الطبيعة الإجرائية لدعوى البيوع وآثارها
يعتبر العقار من بين العناصر المهمة في الذمة المالية للشخص سواء كان طبيعياً أم اعتبارياً، ومن ثم فقد حظي بتنظيم تشريعي خاص سواء فيما يتعلق بالتصرفات التي ترد عليه أو في آلية انتقال ملكيته، أو في ترتيب حق عيني عليه كالرهن، أو في نفاذ تلك التصرفات في مواجهة الغير، فأوجب المشرع أن تُفرغ كل التصرفات العقارية في محررٍ رسمي حتى تنتج آثرها، كما امتد هذا التنظيم والحماية إلى التنفيذ الجبري على العقار حيث خصه بإجراءات تميّزه عن الحجز على المنقولات أو سائر الأصول الأخرى، من ذلك أن تخضع إجراءات بيع العقار بالمزاد العلني لرقابة قاضٍ يشرف عليها وصولاً لإتمام البيع ورسو المزاد « قاضي البيوع «، وذلك من خلال دعوى البيوع.
وإذا كانت الدعوى ترفع كأصلٍ عام بصحيفة يتم إيداعها إدارة كتاب المحكمة المختصة وذلك عملاً بما تنص عليه المادة (45) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، فقد خص المشرع دعوى البيوع بحكمٍ خاصٍ في كيفية رفعها وتحديد الجلسة الأولى لها، إذ يتولى مأمور التنفيذ تحديد تاريخ تسجيل طلب الحجز على العقار وساعته، فضلاً عن تحديد مكان البيع وساعته، ويكون ميعاد البيع الذي يحدده مأمور التنفيذ وحسبما تواتر القضاء هو الجلسة الأولى لدعوى البيوع، وهي ذاتها جلسة البيع التي يُعتد بها كميعاد لإبداء أوجه البطلان المنصوص عليها في المادة (271) من قانون المرافعات، ومن ثم تُحيل إدارة التنفيذ ملف التنفيذ إلى المحكمة الكلية وذلك على النحو المبين بالمادتين 264,266 من قانون المرافعات، وبذلك يحّل تسجيل طلب الحجز محل صحيفة الدعوى، ويرتب هذا التسجيل الآثار المترتبة على صحيفة الدعوى من بدء خصومة التنفيذ أمام قاضي البيوع، ويكون مأمور التنفيذ وليس إدارة الكتاب أو الدائن الحاجز هو من قام بتحديد موعد لجلسة البيع، وعند حلول هذا الموعد يقوم قاضي البيوع بمتابعة إجراءات البيع دون حاجة إلى طلب من أي من أصحاب الحقوق أو ذوي المصلحة، ويباشر قاضي البيوع الإجراءات بندب خبير لتقدير ثمن العقار، أو من خلال ندب سمسار أو أكثر لعرض العقار المحجوز عليه للبيع خارج المحكمة خلال المدة المنصوص عليها في المادة (266) من قانون المرافعات، كما يقدر مصروفات إجراءات البيع، ومن ثم يبدأ قاضي البيوع المزايدة بالثمن الذي حدّده السمسار أو الخبير، ثم يأذن قاضي البيوع لمن تندبه إدارة التنفيذ في المناداة على المتزايدين، وتتوالى الإجراءات حتى يعتمد قاضي البيوع عطاء من يودع كامل الثمن، ومن ثم القضاء برسو المزاد على النحو المبين بالمادتين (273,274) من قانون المرافعات.
وعلى الرغم من الصيغة الإجرائية لعمل قاضي البيوع والتي تخرج عن وظيفته القضائية، فقد أسند إليه المشرع بعض السلطات والاختصاصات القضائية حيث أورد المشرع على سبيل الحصر ومن ثم فلا يجوز التوسع في تفسيرها أو القياس عليها وتتمثل هذه السلطات في الفصل في أوجه البطلان في الإعلان والإجراءات المنصوص عليها في المادتين 266,268 من قانون المرافعات، والقضاء بصفته قاضياً للأمور المستعجلة بإيقاف البيع أو الاستمرار فيه، ويكون حكمه غير قابل للطعن، وقد أدت هذه الطبيعة المختلطة لاختصاصات قاضي البيوع إلى البحث في طبيعة دعوى البيوع ذاتها وما إذا كانت خصومة بالمعنى القانوني من عدمه، وكذا طبيعة الحكم الصادر فيها، أم أنها لا تعدو أن تكون خصومة تنفيذ تتمثل في مجموعة إجراءات يباشرها الدائن وأصحاب الحقوق، ولا ترقى إلى مرتبة الخصومة بمعناها القانوني، وتبدو أهمية هذه التفرقة في الوقوف على ما إذا كان يطرأ على خصومة التنفيذ أي من عوارض الخصومة أثناء سيرها كالوقف (ما لم يكن وقفاً تعليقياً أو اتفاقياً) أو الانقطاع أو الانقضاء أو السقوط أو الترك أو غير ذلك من وقف جزائي أو اعتبارها كأن لم تكن من عدمه.
وقد اهتم الفقه ببحث الطبيعة القانونية لدعوى البيوع، باعتبار أن خصومة التنفيذ تتمثل في مجموعة الإجراءات والأوضاع التي رسمها قانون المرافعات لمن بيده سند تنفيذي بقصد استيداء حقه الثابت بذلك السند قهراً عن المدين، ولا تبدأ هذه الإجراءات إلا بناء على طلب الدائن المباشر للإجراءات أو الدائنين الذين أصبحوا طرفاً فيها، ومن ثم فلا يجوز للقاضي الاستمرار في إجراءات التنفيذ أو بيع المال المحجوز عليه دون طلب من الدائن على نحو ما تقدم، وذلك حرصاً من المشرع على حماية المدين حتى لا يباع ملكه دون مقتضى، وقد انعكست تلك الطبيعة على الحكم الصادر في دعوى البيوع بإيقاع البيع، حيث استقر القضاء والفقه على أنه لا يعتبر حكماً بالمعنى المفهوم للأحكام باعتبار أنه لم يفصل في خصومة بمفهومها القانوني مطروحة على قاضي البيوع، وإنما يقرر حصول الإجراءات التي تنتهي إلى البيع، ومن ثم فهو في حقيقته عقد بيع ينفذ جبراً بين مالك العقار المنفذ عليه وبين المشتري الذي تم إيقاع البيع عليه، ولا يتقيد بقاعدة تسبيب الأحكام، ولا يعدو أن يكون حسبما استقر القضاء محضراً شاملاً لبيان الإجراءات التي تم اتباعها، أو هو قرار يصدر من قاضٍ له سلطة ولائية باعتبار أنه لا توجد منازعة أو خصومة، وبذلك تختلف خصومة التنفيذ عن الخصومة القضائية بمعناها القانوني التي تبدأ من وقت إقامة الدعوى وتنتهي بحكم في موضوعها باعتبارها حالة قانونية ناشئة عن مباشرة الدعوى وترتب علاقة قانونية بين الخصوم فيها.
ولما كانت عوارض الخصومة لا ترد إلا على خصومة حقيقية بمعناها القانوني، فإنه يترتب على هذا الاختلاف في طبيعة الخصومة بمعناها القانوني وبين خصومة التنفيذ، ذلك أن إجراءات التنفيذ لا ترد عليها عوارض الخصومة باعتبارها ليست خصومة بمعناها القانوني، فلا يجوز إسقاطها باعتبار أن منشأها هو محضر الحجز الذي وقع صحيحاً أو القضاء بانقضائها، واستصحاباً لذلك، فإذا تخلف الدائن عن الحضور أمام قاضي البيوع فإن الأخير يأمر بشطب الجلسة التي تخلف المدعى عن الحضور فيها، ويقصد بالشطب حالئذ إلغاء أو إسقاط تحديد يوم البيع ووقف البيع، وتأسيساً على ذلك، لا تسري على هذا الشطب المواعد المقررة لتجديدها، كما لا يسري عليها جزاء اعتبارها كأن لم تكن إذا لم يتم تجديدها من الشطب خلال الميعاد المقرر قانوناً، كما لا تمتد سلطات قاضي البيوع إلى القضاء بالوقف الجزائي إذ لم يقم الدائن الذي يباشر الإجراءات بأي من الإجراءات كالإعلان عن البيع أو غير ذلك باعتبار أن إجراءات التنفيذ يقوم بها الدائن أو صاحب الحق دون تدخل من قاضي البيوع الذي لا يجوز له إجبار الدائن على اتخاذ إجراء من إجراءات التنفيذ أو حثه على الاستمرار في موالاة تلك الإجراءات، كما لا يسري عليها السقوط في حال عدم السير فيها، وذلك السقوط لا يرد إلا على خصومة بمعناها القانوني، لاسيما أن عدم السير في إجراءات التنفيذ مرده إلى عدم ملاءمة الوقت للبيع بثمن مناسب أو مساعي التسوية فيما بين الدائن والمدين.
* نائب المدير العام لمجموعة الشؤون القانونية
بنك الكويت الوطني
المصدر: جريدة الجريدة