عن حرب نتنياهو “الحضارية” ضد “الهمجية”..
اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس ولكن أن تكذب حتى تصدق نفسك فذلك هو الجنون نفسه، ولا يتعلق الأمر بشخص بنيامين نتنياهو المعروف بالكاذب ابن الكاذب كما يسميه رفيق دربه بتسلئيل سموتريتش حسب التسريب الذي تم نشره في تشرين الثاني 2022 بل يتعلق الأمر بثقافة جمعية تتلبس الإسرائيليين جميعاً، وهكذا باتت الأخلاق والمعايير الإنسانية في ورطة كبيرة.
في لقاء لم يشكل صدمة لمن يعرف بنيامين نتنياهو وما نفثه من سموم سابقة في كتبه وخطاباته الاستعلائية والتاريخ الذي تقف عليه دولة إسرائيل كدولة قامت على تهجير شعب مع “سي نيوز” الفرنسية قال نتنياهو وهو يوصف المحرقة التي يقوم بها وجيشه في غزة بأنها ليست حرباً بل “صراع بين الثقافة والهمجية وهو صراع يتجاوز الحرب ضد الإرهاب”.
وهذه ليست المرة الأولى التي يحاول فيها تزييف الوعي وتطبيع الإبادة. ففي الأسبوع الأول من الحرب قال: “هذه حرب الحضارة والعالم المتحضر ضد الوحشية” وفي الرابع والعشرين من تموز الماضي كان الكونغرس الأميركي وريث مبادئ ويلسون وتعاليم لينكولن، المجلس الذي كان شريكاً كاملاً في هذه الإبادة يستقبل نتنياهو ليخطب أمام الحضور الذي لم يكف عن التصفيق ليكرر في خطابه من الكذب المدجج وهو يقول: “هذا صراع بين الحضارة والوحشية”.
تشويه التاريخ أو محاولة تشويهه هي مهنة الطغاة الأولى فمن منهم سمى نفسه قاتلاً ؟ كل المجرمين كانوا يغلفون جرائمهم بالحضارة التي كانوا يقتلون ويحرقون المدن باسمها ونتنياهو واحد منهم وجيشه يقتل الأطفال والنساء وروح المدن وحضارة تراكمت في غزة المدينة الساحلية العريقة.
الدول عادة تنمو وعلى أصابعها بصمة الولادة وتظل تلك تحدد هويتها وعنوانها وقد قامت إسرائيل على ثلاثة: القتل – الطرد السرقة، وتلك على تضاد تام مع منظومة الأخلاق والإنسانية بل هي روح الوحشية والهمجية، والطبيعة البشرية دوماً هي ابنة تاريخها وتراثها والتاريخ ليس ببعيد عندما طردت العصابات الصهيونية شعباً كاملاً من أرضه وقتلت من قتلت واستولت عليها.
ولتبرير ذلك كان لا بد من صناعة ثقافة ونظريات وكتب تعليم لشرعنة الجريمة الأولى باسم الاستقلال وتحرير البلاد من “العرب المتوحشين” وسرت تلك النظريات في عروق الإسرائيلي منذ الطفولة متكئة على أيديولوجيا عدائية تجاه أهل الأرض ومعززة بأساطير البطولة في قتلهم وإبادتهم وحرق مدنهم والقضاء على نسلهم، هكذا تترجم تلك الثقافة نفسها في غزة.
لكن اللافت أن الخطاب الإسرائيلي هذا يوجهه نتنياهو للغرب العلماني الذي وضع حقوق الإنسان والطفل والمرأة والمدنيين وحماية التراث الحضاري، وهذا بحاجة إلى فهم مختلف لجهة سكوت العالم أمام هذه الإبادة التي تجري منذ أكثر من عام حد التواطؤ وهو كذلك فلا يمكن تبرئة أحد من المحرقة التي تجري في غزة.
الوحشية هي ما ترتكبه إسرائيل من جرائم يتوقف نبض القلوب مع كل صورة تلتقطها عدسات الكاميرا، والهمجية هي أن تحتل قومية ودين أبناء قومية أخرى ودين آخر وتستخدم كل أسلحة الإبادة لملاحقتهم وسحقهم كما يقول نتنياهو.
الوحشية هي أن يسمى القتل حضارة وثقافة ويصبح من عاديات الأشياء وأن تقبل البشرية بأن تصغي لتلك اللغة دون أن تهتز والهمجية أن يتم وصف الشعوب التي تقاتل من أجل حريتها بالإرهابية، ذروة الوحشية هي ما تفعله إسرائيل في المنطقة الشمالية من تطهير عرقي للسكان ولكنها تلك بصمة الثقافة. فالسلام هي كلمة منبوذة في العقل الإسرائيلي فمن يجرؤ على ذكرها هناك ؟
لا تعرف إسرائيل الدولة التي حاولت الانتماء للحضارة عندما قدمت نفسها كدولة علمانية غربية أنها حجزت هذا العام تذكرة بلا عودة نحو الدول الأكثر تخلفاً ووحشية، فلسوء حظها كانت ترتكب المحرقة بالبث الحي والمباشر التي ستبقى تفاصيلها عالقة للأبد، ستصبح دولة منبوذة يكرهها الجميع ولم تكن التظاهرات واحتجاجات الطلاب سوى عينة من الصورة التي رسمتها مخيلة الأجيال الجديدة عن إسرائيل، حاولت أن تجمع اليهود ليعيشوا في المنطقة كضحية للتاريخ لكنها تصدم العالم بهمجية لم يتصورها أكثر مخرجي هوليود لأفلام العنف في أكثر تخيلاته الإجرامية.
لقد ألحقت إسرائيل الضرر الكبير باليهود ولتنتظر المستقبل لترى بعد أن ينقشع غبار الحرب وتحل صورة اليهودي الجديدة.