عن تغيير وجه المنطقة.. سما الإخبارية
تخوض دولة الاحتلال هذه الحرب وفي نيتها أهداف كبرى بعيدة المدى، فهي لم تعد تريد القضاء على حركة المقاومة في غزة وتعيين سلطة تابعة لها فيها، ولم تعد تكتفي بالسعي لاستعادة ردعها، ولا بإبعاد مقاتلي المقاومة اللبنانية إلى ما وراء نهر الليطاني.
اليوم تضع دولة الاحتلال أهدافا كبرى أهمها ضم منطقة شمال غزة إليها، القضاء على المقاومة اللبنانية، تقليص أو إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة، تقليص قدرات إيران العسكرية وإنهاء برنامجها النووي.
النجاح في ذلك في تقديرهم سيعطي مجتمع الاحتلال الشعور بالأمن، وسيفتح الباب على مصراعيه ليس فقط للتطبيع مع الدول العربية التي لم تطبع معها إلى الآن، ولكن أيضا إلى تحالفات علنية معها.
ليس من الواضح مصدر الثقة الذي يدفع دولة الاحتلال لطرح أهداف أكبر بكثير من إمكانياتها وحجمها، فهي لم تتمكن بعد أكثر من سنة على حربها الإجرامية من تحقيق أهدافها في غزة. فكيف لها أن تحقق ما تريد مع أعداء لديهم إمكانيات أكبر بكثير من إمكانيات المقاومة الفلسطينية في غزة؟
إمكانيات دولة الاحتلال لم تتغير منذ السابع من أكتوبر فلقد كانت وما زالت تمتلك أحدث ما تمتلكه الترسانة العسكرية الأميركية، وسياسيا لا تزال الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية تُقدم لها الدعم السياسي في كل المحافل الدولية وتبرر جرائمها دون أدنى وازع قانوني أو أخلاقي.
الذي تغير كما يبدو هو مُجتمع دولة الاحتلال، ويمكن هنا ملاحظة ما يأتي:
أولاً: قيادة هذا المجتمع أصبح يُهيمن عليها قادة الحركة الاستيطانية بدعم كامل من اليمين الإسرائيلي الصهيوني سواء أكانوا في الحكومة أو في المعارضة، حيث صوروا هذه الحرب منذ بدايتها على أنها حرب وجودية وتمكنوا من إقناع غالبية مجتمعهم بذلك. لهذا مثلا، لا نشاهد أي نوع من المعارضة لعمليات الإبادة التي يقوم بها جيشهم في غزة. بالعكس ما نشاهده هو التشجيع على هذا القتل الوحشي والتهليل له والاحتفال به.
ثانياً: تصوير هذه الحرب على أنها وجودية رفع من سقف قدرة هذا المُجتمع على الاحتمال. في السابق كانت حروب هذه الدولة تتسم بالسرعة والحسم على أرض الخصم دون أن تدفع جبهتها الداخلية الكلفة.
اليوم الحرب تصل إلى حيفا وتل أبيب وإلى كل مكان في دولة الاحتلال، لكن هذا المُجتمع المعبأ بفكرة الحرب الوجودية، أصبح يؤمن بأن احتمال هذه التكاليف هو ضرورة من أجل الوجود.
ثالثاً: القناعة بأن هذه الحرب وجودية، ولد لدى مُجتمع دولة الاحتلال القناعة بأن صورته أمام العالم ليست مهمة، لأن ما هو مهم هو حماية هذا الوجود وهذا لا يكون باحترام القانون الدولي أو قرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة أو مجلس أمنها، ولكن بالانتصار على الخصم وإخضاعه أو سحقه. بمعنى، الأولوية هي لضمان “الوجود” وبعدها يُمكن التعامل مع نتائج الجرائم التي يقوم بها جيشهم.
قيادة دولة الاحتلال اليوم بأطيافها الصهيونية المتعددة، ترى التغير الذي حدث في مجتمعها وهي ترى فيه فرصة للذهاب بعيداً في أهدافها، طالما أن هذا المُجتمع لديه الاستعداد لتحمل التكاليف. لذلك هي تدفع بأقصى ما لديها من أهداف، وهو تغير واقع المنطقة بحيث تصبح دولة الاحتلال سيدتها دون منازع.
أمام هذا الواقع، لا يُمكن لحركات المقاومة تقديم التنازلات فالمطلوب هو رأسها، وبعد ذلك أو خلاله، هو رأس إيران.
