بالهدفين ، وفوجئت بالإعلام يهاجمني في اليوم التالي ، بحجة أن الهلال أضاع فوزا ، وأسأل بدوري : ماذا أستفيد من الفوز الكبير في المباريات الودية ، فلا قيمة لهذا الأمر للمدرب واللاعبين ، ولو لا الحاجة للدخل لمنعت دخول الجماهير، ومثل إعلامكم هذا لو كان عندنا في بغداد لتم تعليقهم في الشوارع ، فهم يتحدثون عن مباراة كرة القدم كأنها حرب وطنية !!!” .
لقد أشاد أنور جسام في حديثنا ذاك بطه علي البشير ، وإداريي الهلال إجمالا ، وأخلاق وسلوك اللاعبين ، آملا أيضا لو يتحسن مستوى تعليم اللاعبين ، وتأهيلهم ، لقد بدا واضحا أن السودان ترك بصمته في نفس الرجل ، وأنه أحب الهلال والسودان وجمهوره.
رحم الله المدرب العراقي القدير أنور جسام على ما قدم من عمل وسيرة ومسيرة طيبة ، فقد خلق علاقات ودية مع الناس كافة ، وخاصة إداريي وأقطاب الهلال ، وكنوع من الوفاء لهذا الرجل أتمنى من مجلس الهلال وخاصة أخونا المهندس العليقي الاتصال بأسرته ، وأداء واجب العزاء ، والاطمئنان على أحوال أسرته بعد رحيله ، وأتمنى من الرجل النبيل الحكيم طه علي البشير أن يقوم باللازم مع أسرته ، إن لم يكن قد قام به فعلا ، لأنه أهل لذلك ، ولما بينهما من علاقة ظل يشيد دائما ، وبطه كثيرا بأدب واحترام وحب متبادل بينهما.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة