اخبار السودان

ملامح من الحياة في كندا (7)

د. حامد بشرى

حامد بشري

في المقابلة التي سبقت الألتحاق بالوظيفة الجديدة كان علي أن أوقع علي عقد العمل مع الحكومة الفدرالية لدولة كندا في مكتب المدير العام ، وقبل أن أكمل قرأة نصوص العقد حثني المدير علي التوقيع كأنما أراد أن يشجعني علي قبول العرض حينما ذكر أن شروط الخدمة في الحكومة الكندية لا تضاهيها شروط خدمة في أي دولة أخري وهي تماثل كثيراً شروط العمل بالأمم المتحدة . ما كان سيادته أن يبوح بهذه الحقيقة أذا علم من أين أتيت وكيف عانيت لفترة عشرة أعوام حتي أصل الي هذا المكتب وأري هذا العقد بأم عيني . قوانين الحكومة الكندية لا تسمح بأعطاء راتب للمعينين الجدد الأ بعض مضي فترة لا أذكرها تحديداً ولكنها أكثر من شهر وقد تكون شهر ونصف ، وبالطبع لم أكن أملك المال الكافي لشراء ملابس تليق بالوظيفة مع بعض الأغراض فطلبت من الأدارة منحي سلفية وتمت الموافقة علي الطلب . هؤلاء قوم لو رددوا شهادة لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله لكان نصيبهم الجنة .
بعد عام ونيفٍ من العمل بالحكومة تمكنا من شراء منزل بمعاونة صديقة سوفيتيه/أوكراينية وزوجها أرادا النزوح الي كندا حينما وافقنا علي طلبهم بوضع مبلغ من المال في حسابنا المشترك مع زوجتي قبل الوصول الي كندا علي حسب شروط أدارة الهجرة الكندية . بعد ذلك تم تقديمه للبنك كعربون لشراء المنزل مع أخذ التصديق في التصرف بالمال من الملاك الأصليين . هكذا تم لنا شراء المنزل ولاحقاً إعدنا لهما السلفية بعد وصولهما الي كندا . حينها كان شراء المنازل بأسعار زهيدة قبل أن يصل الي هذه الأرقام الفلكية اليوم حيث يستحيل شراء جراج ناهيك عن منزل خاصة بعد وصول الأموال والمهاجرين من الشرق الأقصي . هؤلاء المهاجرين الجدد ، لم يقفوا علي شراء المنازل فحسب وأنما أشتروا الشوارع التي شُيدت عليها المنازل بأكملها. بعد الشراء والشروع في دفع الأقساط ، قمنا بأجراء معادلة حسابية بسيطة أتضح من خلالها أن مالك المنزل الذي يدفع الأقساط بأنتظام لفترة تمتد ما بين عشرين الي خمسة وعشرين عاماً يكون جملة ما دفعه للبنك يساوي ثلاثة أضعاف سعر الشراء بحيث يتم التعامل بالربح المركب من قبل رأسمالية البنوك . عليه أتخذنا قراراً ، بربط الأحزمة علي البطون في السوق الرأسمالي الذي نعيش فيه وتوصلنا الي الأستنتاج البديهي ، كلما تم أختصار مدة دفع الأقساط بزيادة الدفع الشهري أو النصف شهري للبنوك كلما تم تقليل أرباحها . علي الرغم من أننا أرتضينا بمحض أرادتنا العيش في هذا العالم الرأسمالي والخضوع لكل القوانين التي تحكمه ، الأ أني قابلت مجموعة من الأسلاميين الذين يرفضون شراء المنازل عن طريق الأستدانة من البنوك وحجتهم في ذلك أن البنوك تتعامل بمعاملات ربوية مع العملاء الشيئ الذي يتعارض مع المفاهيم الدينية في رأيهم لكن في نهاية الأمر أجبرتهم ظروف الحياة أن يخضعوا لنظام التعامل الرأسمالي الربوي .
