على هامش ارتقاء البطل الجسور يحي السنوار ( أبو إبراهيم )
أمد/ نَم “هانئا” أيّها الشهيد..فالأشجار تموت واقفة..
“و فلسطين الرحيمة لا ترحم الجبناء..ومهما الرّصاص يجزّ رقابا.. يظلّ على شفاه الفلسطينيين الغناء..”(مظفر النواببتصرف)
“..وسألت عن شجر قديم،كان يكتنف الطريق إلى التلال/وبحثت عنغزة دون جدوى/وانتبهت إلى رماد نازل من جمرة الشمس التي كانت تميل إلى الزوال..”(عن الشاعر الكبير عبد المعطي حجازيبتصرف طفيف)
استشهاد القائد السنوار ومن سبقه من القادة لن يزيد حركتنا ومقاومتنا إلا قوة وصلابة.( خليل الحيةرئيس حركة حماس في قطاع غزة )
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الفلسطينيين وحدهم يستطيعون أن يتحدثوا عن أمل ممكن ينبجس من دفقات الدّم ووضوح الموت.المقاومة عندهم تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنوايا،وإنّما هي فعل وجود يصرخ أمام كل العالم بأنّ الإستعمار غير مقبول وبأنّ الحرية والسيادة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت سطوة المستعمر ودعم اليانكيوعماء الدول الكبرى المتفرّجة على فرق الموت وهي تستعرض عضلاتها على الغزاويين العزل..
أكتفي بأن أتابع المشهد.أنام وأصحو لأحصي عدد المستشهدين،أتابع مواكب الدّفن،وأسترق السّمع لصراخ الثكالى وهو يخترق سجوف الصمت العربي..
من أيّ موقع،إذن، أتكلّم ويكون لكلامي معنى أو ثقل ؟
أبو ابراهيم :أوقعتك القافلة سهوا عنك،سهوا عنّا ومضيت بخطى ثابتة صوب القدر المحتوم دون وجل ولا أرتباك،فحين إكتفى العالم بالتفرّج على الدّم الفلسطيني مراقا وعلى الجنائز تخبّ كلّ يوم في مشهد قياميّ مروّع بإتجاه المقابر..
ولكن..الرجال الأنقياء يولدون مصادفة في الزمن الخطأ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..
ماذا تبقّى؟
إستنكارات تذروها الرّياح زبدا وطواحين ريح..دبابات وقتلة مأجورون..عساكر..تقتيل وتفجير..جنائز تسير خببا بإتجاه المدافن..بيوت غزاوية يجتاحها النّوح..قلوب يداهمها الوجع كاسرا.ثكل ودمع ولا عزاء.. وغيوم رمادية في سماء فلسطين..
شهيدنا الفذ:منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من غزة الصامدة..
مشهد الإستشهاد كان مهيبا مروّعا:ليث يزأر تحت زخات الرصاص،نعيق المدافع ونباح الرشاشات..شيء في قاع الرّوح يتفتّت..دمع حبيس يدمي أوردة القلب..قلوب تطفح بأسى مهلك صامت مبيد..بطل يستشهد مقبلا غير
مدبر،صابرا،صامدا،مشتبكا،ممتشقا سلاحه وتتناقل الفضائيات مشهد إستشهاده ..هكذا كانموتكفرجويا متوحّشا بدائيا ساديّا ضاريا عاتيا فاجعا..هو ذا القتل على مرأى من الدنيا والعرب..الوطن العربيلم يصب بقشعريرة ولا
بإندهاش.إنّه”يأكل”بنيه.!
ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟..لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..
الرجولة الفذّة والصرخة الإحتجاجية التي تخترق في عنفوانها سجوف الصّمت،وتواجه بشموخ الإنحدار الرعوي ووحشية اليانكي وسفاحي تل أبيب..
الآن بعد رحيلكالقَدَري أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن يبدو المشهد العربي كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الدّم والدموع..
أيّها القائد الرّمز:لقد احتمى إسمك بالوجدان العربي حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل..ونحلم بولادة رمز في حجم شموخك يأتي منقذا ومخلصا..هذا الحلم ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيه الكرامة العربية مجرّد ذكرى،وتصبح الشعوب العربية مثل الهوام لا أمل ولا فرح ولا نسمة تهبّ منحقول النفط المضمخة بالهزيمة والإنكسار
وطوبى للحزانى لأنّهم عند الله يتعزّون..!
هي ذي غزة إذن وقد حاصرها الليل.مدينة أسطورية غدر بها الزمان.وللفلسطيني أن يدفع الثمن دما ودموعا.ولنا نحنالواقفين على شفا الهاويةأن نسمّي ذلكبطولة! كي ندرأ الوجع ونتخفّف من تأنيب الضمير..بل علينا أن “نبتهج”بالنظام العالمي الجديد صانع المعجزات.وكافر كلّ من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
أبو ابراهيم الشهيد االفذ:الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي..الزمان المفعم بإشراقات الآتي الجليل،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة وضربة الجلاّد..
الكون الحزين يرثيك.فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان..
هل كان الحمام الغزاوييعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا منقبيلته،بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن..!؟
نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى القدس.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوقغزةتضيئها بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..
قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول مخيم خان يونس حيث ولدت،معقل الرجال،كي يرثيك أهلك ومريدوك بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..
يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..
حين يأتي المساء الرّباني سننلتئم تحت خيمة عربية.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق الهضاب الفلسطينية..
أما أنتم ياسادتي الكرماء:إذا رأيتم البطل الغزاويمسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتمالشهيد/البطلنائما في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا سكينته بالكلمات.
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..
أيّها الشهيد الشامخ: الإمام علي بن أبي طالب لم يمت !..ما زال يجوب الأرض على صهوة فرس أبيض كي يطهّرها من دنس الفاسدين وشذّاذ الآفاق..لقد قُتل وهو يصلي صلاة الفجر،قُتل غيلة.وكان أن بكاه المسلمون بدموع حارقة والدنيا أصابها رجف وسُمع في الآفاق كلّها نوح ونحيب..
و أنت أيضا،قتلوك،غيلة،قتلوك وأنت ممسك بسلاحك،مشتبك، وترنو ببصرك إلى فلسطين وهي مضرّجة
بالمؤامرات،الدسائس،الشرور والدّم المراق..لكنّك ستظلّ وصمة عار على جباههم..لعنة أبدية تلاحق بسخطها الغزاة ومن ورائهمحفاة الضمير..وها أنّي ٍأراك على فرس من أثير معجون بالنور.تطارد أعداءك ولن تترجّل إلا يوم ينتصب الحقّ شامخا،يخرّ الباطل صريعا..وينبلج الصبح على فلسطين.
سلام عليك يا أبا إبراهيم..
سلام هي فلسطين..إذ تقول وجودنا تقول وجودها الخاص حصرا..فلا هويّة لنا خارج فضائها..وهي مقامنا أنّى حللنا..وهي السّفر..