سلاح القناصة أداة الموت الخفية في حرب السودان
منذ الأشهر الأولى لاندلاع الحرب المستمرة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي، لعب سلاح القناصين دوراً واضحاً في المعارك الميدانية وأسلوب القتال بين الطرفين. لكن استخدام هذا السلاح برز وتطور بشكل أوسع في ظل التطورات الميدانية بحيث بات واضحاً اعتماد الطرفين عليه بشكل كبير مع دخول الحرب مرحلة جديدة من حرب المدن والشوارع والمطاردات وسط الأحياء السكنية. فكيف كان دور القناصة وأثرهم في سير المعارك؟
حملة القنص
على رغم بروز دور سلاح القناصة ضمن أساليب القتال بين طرفي الحرب في وقت مبكر، لكن بحسب مراقبين، الآونة الأخيرة من الحرب شهدت تحولاً ملحوظاً في نوع وطبيعة العمليات الحربية وطريقة القتال، بخاصة بعد انفتاح الجيش منذ أواخر الشهر الماضي وانتقاله من حالة الدفاع إلى الهجوم وعبوره كباري العاصمة الثلاثة باتجاه قلب الخرطوم.
يشير مراقبون إلى حملة القنص الكبيرة التي تعرضت لها قوات الجيش التي نفذت عملية عبور كبري أم درمان والخرطوم، وأدت إلى خسارته عشرات الضباط والجنود من الكتائب المتقدمة في العملية، بسبب الانتشار الكبير لقناصي “الدعم السريع” على الضفة المقابلة من النهر.
على رغم تمكن الجيش من الحد من هجمة القناصين عبر القوات الخاصة التي تمكنت من عبور النيل الأبيض أسفل الكبري وتطويقها لعدد من المباني التي يتحصن فيها القناصون بمنطقة المقرن غرب الخرطوم، واستهدافهم بالقصف الجوي والمدفعي وبالطائرات المسيرة، لكن المعارك الشرسة لا تزال تدور تحت نيران من تبقى من القناصة بإصرار من الجيش على التقدم نحو القصر الجمهوري الرئاسي وسط الخرطوم، وإكمال حلقات هجومه بالالتقاء مع قوات القيادة العامة شرق الخرطوم، مستخدمة “عمليات مداهمات جريئة عبر قوات العمل الخاص”، وفق المراقبين.
حصار ودمار
في السياق، يوضح المراقب والمحلل العسكري، ضو البيت الدسوقي، أن استخدام سلاح القناصة غالباً ما يندرج تحت مظلة العمليات النوعية الخاصة، ويهدف إلى إحداث أضرار وخسائر بشرية ومعنوية كبيرة بالطرف الآخر من خلال مجموعة صغيرة من القناصين قد لا يتعدى عددهم ثلاثة أفراد، كما يستخدم القناصة أيضاً في إغلاق مناطق محددة وحصارها بشل قدرة العدو على الحركة داخلها، وكثيراً ما يكون ضمن خيارات التعامل مع القناصين، تدمير المواقع والمباني التي يتمركزون فيها.
يلاحظ الدسوقي أنه مع خفوت المواجهات المباشرة تنشط حرب الشوارع والتربص والقنص كسمة من سمات حرب المدن، لافتاً إلى أن سلاح القناصة دائماً ما يكون فعالاً بالنسبة للطرف (المرتكز) أي في وضعية الدفاع الذي يسيطر على المكان وتفاصيل الحركة وزوايا الرؤية من المناطق العالية المنفتحة على مسرح تحرك “العدو”.
وتابع “تجسد ذلك الوضع في هذه الحرب بكل المناطق التي تمكنت قوات ‘الدعم السريع‘ من الوصول إليها ونشر قناصتها فيها مبكراً، ما مكنها من إحكام حصارها بالتحكم في مداخلها ومخارجها عبر بنادقها الخفية المترصدة، وتسبب ذلك في إطالة فترة الحصار على عدد من حاميات الجيش العسكرية بالخرطوم وبعض الأحياء والمناطق الأخرى”.
تدريب متقدم
ويبين المراقب العسكري أن الانتشار الكبير للقناصة صعَّب كثيراً من تحركات قوات الجيش، لفك الحصار على سلاح المهندسين بأم درمان حيث كان قناصو “الدعم السريع” يطوقون محيط المنطقة العسكرية غرب أم درمان، وكذلك الأمر في محيط سلاح المدرعات ومنطقة الشجرة العسكرية حيث سلاح المدرعات وسلاح الذخيرة جنوب الخرطوم والقيادة العامة للجيش شرق الخرطوم.