وبمناسبة الأستدانة من البنوك نجد أن الحرب المستعره حالياً في الوطن والأبواق التي تدعم أي من الطرفين تزيد من الأعباء المالية الملقاه علي السودانيين بالمهجر مما يفاقم أستدانتهم من البنوك بسعر فائدة يصب في مصلحة الرأسمالية الجشعة . وبصورة لا أراديه يجد معظم المغتربين والمهاجرين أنفسهم من ضمن الممولين لهذه الحرب ومن مشجعي الرأسمالية . لذا يجب علينا العمل الجاد لتنفيذ شعار (لا للحرب).
أمام هذه المسؤوليات والأرقام الفلكية في الدفع مع التعامل البنكي وخاصة بعد شراء المنزل ، ودون أن ننتبه وجدنا أبنتنا (اليس) أكملت عمرها السابع عشر وتود الألتحاق بمؤسسة تعليمية بعد الثانوية التي درستها بمدرسة متخصصة للطلبة الموهوبين في مجالات الفنون المختلفة من رسم ، وموسيقي ، وتمثيل ورقص . أبنتنا كان مجالها التمثيل . الحصول علي موافقة للدراسة الجامعية في هذه التخصصات يتطلب أجتياز أختبار المواهب الذي يُقدم أمام لجنة من المتخصصين في هذا المجال . وبحكم معرفتها بالجامعات التي تُدرس هذه التخصصات قدمت طلباتها للألتحاق بجامعات كندية وأمريكية . عليه قُبل طلبها بجامعات أمريكية وطُلب منها الحضور الي نيويورك للمعاينة . حينها كانت معلوماتي عن نيويورك ضئيلة وكل ما إعرفه عنها كغيرها من المدن الأمريكية مدينة تنتشر فيها الجريمة . وقبل هذا التاريخ ، مررت بنيويورك مرة واحدة بالسيارة من واشنطون الي كندا حينما توقفت بها وزرت بعض المعالم التاريخية . لم نكن علي دراية بتكاليف الدراسة والأعاشة بها أضافة الي فرق سعر العملة بين الدولار الأمريكي والكندي . وافقنا علي أمتعاض لمرافقتها الي نيويورك للجلوس للأختبار لكي نرضي رغباتها وطموحها الغير واقعي بقبولها في كلية التمثيل بنيويورك ، خاصة وأن جامعات نيويورك الفنية لها مواصفات خاصة بأختيار المواهب قد لا تنطبق علي أبنتنا (اليس) . سافرت هي ووالدتها الي المعاينة وتخلفت أنا عن مرافقتهم لشح المال اللازم لاستئجار سكن لثلاثة أشخاص ، عليه تم تدبير المبيت مع أحد الأصدقاء لشخصين لاستضافتهم ليوم واحد . ولسوء الطالع ، حصلت المفاجأة التي لم نكن مهيئين لها أذ تم قبول (اليس) لدراسة علوم الدراما والتمثيل بجامعة خاصة بنيويورك . تم القبول علي أساس أنها طالبة أجنبية وليست أمريكية مما يعني مصاريف دراسية بأرقام فلكية . أتخذنا قراراً عائلياً بضرورة المخاطرة بخوض التجربة والرضوخ الي طلب أبنتنا بمواصلة الدراسة بنيويورك علي النفقة الخاصة مع عدم أمتلاكنا للمقدرة المالية تماشياً مع الحكمة الروسية (من يريد أن يحتسي الشمبانيا عليه خوض المخاطرة) . برغم التحضير المبكر نسبياً لهذه المفاجآت ، حيث كنا نستقطع من رواتبنا الضئيلة مبلغ من المال وضعناه في حساب توفير يتبع لمؤسسة تعليمية مخصصة لهذا الغرض ، علي أن يتم التصرف فيه جزئياً لرسوم الدراسة و المعيشة للأبناء حينما يحين الوقت للالتحاق بالمعاهد العليا والجامعات وهذا علي حسب شروط المؤسسة ، الأ أن