حتى يكون النقد..رجع صدى للنص الإبداعي
أمد/ مما لا شك فيه أنّ النقد نوعٌ من القراءة الفلسفيّة والسياق الأدبي للإبداع،ذلك أن العلاقة الكبيرة بين النقد والإبداع والنتاج الأدبيّ في المقام الأوّل،غير منكرةٍ للتذوّق الجمالي في القراءة الواعية للنصوص،كأساس للحكم النقديّ.
ومن هنا،يجب على النقد أن ينسلخ من كل ما يمكن أن يؤثر على حكمه النقدي،وعليه أن يتمسك بنزاهة الحكم النقدي،واضعاً نصب عينيه العمل الأدبي منفصلاً عن أيّ حكم خارجي،وأن يمتلك الكفاءة الموسوعية والمنطقية والبلاغية التداولية والتواصلية،ليصل إلى تلك النزاهة التي نريد،فالكفاءة تدخل في فك ترميز المحتويات المضمرة،فغالباً ما يتعين اللجوء إلى معرفة قولية خاصة،بل إن يعيد بناءها اللغوي.
والإبداعفي تقديري لا يمكن أن يتطوّر من غير نقد،كما أن النقد أيضاً لا يمكن أن يتطور دون إبداع؛ لأنه يفقد مادته الخام، فالعلاقة بين الناقد والكاتب علاقة جدلية،في إطار تبادل الفائدة المعرفية بينهما،إذ يجب على الطرفين أن يقبلاها ويستثمراها إلى أبعد الحدود..
وهنا أوكد على أنَّ ما نحتاج إليه هو ” النقد الحقيقي” الذي يتجه إلى العمل الأدبي على اختلاف نوعه وجنسه،ليدرسه ويحلله، ويقيّمه ويقوّمه،ويبدي الملاحظات بشأنه،وفق مناهج وأسس علميّة تنطلق من النص ذاته،ولا تفرض عليه من الخارج..فالنقد الحقيقي لا يعني إبراز العيوب والتركيز عليها،إنما هو استنطاق للنص،لأفكاره ومضامينه ورؤاه بلغة إبداعية جديدة ،تضيف إليه وتكشف جمالياته،وتبين نقاط الضعف والخلل فيه.
ولذلك لم ينفصل النقد يوماً عن الأدب،فمنذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا،ثمة كاتب يكتب،وناقد يحلل ويدرس ما يكتبه الكاتب.. وقد تمرّ هذه العلاقة بفترات قوة وضعف،وظهور واختفاء، ومراحل يعتريها الصفاء وأخرى تتسم بالضبابية،فهي علاقةكما أشرناجدليّة في الأساس،ولكن لا يعني ذلك أن أحدهما بإمكانه أن يستغني عن الآخر.
لكن..ثمة علاقة طردية بين جودة الإبداع ونشاط الحركة النقدية؛ فالنقد الجاد والموضوعي كان،ولا يزال،مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحضور الإبداعي المتميّز،فمتى ما حضر المحرّض والمحفز الإبداعي المتميّز،كان النقد الحقيقي حاضراً ومؤثراً،وفي النهاية فإنّ العمل الجيد سيفرض نفسه لقراءته والالتفات إليه نقديّاً، والمبدع الجاد الذي يرغب في إثراء تجربته الأدبية وتطوير أدواته، سيلتفت بالتأكيد إلى ما يقوله الناقد الحقيقي والموضوعي.
ومن خلال تجربتي في الكتابة النقدية التي تمتد عبر عقود من الزمن،فإنّي في تقيّدي بمناهج نقديّة لا أعتمد صرامة علميّة فيها الكثير من الشّطط كما لا أتيح لنفسي حرّية فيها غبن وتهميش لتلك المناهج النّقديّة التي تصلح للحدّ من القراءة الانطباعية المنفلتة.ولا شكّ أنّي فيما أذهب إليه أسعى إلى شيء من الموضوعيّة العلميّة وأنا مؤمن كلّ الإيمان بأنّ النصوص الأدبيّة تنزاح خارج كلّ معيار لأنّها من مستوى الكلام.والكلام خاصّ منطلقه الذّات الفرديّة.وكما أنّ لكلّ ذات خصوصياتها وبصماتها فإنّ لكلّ نصّ أدبيّ خصوصيّاته وبصماته.
وما يجب الإشارة إليه في هذا السياق،هو أن القراءة الجادة هي التي تسعى إلى إخراج النص إلى عالم الممكن(1).فالقراءة ليست مسحا بصريا للنص،ولا تفسيرا معجميا لألفاظه واستنباطا لمعانيه المباشرة، فهي فعل خلَّاق/ كالإبداع نفسه يقوم على الهدم والبناء بدرجة أولى،وليست أبدا تقمصا لتجربة ما، ومن ثم،فإن تلقي الأدب يتطلب مرونة نظرية وذخيرة علمية.وعموما فإن عملية القراءة ينبغي أن لا تتجه نحو الألفاظ بمعزل عن سياق تأليفها،إذ من شأن هذا الإغفال أن يحجب عن القارئ إبداعيتها وفنيتها،ولهذا فإن فعل القراءة يقتضي من الباحث جهدا غير يسير،وهذا الجهد يتدرج عبر معرفة اللغة وتركيبها وضروب القول فيها. وتحقيق هذه الغايات يستدعي من القارئ خبرة تساعده على إدراك جمالية الإبداع.
وفي الحديث عن العلاقة بين النقد والإبداع يطول الكلام ويتشعب،فالنقد الأدبي،من حيث المبدأ،هو إبداع يكاد يوازي في قيمته الأدب ذاته،ولنا في كتابات عبدالله الغذامي وجابر عصفور وصلاح فضل ودغالي شكري ومحمود أمين العالم،وتوفيق بكار وعبدالسلام المسدي وبوزيان السعدي وكمال أبو ديب ومحمد بنيس ومحمد برادة وأدونيس..وسواهم أمثلة تبرهن على ما نقول، وفي المقابل ثمة قامات إبداعية لا يمكن تجاهلها مثل محمود درويش ونزار قباني ونجيب محفوظ ومظفر النواب ودطاهر مشي،والفلسطينية أعزيزة بشير ودآمال بوحرب..والقائمة تطول كثيراً،وإذا ما عدنا إلى الوراء،عقوداً أو قروناً،سنعثر على أسماء تضيق بها مجلدات ضخمة.
وتظل المفارقة في حالة توالد مع الأصوات النقدية الجديدة التي تنحت دربها في الصخر بالأظافر،حتى أنها ” تؤسس لتحويل نقدنا العربي الحديث الى حركة قومية من ناحية وتخصصات نوعية من ناحية أخرى..الأمر الذي يشير ببطء شديد إلى إحتمالات نظرية أكثر شمولا في المدى المنظور (2).
ويبقى العمل الفني الجدير بصفة الإبداع هو ذاك الذي يصوغ جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل في حوار مجلجل ومساءلة عميقة.كما أن النقد المنهجي الجدير بصفة الإبداع هو أيضا ذاك الذي يعتقد في جدلية التطور التاريخي و ينآى عن التضخم النرجسي والأحكام المسقطة ليستشرف المستقبل بعمق وثبات.
وخلاصة القول إنّ بين الإبداع والنّقد علاقة وطيدة عندما يكون النّقد رجع صدى فيه تفاعل بالنصّ وإغناء له وإضافة ويرتقي إلى مستواه الإبداعي.أمّا حين يكون النّقد تطبيقا لمنهج نقدي مقياس خال من روح النّاقد فهو مجرّد بحث علمي تطبيقي أبعد ما يكون عن الإبداع.
هوامش :
1) لمزيد التوسع،أنظر مقالنا بصحيفةرأي اليومتحت عنوان:النقد الأدبي وليد معايشة وجدانية بالعمل الأدبي..ونوع من الإكتشاف.بتاريخ 03 مارس 2024.
2)الدكتور المصري الراحلغالي شكري كتابه : سوسيولوجيا النقد العربي الحديثص 223.