مؤشّرات جديدة على وهن إسرائيلي ظاهر..
قُلنا ونُكرّر إنّ المقاومة الإسلامية في لبنان بعد أن تجاوزت الآثار التي ترتّبت على «الرزمة القاتلة» التي تعرّضت لها، أصبحت الآن، وتحوّلت فعلاً إلى قوّة تصعب هزيمتها، ويستحيل كسرها إلّا بأثمانٍ ستكلّف دولة الاحتلال الكثير الكثير.
بعد «هروب» دولة الاحتلال السريع والمفاجئ، وتحويل 6 أو 7 فرق عسكرية ودفعها إلى «الشمال» في مواجهة قوات «حزب الله» في جنوب لبنان، والإعلان أنّ المعركة في قطاع غزّة قد أصبحت في المقام الثاني، وأنّها باتت معركة ثانوية بالمقارنة مع المعركة في الشمال، وكان قد مرّ على الحرب ما يقارب العام الكامل، كان لافتاً ومحيّراً هذا الهروب السريع.
كان هذا الأمر سيكون ممكناً ومنطقياً لو أنّ جيش الاحتلال قد انتصر فعلاً على المقاومة في القطاع، وفرض شروطه عليها، وأجبرها على القبول بصفقة غير الصفقة التي وافقت عليها، والتي أقرّها مجلس الأمن الدولي على قاعدة «مبادرة بايدن»، والتي رفضها الاحتلال بصورةٍ لا تقبل الشكّ أو الجدل.
العجز عن تحقيق أهداف الحرب، والذي يجسّده رفضه للصفقة يفنّد زيف مزاعمه، وزيف ادّعاءاته، ويثبت أنّ هرولته نحو الشمال جاءت بسبب إدراكه العميق أنّ الصفقة، والتي ستعني توقُّف حرب الإسناد من «حزب الله» اللبناني والمقاومة الإسلامية العراقية و»أنصار الله» الحوثيين اليمنيين، سيكون من نتائجها المباشرة بقاء المقاومة في القطاع إلى ما بعد نهاية الحرب، بصرف النظر عن الشكل الذي سيأخذه هذا البقاء، كما سيعني بقاء الحزب في كامل عدّته وعديده سيفاً مسلّطاً على رقبة الاحتلال، مسنوداً بعد أن أصبح «محور المقاومة» واقعاً جديدة مؤثّراً في كامل الإقليم.
أمّا كيف ولماذا أسرع جيش الاحتلال إلى الشمال، فقد بات معروفاً الآن أنّ دولة الاحتلال خشيت من ضياع فرصة «الرزمة القاتلة»، وبالتالي خسارة الأوراق الوحيدة التي كانت لديها خوفاً من انكشافها، وراهنت عليها بتوجيه ضربة قاتلة ستحسم الحرب، وستمكّن جيش الاحتلال من حسم الحرب.
وعندما اكتشف الأخير أنّ الضربة القاضية لم تكن كذلك، على الرغم من كل ما انطوت عليه من إيلام وخسائر باهظة، وعلى الرغم من الحالة المعنوية التي تولّدت عنها نشوة في الجانب الإسرائيلي، وإحباط في الجانب اللبناني، إلّا أنّ السرعة التي استعاد بها الحزب لملمة صفوفه بعد امتصاص الصدمة أذهلت القيادات الإسرائيلية، وأصابتهم بصدمةٍ مقابلة، جعلتهم يتردّدون في الدخول البرّي بعد أن فهموا أنّ «الرزمة القاتلة» لم تؤثّر جوهرياً على مقدّرات الحزب الصاروخية، ولا على قواته العاملة في الجنوب.
وهنا، أيضاً، لم يتبقَّ أمامهم سوى الذهاب بعيداً في التدمير والاغتيالات وصولاً إلى قتل أمين عام الحزب حسن نصر الله، واستهداف قيادات أخرى، والتغوّل والتوغّل في قصف الأحياء المدنية، والبدء في معركة التهجير لمئات آلاف اللبنانيين من الحاضنة المباشرة للحزب، وذلك أملاً في أن يوفّر مثل هذا الهجوم فرصةً جديدةً لانهيار الحزب، والشروع بالدخول البرّي.
وهنا، أيضاً، فشلت القيادات الإسرائيلية فشلاً يصل إلى حدود الفضيحة، بعد أن انتقل الحزب بعد أقلّ من ثلاثة أيام على اغتيال أمينه العام إلى توسيع مديات القصف والاستهداف، وضرب بعض الأهداف الإسرائيلية، وحوّل كامل منطقة الشمال إلى منطقة لسيطرته النارية المباشرة، ووضع مدن حيفا و»نهاريا» وعكا، إضافةً إلى هضبة الجولان السورية، وبعض ضواحي «تل أبيب» تحت طائلة القصف المتكرّر، وأصبح يجبر مئات آلاف الإسرائيليين على الدخول إلى الملاجئ لعدّة مرّات في اليوم الواحد، ملحقاً بالقوات والمعسكرات والثكنات ومرابض المدفعية والقواعد العسكرية الخاصة خسائر، وحرم كامل الخطوط الخلفية لها على خطوط التماس من حرية الحركة، والمرونة في الدعم والإسناد، وألحق خسائر بالقوات التي حاولت اختراق خطوط التماس، وحواف البلدات الأمامية وحوّلها إلى كمائن للموت، واحتراق الدبّابات.
واضح لكلّ مراقب منصف أنّ العملية البرّية قد استنفدت فرصها بالكامل، وتحوّلت إلى مغامرة قاتلة ليس بوسع جيش منهك كجيش الاحتلال في واقعه الحالي الإقدام عليها.
هنا بدأ الوهن يدبُّ في صفوف الجيش، ولم يعد لسلاح الجو من أهداف قادرة على تغيير المعادلة الميدانية، ودخلت إلى الحرب بعض الأهداف التي تعكس هذا الوهن مثل مؤسّسات «القرض الحسن» والمستشفيات، وبدأت قوات الاحتلال بمسلسلات «الإخلاء» الفوري، والقصف الذي يستهدف المدنيين، ومقدّراتهم العادية، وتحويل حياتهم إلى عبء على المقاومة والدولة اللبنانية المدمّرة أصلاً.
هنا في لبنان المعادلة مختلفة عن قطاع غزّة، ليس من زاوية البطولة والصمود والافتداء لأنّ البطولة حاضرة هنا وهناك، وإنّما من زاوية أنّ الخسائر اللبنانية من جرائم الاحتلال تكاد تكون محصورة في الناحية العسكرية، في حين أنّ الخسائر الإسرائيلية في المعركة مع «حزب الله» باهظة للغاية في كلّ الأبعاد، وهي مكلفة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، ومرعبة من الناحية العسكرية، وحاسمة، وأحياناً قاصمة وقاسية على معنويات الجيش والمجتمع في آنٍ واحد.
لا يكترث جيش الاحتلال بالمجازر التي يرتكبها جنوده في القطاع، ويمعن فيها بصورةٍ فاقت كل التوحش الذي مارسه حتى الآن، وليس لديه أيّ مخاوف من تبعات هذا الإجرام، لا من المجتمع الدولي الذي ثبت أنّه متواطئ حتى أُذنيه في هذه الحرب الإجرامية، ولا من النظام العربي والذي ثبت تجاوز مرحلة التخاذل بمراحل، وأصبح عجزه يفوق كلّ التصوّرات والحدود، وهو لا يكترث لشيء حتى في واقع إجرامه في لبنان مع فارق أنّ الثمن في لبنان أكبر من قدرته على التحمّل إذا قرّر الدخول في حرب طويلة، وهو بهذا المعنى بالذات بدأ بالبحث السريع عن مخرجٍ من حرب لم تعد تحقّق له شيئاً جوهرياً واحداً بعد أن بعثر أوراقه في ضربةٍ ظنّها قاضية، ولم تكن كذلك، وبعد أن حاول الذهاب إلى أبعد الحدود عندما اغتال نصر الله.
ليس أمام دولة الاحتلال سوى أن تنتظر عمّا ستسفر عنها الضربة لإيران، وفيما إذا كانت المراهنة على الجانب الأمني منها تحمل لهم مفاجآت «سارّة»، أم أنّها «ستقنعهم» بالبحث السريع عن مخرجٍ سياسي تقدّمه لهم الإدارة الأميركية إن تمكّنت بأسرع من السرعة الأولى.
الضربة الإسرائيلية لإيران لن تحلّ لهم أزمتهم، إن لم نقل إنّها ستفاقمها، وحرب الاستنزاف الطويلة مع الحزب لن تؤدّي سوى إلى استفحال هذه الأزمات، ولن يتبقّى لهم سوى ممرّ واحد ووحيد وهو الذهاب إلى الحلول السياسية في لبنان والقطاع بصرف النظر عن التزامن وحدود هذا الزمن بين الحالتين، ومحاولة الحصول على صورة هنا وأخرى هناك تبدو فيها الأمور، وبموجبها وكأنّ دولة الاحتلال خرجت بحصيلة جوهرها التدمير والقتل والإجرام، ومظهرها الخارجي فقط أنّ فصائل المقاومة لن تشكّل لدولة الاحتلال تهديداً مباشراً في المدى المرئي كما تعتقد الولايات المتحدة، وكما سوف تجبر دولة الاحتلال على هذا الاعتقاد نفسه بعد أن فقدت الحيلة والوسيلة.
بالأمس، وقبل الأمس، بدأت الإدارة الأميركية تتحدّث عن ضرورة أن تستغلّ دولة الاحتلال «النجاحات» العسكرية للتحوّل إلى مكاسب إستراتيجية، والمعنى المباشر لهذا الكلام أنّ الأخيرة لم يعد أمامها سوى الحلّ السياسي.
وعندما يقول وزير جيش الاحتلال يوآف غالانت، إن الحرب على «حزب الله» ستستمر بطرقٍ مختلفة بعد وقف إطلاق النار، فهذا يعني أنّ تحقيق الأهداف الإسرائيلية على الجبهة اللبنانية أصبحت متعذّرة، وأنّ تحقيقها بالقوة العسكرية قد تلاشى وتراجع، ولم يعد ممكناً.
وعندما يطرح في اجتماعات «الكابينيت» أنّ من العبث تقديم المساعدات للمهجّرين الإسرائيليين طالما أنّ سكان حيفا و»نهاريا» وبلدات أخرى باتوا يعانون من خط التهجير، فهذا يعني أنّ استمرار الحرب لن يحلّ مطلقاً أزمتهم، بل سيفاقمها أكثر مما هي عليه، وبدرجاتٍ أكبر، وبما لا يُقاس.
وعندما تسمح الرقابة العسكرية الاحتلالية بنشر ضرب منزل بنيامين نتنياهو، وكيف أنّ الطائرة المسيّرة دخلت من شبّاك غرفة النوم، فهذا يعني أنّ الأمر بات خطيراً إلى أبعد حدود الخطر، وأنّ هذا النشر بالذات يمكن أن يؤشّر على أنّ المراهنة الأساسية في الضربة الإسرائيلية ضد إيران هي المراهنة الأمنية، وخصوصاً الاغتيالات، وليس ضرب المفاعلات النووية، ومصافي النفط، وإنّما ضربات أمنية مغلّفة ببعض الهجمات على بعض المواقف المنتقاة، بما فيها منصّات الصواريخ ومصانعها.
يمكن لدولة الاحتلال أن تُداري على خساراتها بالحلول السياسية، ولكنها لا تستطيع فعل ذلك باستمرار الحرب وإطالتها واستطالتها.