هذا التوفير الأجباري كان نصيبه قليلاً مقارنةً بالرسوم الدراسية في نيويورك . وقبل بداية العام الدراسي وُجهنا بمشكلة أخري تتعلق بالسكن في هذه المدينة ، أتضح أن الاشخاص الذين لا يحملون الجنسية الأمريكية ويرغبون في أيجار سكن بنيويورك عليهم أبراز وثائق من ضامن يعيش بالولايات المتحدة الامريكية بحيث يكون دخله السنوي يعادل ربع مليون دولار أو فما فوق . هذه عقبة كؤد جندتُ لها كل علاقاتي لكي أعثر علي سوداني/ة يستوفي هذا الشرط الأ أن الحظ لم يحالفني . توصلنا عن طريق شخص ثالث الي مواطن أمريكي الأ أنه رفض بحجة أنه لا يريد أن يفصح عن دخله السنوي لسلطات الضرائب الأمريكية تماشياً مع العقلية الترامبية . (اليس) تم قبولها بهذه الكلية مع زميله كندية أخري وهذه الشابة جدتها تعيش بنيويورك منذ فترة طويلة وبعد كمية من الوساطات والاستجدادات وافقت الجدة أن تفرض علي أبن أختها علي أن يكون ضامناً فوافق مشكوراً . أتفقنا مع أولياء أمور هذه الطالبة أن نأجر غرفة في شارع (وول ستريت) لقربه من الكلية ولسلامة الموقع لطالبات أعمراهن لم تصل الثامنة عشر ربيعاً بحيث يتشاركا أيجار المسكن الذي هو عبارة عن صالون ومطبخ تابع له وحمام بأيجار ثلاثة الف دولار شهرياً أي نصيب الفرد الف ونص هذا أضافة للمعيشة وتكاليف الدراسة التي تم تخفيضها الي حوالي ستين بالمائة لابنتنا لانها تحصلت علي منحة دراسية جزئية . أمام هذا الظرف الصعب الذي أضاف أعباء مالية أمامنا وأمام التزاماتنا تجاه أخيها الأكبر (أمير) الذي تم قبوله بكلية الطب علاوة علي الألتزامات الغير محدودة تجاه السودان في ذلك الوقت قبل أن تستفحل في زمن الحرب ، لم يكن أمامنا الا البحث عن مصادر دخل أخري سريعاً أتخذنا قرراً أنا وزوجتي التي تعمل كذلك بالحكومة الكندية أن نلجأ الي قيادة سيارتين مع شركة (الأوبر) أضافة الي الوظيفة الحكومية التي نشغلها والتي تتطلب الحضور الي المكتب من الساعة التاسعة الي الخامسة مساءً . شرحتُ للمدير هذه الظروف وأحتياجي لجدول خاص للحضور للعمل كي أوفي بالتزاماتي المالية فوافق مشكوراً علي الطلب . قبل الألتحاق كسائق بشركة (الاوبر) كنت أقود حافلة ترحيل للطلبة ذوي الأحتياجات الخاصة الا أنها لم تكن ذات عائد يذكر نسبياً حينها تم أتخاذ القرار الجماعي مع زوجتي بقيادة سيارة (الأوبر) . هذه كانت تجربة فريدة وغنية حيث تعرفت فيها لأول مرة علي شوارع وحانات المدينة وأناديها وباراتها وأحياءها الغنية والفقيرة أضافة الي مجتمعها السفلي . علي الرغم من الوظيفتين والأوبرين الأ أن الدخل لم يكن كافياً لتغطية الأحتياجات بحيث يتوجب التفكير في زيادته . عن طريق أحدي الصديقات التي تمارس حياكة ملابس العرائس أوشت لنا بان صاحبة المحل في أحتياج لعامل نظافة مرة في الأسبوع لكي يقوم بتنظيف المكان من بقايا الخيوط المبعثرة من الأقمشة والماكينات أضافة الي المطبخ والحمامات ، فما كان من زوجتي الا أن قبلت العرض وكنت يدها اليمني .
مدينة نيويورك من المدن الجميلة التي أحببتها رغم أنها ذات أيقاع سريع يختلف عن أتاوا الكندية ، حيث تتميز بسهولة الحركة وتخطيط شوارعها ومبانيها العتيقة . كنا حينما نذهب الي زيارة أبنتنا نأخذ معنا بالضرورة المواد التمونية من كندا حيث سعرها أرخص من نيويورك وبعض الأطعمة التي يتم طبخها بالمنزل حيث تساعد في تخفيض المنصرفات لفترة أسبوع أو أكثر وكذلك الحال عند زيارات أبنتي الينا . هذه أصبحت عاده مارسناها مع أبني وبنتي . لا نملك المقدرة المالية لجعلهم يتناولون الوجبات في المطاعم لذا يتوجب عليهم وعلينا تناول الطعام الذي يتم طهيه بالمنزل لقلة تكلفته مقارنة بالمطاعم . وحينما نزور (اليس) بنيويورك ، تعيش زوجتي مع اليس وصديقتها بحكم أنهم يسكنون في صالون واحد ولا مجال لي لمشاركتهم السكن . عليه كنت أستأجر سريراً بلكونده في غرفة مشتركة مع ثلاثة أشخاص آخرين (دبل بيد) بجوار (سنترال بارك) بهذا السكن توجد حمامات مشتركة ومطبخ وثلاجة يضع كل مستأجر مواده التمونية بها وعليها أسمه . في هذا المكان هنالك أشخاص يعيشون شهوراً عددا ، بعضهم حضر لدراسة اللغة وبعضهم في تبادل طلابي وبعضهم سواحاً . السرير في الليلة كان أيجاره خمسين دولاراً لكن حالياً أرتفعت الأيجارات .
مع شح الأمكانيات عاشت أبنتنا في ضائقة مالية الأ أنها أفادتها في التحكم في كيفية التصرف في الدخل والمنصرفات . في أثناء الدراسة تحصلت (اليس) علي عمل “بواب” مؤقتاً بالكلية ساعدتها نسبياً في تجاوز الظروف الصعبة في بلد لا رحمة فيه . بعض صديقاتها كانوا من المحظوظات أيضاً أحداهن تحصلت علي عمل طبيعته الخروج من المنزل للنزهة مع كلب من كلاب الميسورين وأخري كانت تعمل في متجر يبيع الأيسكريم . هذه الأشغال كلها تسير علي قدم وساق مع الدراسة الأكاديمية . كل الطلبة والطالبات في أمريكا وكندا يمارسون أعمالاً هامشية لزيادة دخلهم أثناء فترة الدراسة وفي الأيجازات الصيفية .
أكملت (اليس) دراستها في نيويورك بعد أربعة أعوام بأمتياز وأمتد بقاءها الي السنة الخامسة حيث تم أختيارها أثناء عروض أفلام التخرج علي خشبة المسرح الجامعي مع أثنين آخرين من قبل وكلاء يبحثون عن ممثلين سينمائين لتوقيع عقود عمل معهم . مهمة الوكيل هو ارسال الممثل/ة الي المنتجين السينمائيين لعمل معاينات لهم في حالة وجود أدوار سينمائية ليقوموا بأدئها . في العام الخامس الذي بقيت فيه (اليس) بنيويورك تم أختيارها في دور ثانوي في مسلسل “القانون والنظام” ، كذلك عملت بالكلية كمساعدة للشئون الأدارية وعملت بروضة أطفال كما كانت هنالك محاولات عديدة لبقائها بنيويورك بناء علي أتفاقية التجارة الحرة بين كندا والمكسيك وأمريكا الأ أنها فشلت لعدم أستيفاء شرط الأقامة الدائمة لها .
بأنتهاء (اليس) من دراستها الأكاديمية وبأصرارها ومساعدتنا لها أستطاعت هي وشقيقها الأكبر (أمير) من تحقيق رغباتهم في دراسة ما يريدون وهم ممتنون للوالدين بذلك .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *