اخبار السودان

إشكالية اللغة في السودان وشعارات الثورة

د. أيمن بشري

مقدمة
الذي يفرقنا هو الذي لا يقال “مقولة لبروفيسور فرانسيس دينق في كتابه حرب الرؤى” .

السودان هو أمة في طور التشكل. أي أمة لم تولد بعد ، والبدايات المتعثرة لعملية التخلق هذه لعب فيها عدم استيعاب جذور المشاكل دوراً كبيراً.. التعامل مع اللغات العديدة التي تتحدث بها شعوب السودان قد تشكل أحد أهم معيقات تخلّق الامة. فهناك اكثر من ٥٠٠ لغة يتحدثها أهل السودان. في محاولات سابقة لخلق أمة لها لغة واحدة وثقافة أحادية ، اتخذت اساليبٌ اقرب للفاشية فيما يخص اللغات ، منها تعذيب الأطفال في المدارس بالضرب او اهانتهم بطرق مختلفة عند تحدثهم بلغاتهم المحلية. ومن الصعب الجزم بامكانية الاحاطة بكلِ الآثار السلبية التي سببتها تلك السياسات من تشوهات نفسية وربما الى التوقف عن الدراسة.

١في شعارات الثورة
“أكبر واجباتنا هو تجنب الخطأ باعتبار أن الشعارات هي الحلولْ”
(ادوارد اي وورو صحفي امريكي).

حرية سلام وعدالة
ايس ثمة سؤالاً الإجابة عليه اكثر تقعيداً من السؤال عن مدى إيمان الفرد بشعار ثورة ديسمبر. فالسودانيون قوم لا يكادون يتفقون على شئ او مفهوم. فشعار الثورة الثلاثي واضح ، ولكن الارجح ان هناك تفسيرات وتخيلات مختلفة في أذهان الناس عن كل واحد من مكونات الشعار. ولدينا بعض النقاط المرتبطة بالشعار توضح ما ذكرته أعلاه ، وفوق ذلك سيكون هذا مدخلاً لموضوع اللغات في السودان:

النقطة الاولى:
إلى اي مدى نحن متشبعون بقيم الثورة الثلاثة اعلاه؟ التشبع بقيمة ما تسمى في علم النفس بال internalization وتعني ان الإيمان بالقيمة المعنية قد صار متعمقا بحيث أن القيمة قد صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصية المرء نفسه. والترجمة العربية هي الاستيعاب ، ولكنني اجد كلمة استيعاب مضللة ، فهي ربما تعني مجرد الفهم وليس التشبع بالقيمة وممارستها بصورة تلقائية. وربما كانت كلمة “الإيمان” أدق. ففي الاية الكريمة (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (الجحرات، الأية ١٤).
والإيمان بالقيمة أو التشبع بها يعني بالضرورة فهم تلك القيمة وفهم تبعات التمثل بتلك القيمة. ومن أكثر القيم التي أسيئ فهمها في السودان ، كما لم يتمثل بها الناس (not internalised) هي الديمقراطية نفسها .. وربما عدنا لهذا الموضوع في مقال آخر.

النقطة الثانية
وهي متصلة بالنقطة الاولى: ماهي أبعاد فهمنا لشعار الثورة الثلاثي؟
الحرية لمن؟
الحرية لنا ولسوانا كما يقول الجمهوريون ام لنا فقط؟ ومن نحن ومن انتم ومن هم؟
والعدالة لمن؟
والسلام؟ ألن يحققه انجاز الحرية والعدالة السلام؟

النقطة الثالثة:
وهي ايضا متعلقة بالنقطتين السابقتين:
شعارات الثورة الفرنسية كانت حرية إخاء وعدالة ..
الإخاء سقط من شعار الثورة السودانية.
الإخاء قد يحمل معاني أخرى مثل الاحساس بالاخرين empathy. وهذا الاحساس كفيل بحل كثير من المشاكل لانه يؤدي الى وضع النفس في محل الاخرين ، وهذا ادعى لفهم موقفهم ، حتى لو لم يتم الاتفاق معه.
والاخاء يتضمن ايضا ان القيم التي ننادي بها مثل الحرية والعدالة تشملنا كما تشمل الاخرين ممكن نعتبره إخوة لنا في الوطن. ولعل هذا قصده الله في القراءن في سبيلِ تكوين أمة (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات)، كما ورد في كثير من الاحاديث النبوية.
ومن العجيب أن حديث الرسول (ص) الذي يقول فيه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، يمكن تطبيقه بالحرف على وضعنا الثوري (لا يكتمل إيمان الثوار بالثورة حتى يحب الثائر لأخيه السوداني الآخر ما يحب لنفسه). أما لماذا علاقة الأخوة تحديداً، فذلك مبحث سنعود اليه في مقالٍ لاحق عن التعاطف (empathy).فهل سقط الإخاء سهواً؟ أم لاننا أمس حاجة للسلام؟ ولكن ألا تحقق الحرية والإخاء والعدالة السلام؟ .

