بعد إعتذار أمريكا رسميا عن الجرائم ضد الهنود الحمر ..هل يفعل السودان ذات الشىء مع قومياته؟
محمد يوسف وردى
،اعتذر الرئيس الأمريكي جو بايدن رسميا لقبائل الهنود أمس فى أريزونا،عن التاريخ المظلم الذى تم اخفاؤه متمثلا فى الفظائع التى ارتكبتها الحكومة الأمريكية لمدة 150 عامًا،عندما انتزعت عشرات الآلاف من أطفال السكان الأصليين، الذين لا تتجاوز أعمارهم أربع سنوات، من أسرهم ومجتمعاتهم وأجبرتهم على الالتحاق بمدارس داخلية تديرها الحكومة الأمريكية،حيث فرضت عليهم مناهج لاجبارهم على الإندماج فى ثقافة الإنسان الأبيض، ما جردهم من لغتهم وثقافتهم الهندية وتسبب فى وفاة المئات من أطفال تلك المدارس ،وقد حدث هذا الأمر بصورة منهجية منذ عام 1819 حتى عام 1968.
فى 417 مدرسة أدارتها الحكومة الأمريكية عن طريق الكنائس والمؤسسات الدينية فى 37 ولاية.
وقال بايدن أمام حشد من الجماهير الهندية فى أريزونا:أعتذر رسميًا كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية عما فعلناه.لقد تأخرنا كثيرًا”.وأضاف:”إن سياسة المدارس الداخلية الهندية الفيدرالية، والألم الذي تسببت فيه، ستظل دائمًا وصمة عار كبيرة في التاريخ الأمريكي”.
وقبيل إعتذار بايدن بساعات قال البيت الأبيض فى بيان:”من خلال تقديم هذا الاعتذار، يجب أن نعلم تاريخنا بالكامل،حتى عندما يكون مؤلمًا.ويجب أن نتعلم من هذا التاريخ حتى لا يتكرر إلى الأبد”.
وحسب صحيفة الواشنطن بوست،تم بحلول عام 1900،سحب واحد من كل خمسة أطفال أمريكيين أصليين في سن المدرسة إلى مدرسة داخلية، وأحيانًا على بعد آلاف الأميال بعيدا عن عائلاتهم..كان الأطفال يُحرمون من أسمائهم، ويُخصص لهم بدلاً من ذلك أرقام. وكان يتم ضربهم بسبب التحدث بلغاتهم و قص شعرهم الطويل والذى يعد امراً مهما بالنسبة للثقافة الهندية،مما ترك ندوبًا عاطفية عميقة على أسر ومجتمعات الأمريكيين الأصليين.
كانت الكنيسة الكاثوليكية أو الشركات التابعة لها تدير ما لا يقل عن 80 مدرسة.
وفي تحقيق نشرته الصحيفة في مايو الماضى وجدت أن ما لا يقل عن 122 قسًا وراهبا وراهبة تم تعيينهم في 22 مدرسة داخلية منذ تسعينيات القرن التاسع عشر اتُهموا لاحقًا بالاعتداء الجنسي على أطفال أمريكيين أصليين تحت رعايتهم.ووقعت معظم حالات الاعتداء الموثقة في الخمسينيات والستينيات.
لقد كانت هذه المدارس أدوات للاستيعاب القسرى والإبادة الثقافية مما أدى إلى فقدان اللغة والثقافة وفصل الأطفال عن أسرهم”.
وتم تصميم نظام المدارس الداخلية الهندية الذي تديره الحكومة الفيدرالية بقصد استيعاب الأمريكيين الأصليين من خلال تدمير الثقافة واللغة والهوية الأصلية عبر أساليب عسكرية وحشية.
وقدر تقرير لوزارة الداخلية الأمريكية ما أنفقته الحكومة الفيدرالية بأكثر من 23.3 مليار دولار،على مدى 98 عامًا لتنفيذ نظام المدارس الداخلية الهندية والمؤسسات المماثلة وسياسات الاستيعاب المرتبطة بها.
وقبل أشهر اعتذر مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في الولايات المتحدة رسميا عن دور الكنيسة في إلحاق الصدمات بالأميركيين من السكان الأصليين.
ومن جهتها قادت ديبرا هالاند وزيرة الداخلية الأمريكيةوهى أول وزيرة هندية فى تاريخ أمريكا حيث تنتمى لقبيلة بويبلو أوف لاجونا الهندية في ولاية نيو مكسيكو،وهى سليلة أسرة أخذ أجدادها وجدها الأكبر من بيوتهم وأُرسلوا إلى مدارس داخلية حملة شعارها ( الطريق إلى الشفاء ) وأجرت وزارتها تحقيقا مكثفا استمر لمدة ثلاث سنوات، لفحص تلك المدارس للمرة الاولى.حيث استمعوا لقصص فظيعة عن الإساءة العاطفية والجسدية والجنسية التي رواها الناجون وأبناؤهم وأحفادهم.
ونقلت وكالة أسوشييتد برس عن ستيفن رو لويس، حاكم مجتمع نهر جيل الهندي الذي ينتمي إلى ثلاثة أجيال من الناجين من المدارس الداخلية، ابتهاجه باعتذار بايدن: “حصلنا أخيرًا على اعتذار رسمي من رئيس الولايات المتحدة، لقد كان بعض شيوخنا الناجين من المدارس الداخلية ينتظرون هذه اللحظة طوال حياتهم”.وبالنسبة للويس ما يجعل الأمر قويًا ومخلصًا بشكل لا يصدق هو اصدار الرئيس هذا الاعتذار من فوق الأراضي الهندية”.
وفى الحقيقة،لم يستيقظ بايدن الذى يريد إضافة انجازات لإرثه من النوم فجأة ليقرر الاعتذار،بقدر ما هناك تقرير حاسم أجرته وزارة الداخلية،علاوة على تراكم قام به المدافعون عن السكان الأصليين منذ فترة طويلة من أجل الحصول على هذا الاعتذار الرئاسى الرسمى عن دور الحكومة الأمريكية في إنشاء وتشغيل المدارس الداخلية الهندية.حيث طلبوا من بايدن الاعتذار عن سوء المعاملة والإساءة على نطاق واسع التي عانى منها أطفال الأمريكيين الأصليين في تلك المدارس.
والجدير بالذكر أن هالاند قالت عقب تقديم التقرير الذى صدر بعد عدة دراسات وسلط الضوء على الصدمة التي خلفتها المدارس الداخلية الفيدرالية الهندية و الممارسات المتعلقة بالاستيعاب على الأجيال:إن هذه السياسات لا تزال تغذي معدلات الإنتحار المرتفعة وتعاطي المخدرات وإدمان الكحول وسوء تربية الأبناء في مجتمعات الأمريكيين الأصليين. كشف التحقيق عن تعرض أجيال لتاريخ طويل من الصدمات. وقد حدد التقرير وفاة ما لا يقل عن 973 طفلاً من الهنود الحمر وسكان ألاسكا الأصليين وسكان هاواي الأصليين ممن التحقوا بالمدارس الداخلية. وأكد التقرير أن هناك ما لا يقل عن 74 موقع دفن جماعى في 65 موقعًا مدرسيًا.
وقد تضمنت توصيات التقرير تمويل تدريس اللغات القبلية التي حاولت الحكومة محوها واعادة بعض مواقع المدارس الداخلية السابقة إلى القبائل.
وقد أوصى الخبراء الذين كتبوا التقرير أيضا بإنشاء نصب تذكاري وطني لتثقيف الأمريكيين حول عصر المدارس الداخلية وتكريم الأطفال الذين ماتوا داخل هذه المدارس.
ورغم الاعتراف بالفظائع التى أوقعتها الحكومات الاميركية على الهنود ما يزال الخبراء يطالبون الكونغرس بإنشاء لجنة تتمتع بسلطة الاستدعاء، لكى يمكن استخدامها لإجبار الكنيسة الكاثوليكية والمؤسسات الدينية التي أدارت تلك المدارس على كشف وثائقها الداخلية لمعرفة ظروف تلك المدارس وأعداد الأشخاص الذين أجبروا على الالتحاق بها.حيث اقر بايدن فى خطابه بأن “العدد الحقيقي للضحايا من المرجح أن يكون أعلى بكثير”.
ورحب جزء كبير من الحشد الهندى الذي حضر خطاب بايدن باعتذاره،بينما رفض بعضهم قبول اعتذاره،بحجة أنهم بحاجة إلى البقاء، وانهم لكى يبقوا يحتاجون إلى إستعادة أراضيهم حتى يتمكنوا من إعادة لغتهم وأداء الاحتفالات الخاصة بأماكن في أراضيهم.كما انهم يريدون أن يكون الاعتذار ذا معنى بحيث تكون نتيجته اجراء تحقيق في الإبادة الجماعية. وكتب احدهم على لافتة حملها اثناء خطاب بايدن : “لا يزال هناك أطفال في مقابر جماعية، اعتذارك لا يعني شيئًا”.
ويطرح اعتذار بايدن للشعوب الأصلية فى امريكا،سؤلا بشأن شعوب أصلية عديدة حول العالم،تعرضت لفظائع مماثلة على يد مجموعات وافدة،إذ بدل الالتزام بالواجب الاخلاقى المتمثل فى احترام الثقافات كلها. أجهزت تلك المجموعات على لغات السكان الأصليين ودمرت ثقافاتهم.
وفى بلد مثل السودان، مكنت المجموعات العربو إسلامية،مدعومة بخزعبلات تستند على الانتساب للأنبياء والقبائل النافذة فى الجزيرة العربية ثقافتها وقيمها من الهيمنة على ثقافات الشعوب الأصلية فى البلاد لقرون، علما بان تلك الهيمنة والاستعلاء والتفوق جاءت عن طريق إبادة السكان الأصليين فى سوبا ناهيك عن قتل لغاتهم خلال الأربعين عاما الماضية فقط تم اغتيال ثلاث لغات نوبية فى أركان السودان الأربعة.ولقد استمرت تلك البكتريا المدمرة فى الانتشار،ولا تزال رغم مقاومة شعوب السودان لهيمنة الثقافة الواحدة ورفضهم الإذعان للغتها.والحق أن تلك المقاومة صنعت زيادة فى الوعى،علاوة على كسرها لثقافة الصمت المتعلقة بآلام الماضى التى أدت إلى ما يمكن تسميتها بالهيمنة المضادة،وكان الأمل أن يقود ذلك إلى توفير المناخ والبيئة التى تتخلق فيها البدائل التى تنتج التعايش السلمى ومشاركة القيم والممارسات بين المجموعات الثقافية فى البلاد، لكن المجموعات العربواسلامية تخشى ازدهار اى ثقافة اخرى لا تحبها،دعك عن تلاحم تلك الثقافات مع بعضها ..ولذلك هى تمضى فى إضفاء الطابع المؤسسى على هيمنتها باسم الدين وتجذب بالتالى مجموعات المصالح المدافعة عن نهجها حتى لو كانت مجموعات المصالح هذه من الثقافات الأخرى،لأنه وكما قال الدكتور مارتن لوثر كينغ، يوجد وسط السود من يتماهى مع سلوك الخصم ويتبناه ويقلده فى بعض الأحيان.لقد رفض العربواسلاميون مجرد فكرة الاعتذار للجنوبيين التى ظل طرحها ميلاد حنا،ولم يستسيغوا الاعتذار للدارفوريين.حتى حكومة حمدوك التى استولدتها الثورة عجزت عن تقديم اعتذار رسمي لضحايا الحروب و الإبادة الثقافية ،وعوضا أطلقت شعارات فى الهواء دون فعل شىء على الأرض.كان على الحكومة التى جاءت بعد ثورة ديسمبر ان تقول للسودانيين: لن يكون أحد منسيا !!
لقد حرمت الحرب المجموعات العربواسلامية من مركزها التاريخى المتمثل فى مدينة الخرطوم، ورغم انتقال اقطاب تلك المجموعة إلى مضارب البجا منكسرين يجرجرون أذيال الهزيمة فإنهم لا يتوانون عن تحديث هيمنتهم باستمرار باعتبار الهيمنة مسألة مقدسة تراق من أجلها كل الدماء ،
أنظر لهيمنة وسائل اعلامهم وكيف انها تتفاعل مع الاحداث الجارية بنفس المستوى فى أوقات السلم والحرب،حتى ولو تعرضت لهيمنة مضادة قوية كما حدث لها على يد أشاوس البجا فى الحادثة المتعلقة بلبس مذيعة التلفزيون البجاوية الأصل التى رفضت التغول على ثقافتها.
والشاهد أن كل محاولات تعزيز المساواة بين السودانيين تحطمت على صخرة المجموعة العربواسلامية ولذلك لا توجد جهة يمكن تقديم الشكوى لها بشأن التمييز العنصرى المتفشى فى السودان، سوف تسمع ضجيجا عندما تطرح سؤالاً عن المقابر الجماعية التى ضمت الضحايا من شعوب السودان وكذا الاماكن المثيرة للصدمات والأشخاص الذين تضرروا وعانوا فى مختلف الحقب فى السودان،أو عن مناهج التعليم التى تكرس الأسلمة والتعريب والاستعلاء،او إزالة التغول على تاريخنا القديم والذى جعلوه يبدأ مع ميلاد ممكلة سنار الإسلامية، ناهيك عن الفصول المخفية من تاريخنا والتى ندرس بدلا عنها تاريخ شخصيات لا صلة لها بالبلد لانها تنتمى إلى الجزيرة العربية،أو إتاحة الفيدرالية الثقافية بدعم وسائل الإعلام المحلية أسوة بالجيش لكى تحافظ على الثقافات المختلفة بدل الاعتماد على اعلام المركز فى امدرمان والذى يسبح بحمد المجموعات العربو اسلامية،أو انشاء معاهد للحفاظ على اللغات الأصلية ،أو حتى توفير التنمية المتوازنة..والمؤسف أن ذلك يحدث فى وقت يمضى فيه العالم من حولنا لتجاوز خطايا الماضى..لقد طور العالم أسلحته لتجاوز مظالم التاريخ ومآسيه، بينما نقف نحن مكانك سر، هل ياترى سببت العنصرية ضررا طويل الأمد لصحتنا المجتمعية والعقلية والنفسية لكى نعجز حتى عن التفكير فى شل يد مرتكب الفظائع وسوء المعاملة والإهمال أو صرف انتباهه إلى فضيلة الإعتذار عن أخطاء الماضى وذلك فى ظل استدامة الإنكار لحالات انتهاكات السلطات السودانية المتعاقبة ضد شعوبها ؟!
المصدر: صحيفة الراكوبة