كذلك شكل القناصة خطراً كبيراً داخل أحياء العباسية وعلى امتداد الطريق من وسط أم درمان إلى سلاح المهندسين مروراً بحي الدوحة المواجه لمحلية أم بدة، مما يشير وفق الدسوقي، إلى أن قوات “الدعم السريع” لديها “فرق قنص جيدة التدريب تكاد تضاهي قدرات الفرق الخاصة بالجيش”.
يوضح المراقب العسكري أن قوات الجيش تمكنت من جانبها وبفضل فرق القناصة وقوات العمل الخاص من تثبيت تقدمها في عمق مدينة أم درمان القديمة وأحياء أبو روف ودنوباوي، ولعبت تلك الفرق دوراً هاماً وكبيراً في تحييد معظم قناصة “الدعم السريع” في كل من محيط القيادة والمدرعات، وكان لقناصة الجيش السوداني من فرقة العمل الخاص كتيبة متقدمة بمهام محددة لإحداث خسائر كبيرة.
عقبة الخرطوم
على الصعيد نفسه يعتبر المراقب العسكري، الرئد محمد مقلد، أن مجموعات القنص التي يتم تشكيلها في الوحدات العسكرية دائماً ما تكون ذات قدرات وتأهيل عاليين في استخدام أسلحة نوعية وبتقنية عالية تكون قادرة على تنفيذ مهام خاصة وتحدث أثراً مباشراً في العدو بخاصة في ما يتعلق بخفض وتحطيم روحه المعنوية.
ويرى مقلد أن الاحترافية في اختيار المباني والسواتر والموانع التي يتخذها القناص تعتبر عاملاً مهماً في تنفيذ ما هو مطلوب منه لتحقيق أكبر قدر من الخسائر في صفوف العدو.
ويضيف “لعب القناصون دوراً كبيراً في معارك الخرطوم وبصفة خاصة من جانب ‘الدعم السريع‘ التي نشرت مجموعات كبيرة من القناصين داخل المباني والأحياء السكنية على رقعة جغرافية واسعة بالعاصمة، تمكنت خلالها من إبطاء تقدم الجيش ومنعته من تحقيق هدفه المعلن في تطهير العاصمة أو تحقيق أي تقدم ملموس في هذا الجانب”.
القوة المميتة
ويردف “لكن للأسف مع إعاقة القناصين تقدم وانتشار قوات الجيش دفع به إلى استخدام أكبر قدر من القوة المميتة عبر القصف الجوي والمدفعي الثقيل المكثف في مناطق ذات كثافة سكانية عالية، مما تسبب في تدمير كبير للبنية التحتية بالعاصمة في ما يشبه سياسة (الأرض المحروقة)، وهو ما أدى أيضاً إلى خسائر بشرية عالية في صفوف المدنيين وعمليات نزوح قسري من تلك المناطق حفاظاً على سلامتهم وأرواحهم”.
على نحو متصل يرى الباحث في الشؤون السياسية والأمنية، إسماعيل يوسف، أن مشكلة فرق قناصة “الدعم السريع” لا تزال تمثل العقبة الأكبر أمام سرعة تقدم الجيش وسط الخرطوم منذ عبور قواته جسري أم درمان والفتيحاب نحو الخرطوم بحري والخرطوم، ما جعل تقدمه من الجهة الغربية للمدينة نحو أهدافه في قلبها وشرقها يتم بوتيرة بطيئة جداً.
يستطرد “في مواجهة الانتشار الكثيف لقناصة ‘الدعم السريع‘، لم يتبق أمام قوات الجيش سوى التعامل مع هذا الوضع العسكري المعقد، إما بتسلل فرق من الكوماندوس وتنفيذ مداهمات مباشرة لمواقع القناصين والقنص المضاد، أو بفرض حصار على مواقعهم في المباني التي يتمركزون فيها وإغلاق محيطها بشكل تام حتى استسلامهم، ويبقى الحل الأخير باستهداف المبنى كاملاً على رؤوس القناصين باستخدام سلاحي المدفعية أو الطيران، على رغم كل ما يتبعه من دمار”.
قناصو الفاشر
وكشف يوسف أن قناصي “الدعم السريع” ما زالوا ينتشرون بشرق مدينة الفاشر في شمال دارفور حيث كانت معسكراتهم السابقة، وهم يمثلون أيضاً إحدى المعضلات العسكرية وجزءاً من عرقلة تقدم الجيش والقوات المشتركة لتأمين مدينة الفاشر، فضلاً عن تزايد ضحاياهم من المدنيين والعسكريين سواء بالقنص أو القصف العشوائي على أحياء المدينة.