٢ أهمية اللغة

“If you talk to a man in a language he understands, that goes to his head. If you talk to him in his own language, that goes to his heart.”

(إذا تحدثت لشخص بلغة يفهمها فإنك تخاطب عقله. إذا تحدثت لشخص بلغته ، فانت تخاطب قلبه روحه) نيلسون مانديلا

اللغة هي وسيلة التواصل الأساسية بين البشر. وهذا التواصل يحمل الأفكار والقيمة والثقافة. ولأن كل هذه الأشياء جزء من الذات ، فإن اللغة نفسها تعتبر جزء من الهوية الذاتية self identity .. ولأن الإنسان كائن إجتماعي بالفطرة ، فإن المرء ينحو بصررة تلقائية للإنتماء لمجموعة. لذلك تشكل اللغة ايضاً جزأ مهماً من الهوية الاجتماعية social identity للشخص. ومعظم الصراعات بين المجموعات تلعب فيها الهوية الاجتماعية دوراً محورياً.

٣ الهوية الشخصية وخطورة التجني عليها
يتشكل وعي الإنسان بالذات أو (الأنا) من عمر ال ٢٨٢٤ شهراً. أي ان الطفل منذ ذلك العمر يمكنه التعرف على نفسه في المرآة بحيث انك اذا وضعت حشرة مثلا على صورته في المرآة فإنه سيحاول إبعاد تلك الحشرة من جسده. ومع الزمن تتراكم التجارب والمعرفة فيصير تعريف الإنسان لنفسه أكثر تعقيدا .. فالهوية الذاتية متعدد الطبقات ، متعددة الأبعاد ومتعددة المفاصل (multilayered, multidimensional and multifaceted). ولكن يبقى هناك شئيئاً محورياً عند الجميع ، وهي تقدير الذات self esteem. وتقدير الذات هذا شديد التفاعل مع أحداث الحياة بحيث يمكنه الارتفاع والانخفاض طوال الوقت وربما تكفي كلمة واحدة لتغييره. فكلمة مدح أو تشجيع واحدة يمكنها التأثير إيجابياً على سلوك الفرد لمدة طويلة. كما أن الحط من تقدير الذات عند الأخرين قد تكون له عواقب وخيمة على الحالة النفسية للأفراد ، تمتد من المشاكل النفسية الى احباط الدفع النفسي motivation وبالتالي التحصيل الأكاديمي والتميز في العمل. كما أن انخفاض تقدير الذات مرتبط بارتفاع نسبة الجرائم ، الإدمان وغيرها. فهو احد اهم اسباب انعدام السلام الداخلي للفرد ، وبالتالي السلم المجتمعي..
وربط كل ذلك بما ذكرناه من الطريقة التي مورست بها عملية الإجبار على ترك التحدث باللغات المحلية في المدارس ، يمكن للحصيفين ربط بعض الإشكالات الحالية في السودان بتلك الممارسة. وهذا مجال يحتاج لدراسات متخصصة تنظر نسب التسريب المدرسي ، وسوء التحصيل الأكاديمي وغيرها.

٤ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو التطبيق العملي لشعارات الثورة الفرنسية. اي ترجمة الشعار للواقع. ولا توجد قوانين أو دساتير في الدول المتقدمة تتنافى نصوصها مع نصوص هذا الاعلان. والسودان من الدولة الموقعة على هذا الإعلان.
.هناك العديد من فقرات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعتبر ركائز أساسية في موضوع اللغات:
المادة ١:
يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
تعليق: هذه المادة تمثل روح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، فهي تثبت المساواة في الكرامة والحقوق ، كما تؤكد رابطة الإخاء (أنظر الفقرة ١ في هذا المقال).، والاعتراف بامتلاك الآخرين للعقل والوجدان يجعل احترام خيارات هؤلاء الآخرين ممكناً.
المادة ٢:
لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع ، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون ، أو الجنس، أو اللغة ، أو الدِّين ، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي ، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي ، أو الثروة ، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص ، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته.
المادة ١٨:
لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر والوجدان والدِّين ، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه أو معتقده ، وحرِّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم ، بمفرده أو مع جماعة ، وأمام الملأ أو على حدة.
تعليق: هذه المادة لا تتأتى دون ممارسة الفرد لحقه في التحدث بلغته.
المادة ١٩:
لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير ، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة ، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين ، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود .
تعليق: هذا الحق لا يمكن ممارسته دون تمتع الفرد بحقه في التخاطب بلغته.
المادة ٢٦:
1. لكلِ شخص حقٌّ في التعليم. ويجب أن يُوفَّر التعليمُ مجَّانًا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليمُ الابتدائيُّ إلزاميًّا. ويكون التعليمُ الفنِّي والمهني متاحًا للعموم. ويكون التعليمُ العالي مُتاحًا للجميع تبعًا لكفاءتهم.
2. يجب أن يستهدف التعليمُ التنميةَ الكاملةَ لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. كما يجب أن يعزِّز التفاهمَ والتسامحَ والصداقةَ بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية ، وأن يؤيِّد الأنشطةَ التي تضطلع بها الأممُ المتحدةُ لحفظ السلام.
3. للآباء ، على سبيل الأولوية ، حقُّ اختيار نوع التعليم الذي يُعطى لأولادهم.
تعليق: من هذه المادة يمكن الوصول الى أن للآباء الحق في طلب تدريس أطفالهم بلغتهم.