هذا يتطلب من هذه الحركات التفكير بشكل إستراتيجي، وهنا أيضاً يُمكن تقديم عدة ملاحظات مهمة:
أولاً: عدم الفصل بين الساحات ومسارات التفاوض أيا كانت الذرائع. لقد كان الفصل بين الدول العربية وعدم التفاوض معها مُجتمعة هو الشغل الشاغل لدولة الاحتلال وللأسف الشديد نجحوا فيه بداية مع مصر العام ١٩٧٨ ثم في المفاوضات التي أعقبت مؤتمر مدريد “للسلام” العام ١٩٩١، ثم في أوسلو.
ما فعلوه في المفاوضات يريدون تكراره في هذه الحرب. عزل الجبهات عن بعضها والتعامل مع كل طرف على حدة.
هذه الحرب بدأت في غزة، وأعلنت جبهات المقاومة إسنادها وعدم استعدادها لوقف هذا الإسناد ما لم تتوقف الحرب في غزة. وذهب ضحية هذا الموقف النبيل والشريف والقومي العروبي والإسلامي عدد كبير من قادة المقاومة اللبنانية، ودمر ميناء الحديدة في اليمن، واستشهد العشرات من مقاتلي المقاومة العراقية. التخلي عن شعار وقف الإسناد، يعني تقديم أول انتصار لدولة الاحتلال في هذه الحرب.
ثانياً: يجب عدم تقديم أي تنازلات في هذه الحرب لدولة الاحتلال لأن أهدافها أصبحت واضحة. أي تنازل سيفتح شهيتها للاستمرار في الحرب بهدف تحقيق كامل أهدافها.
طالما أن الاحتلال يرفع من سقف مطالبه السياسية فإن الأصل هو أن ترفع جبهات المقاومة من أسقف مطالبها السياسية أيضا مثل تحرير مزارع شبعا وإنهاء الاحتلال للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
التعامل مع “المجنون” لا يتم بِمحاولة إقناعه للكف عن “جنونه” ولكن بوضعه في مصحة الأمراض العقلية، ودولة الاحتلال تتصرف بجنون وبغطرسة القوة، ولن يتم وقفها بتقديم التنازلات، ولكن برفع سقف التحدي لها، وإيصال رسائل سياسية واضحة، بأن الصراع معها مستمر طالما استمر الاحتلال.
ثالثاً: صحيح أن مُجتمع دولة الاحتلال هو اليوم أكثر استعداداً لتحمل كُلفة الحرب، لكن هذا عامل متغير يعتمد على مدة الحرب.
إذا استمرت حرب الاستنزاف ستة أشهر أخرى أو سنة أخرى، لا نعلم إن كان هذا المجتمع سيستمر في دعمه للحرب أم سيطالب بوقفها. استمرار حرب الاستنزاف وإطالة مدتها هما في النهاية ما سيفرض التغيير على مجتمع هذه الدولة وليس المبادرات السياسية التي تطالب المقاومة بتقديم التنازلات.
أخيراً، إسرائيل لا تستطيع مهما فعلت إحداث تغيير في إيران، فالأخيرة بعيدة جداً عنها وأقصى ما يمكنها القيام به هو توجيه ضربات جوية وصاروخية لها، لكن هذا لا يعطيها نصراً أو تغييراً للمشهد السياسي إلا إذا قررت إيران ابتلاع الضربات وعدم الرد عليها وهذا ليس في وارد إيران من تصريحات قياداتها.
دولة الاحتلال تراهن على إقحام الولايات المتحدة في حربها على إيران، لكن الحسابات هنا معقدة وسواء نجحت في ذلك أم لا، فإن إدخال إيران على خط المواجهة مع دولة الاحتلال، هو في مصلحة المقاومة وليس ضدها.
دولة الاحتلال لن تكون فقط مضطرة للتعامل مع غزة ولبنان واليمن والعراق ولكن ستضيف لها دولة بوزن إيران وهو ما سيضعفها ويُسرِع في إنهاء الحرب.
المهم أن تبقى الساحات موحدة، وأن يستمر الاستنزاف دون تقديم أي تنازلات، فهي الطريقة الوحيدة لكسر إرادة الاحتلال وإنهاء الحرب دون السماح لدولة الاحتلال بتحقيق نصر يُغير وجه المنطقة لصالحها.