ويرى الباحث أنه على رغم إظهار قوات “الدعم السريع” كفاءة واضحة في التصويب، لكن كان لاستخدام الجيش القنص عبر الطائرات المسيرة من طراز متقدم، أثر كبير في استهداف تجمعات قوات “الدعم السريع”، في وقت اعتمد الأخير على المسيرات الانتحارية من الأجيال القديمة التي لا تمتلك قدرة الرصد والتتبع والقصف.
على عكس ما يحدث في الخرطوم التي يتميز نمطها العمراني بالانتشار الكبير للأبراج والعمارات المرتفعة والعالية التي اتخذت مخابئ لقناصة “الدعم السريع” المسلحين ببنادق قنص متطورة فائقة البعد في مداها، يلاحظ يوسف، التقدم السريع الذي تحققه قوات الجيش في المناطق التي يقل فيها وجود فرق القنص التابعة لـ”الدعم السريع” في الأحياء الشعبية بمحلية أم بدة جنوب أم درمان، حيث تقل المباني المرتفعة.
جبل موية
ويشير الباحث إلى أن قناصي “الدعم السريع” شكلوا أكبر المعضلات التي تسببت في تأخير عملية تحرير منطقة جبل موية وأطالت كثيراً من أمدها، حيث كانوا يتمترسون على قمم سلسلة جبل موية باستخدام بنادق قنص صربية المنشأ من طراز (أم 93) يصل مداها إلى نحو 1800 متر تقريباً.
وتابع “لقد منح هذا الوضع قناصة ‘الدعم السريع‘ تفوقاً استراتيجياً من حيث مدى اتساع مدى الرؤية ومراقبة وكشف ورصد كل التحركات والأهداف في محيط وأسفل الجبل، بالتالي السيطرة على مدى يقارب كيلومترين، إضافة إلى ما يوفره الارتفاع والموقع المرتفع من ميزة الاختباء والتمويه وصعوبة اكتشاف مكان القناص”.
وكانت مصادر عسكرية قد أكدت في وقت سابق إلقاء السلطات الأمنية والاستخبارية لعدد من القناصة الأجانب كانوا يعملون ضمن منظومة قوات “الدعم السريع”.
وكشف المصدر عن توقيف أربعة قناصة أجانب بمحيط السوق العربي فيما سلم قناص من دولة مجاورة نفسه للسلطات لسلاح عسكري بالخرطوم.
وشارك عدد من الأجانب وفق ضبطيات ووقائع رسمية ضمن قوات التمرد في الهجوم على عدد من المواقع بالخرطوم إلى جانب تورطهم في عمليات سلب ونهب في حق المواطن السوداني.
مهام خاصة
ويمتلك الجيش السوداني وحدة قناصة تنضوي تحت لواء العمليات الخاصة وتضم مئات الضباط وضباط الصف والجنود، لكن واقع العلميات الميدانية كشف أن قوات “الدعم السريع” تمتلك أيضاً عدداً كبيراً جداً من القناصة وربما استعان بعدد من الأجانب في هذا التخصص.
وتعتبر فرقة القوات الخاصة (العمل الخاص) من الفرق الضاربة ذات التدريب القتالي المتقدم والبنية الجسمانية والذهنية القوية واللياقة البدنية العالية، وهي كتيبة متقدمة غالباً ما يتم تكليفها بمهام حربية دقيقة وخاصة شديدة الخطورة وصعبة تتطلب كفاءة قتالية عالية، كالتسلل خلف خطوط العدو لتدمير أهداف هامة وحيوية محددة أو استهداف قيادات العدو.
وتستخدم قوات العمل الخاص التابعة للجيش أنواعاً عدة من بنادق القنص، وهي الأسلحة نفسها التي تستعملها قوات “الدعم السريع” وعلى رأسها بندقية (أم 16) الأميركية الصنع، المزودة بمنظار دقيق لرصد الهدف، كما تستخدم أيضاً بندقية G3 ألمانية الصنع، بجانب أنواع أخرى من بنادق القنص الروسية الصنع التي ظهرت في أحدث تدريبات قامت بها قوات العمل الخاص.
ومنذ إعلان الجيش هجومه الشامل متعدد المحاور وعبور أهم ثلاثة جسور بولاية الخرطوم من مدينة أم درمان نحو الخرطوم بحري والخرطوم، فجر الـ25 من سبتمبر (أيلول) الماضي، انتقل للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب قبل 18 شهراً من حالة الدفاع إلى الهجوم، بينما تكثف قوات “الدعم السريع” استخدام سلاح القناصة لمواجهة تقدم الجيش بخاصة في وسط الخرطوم.
اندبندنت عربية
المصدر: صحيفة الراكوبة