٥ ما يجب ان يكون عليه الحال
معالجة مشكلة اللغات في السودان يجب أن تكون في أعلى مستوى، أي في الدستور ، بحيث يُضمن عدم إصدار أي تشريع يتناقض مع نصوص الدستور.
الاعتراف بكل اللغات الاصلية في السودان. وعلى اهل تلك اللغات التواضع على الكيفية التي يمارس بها هذا الاعتراف على ارض الواقع وافتراض امتلاكهم الحكمة التي تمكنهم من التوفيق بين ممارسة حقوقهم ومتطلبات المستقبل لأبنائهم.
يحق لأي فرد ممارسة ثقافته ولغته بالشكل الذي يراه مناسبا وضمن قيود يتم الاتفاق عليها بموافقة أصحاب اللغات المعنية
تجريم اي تعدٍ على ثقافة ولغات الاخرين ، حتى لو كان هذا التعدي في اشكال ابداعية مثل النكات والمسرحيات.

٦ تصوّر شخصي في حال إحقاق الحقوق
بمجرد الإعلان عن الاعتراف بكل اللغات الأصلية في السودان كلغات رسمية ، فإن التوتر في المجتمع سيقل بدرجة كبيرة ، وسيرتفع احساس الناس بالانتماء للوطن و ستتعافى النفوس. سيرتفع تقدير الذات لمجموع أفراد الشعب السوداني فتزيد إمكانية التفوق الدراسي والوظيفي والإبداعي .
فإذ لن تكون هناك حاجة لإثبات الذات وإحقاق الحقوق عن طريق الصراعات.

٧ مقترح شخصي
السودان أمة لم تتشكل بعد والدليل هو كل الحروب والاضطرابات منذ الاستقلال ، وهي صراعات في أصلها بين شعوب السودان المختلفة
عند بناء الامة تحتاج لاختراع مصطلحات جديدة لكل الاشياء ، مثلا يمكننا تسمية الهيئة التشريعية بالبرلمان او الجمعية التشريعية أوالمجلس الوطني ومجلس الأمة. اقتراحي هو اختيار كلمة من أحد لغات السودان غير العربية لكل الكلمات التي تحتاج شرح وتعريف ، مثلا باستخدام كلمات أخرى من لغات اخرى على كلمات مثل: ممثل برلمان ، شرطي ، شارع ، زقاق … الخ.
اللهجة السودانية تحتوي الآن على كثير من الكلمات المنحدرة من لغات محلية ، ولن يكون غريباً إدراج تلك الكلمات في قاموسنا اللغوي الرسمي. وربما كان غريباً لأبناء جيلي أن يسمى البرلمان بال (كاشال) مثلاً ، ولكن لجيل أبنائنا سيكون ذلك الاسم عادياً وربما صار مصدر فخرٍ لتميزه وأصالته (الكاتب لا يعرف عما اذا كانت هناك كلمة كاشال في الغات السودانية المحلية) .
تبني مثل هذه السياسات جدير بتكوين أمة يحس الجميع بفخر الانتماء لها، مما يساعد على بلوغ نهضة وابداع عظيمين.

خلاصة:
موضوع اللغة موضوع معقد يشمل جوانب مفاهيمية ، نفسية ، اجتماعية ، دستورية وحقوقية .
التطبيق السليم لشعارات الثورة يتطلب فهم كل أبعاد القضايا السودانية التي تشكل مصدر اهتمام لأي فرد أو شعب في البلاد، يجمعنا الإخاء. عندها فقط نستطيع ان نزعم اننا بصدد انجاز مشروع ثورة قومية تنبي سودان يسع الجميع
الحرية والسلام والعدالة ليست كلمات خاوية ولكنها تحمل معاني لن يتم إستيعابها والتشبع بها بدون فهم أبعادها وتأثيراتها الحالية علينا والاخرين.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *