اكتوبر الوردي.. حرب السودان تحرم مريضات السرطان العلاج والأمل
كان اكتوبر من كل عام يشهد احتفالات وقصص شفاء ملهمة من سرطان الثدي في أنحاء السودان، لكن الحرب أضاعت العلاج والشفاء وحتى الأمل!
التغيير: كمبالا
(نون)، سيدة سودانية في العقد الخامس من عمرها، تعد من الناجيات من سرطان الثدي، لكنها لا تزال عالقة في دوامة المعاناة.
بعد تشخيص إصابتها بالمرض قبل عشر سنوات وخضوعها لجراحة استئصال الثدي، شعرت بالراحة لفترة وجيزة، ولكن سرعان ما عاد المرض ليضعها في مواجهة جديدة، أشد وأقسى من سابقتها، إذ عانت بشدة من توقف العلاج بعد اندلاع حرب 15 ابريل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ليأتي (اكتوبر الوردي) مختلفاً للعام الثاني توالياً في ظل أوضاع صحية غاية في السوء.
الحرب حرمت 2122 سيدة من حقوقهن في عيادات الفحص والكشف عن سرطان الثدي
نداء اكتوبر الوردي
“لا تتأخري، لا تهملي، ولا تنسي” هو نداء سنوي للنساء في أكتوبر، شهر التوعية بسرطان الثدي، لتشجيعهن على الفحص المبكر والمشاركة في فعاليات اليوم الوردي.
لكن هذا العام، ومع مرور 18 شهراً على الحرب التي اندلعت في منتصف أبريل العام الماضي، أصبحت الأوضاع الصحية أكثر قتامة.
ووفقاً للاختصاصية بمركز الخرطوم للعناية بالثدي دكتورة مرام محمد حامد، حُرمت 2122 سيدة من حقوقهن في عيادات الفحص والكشف عن سرطان الثدي، ولم تتمكن 1618 سيدة من إجراء فحص الماموقرام المبكر، بينما لم تؤخذ عينات من حوالي 300 سيدة لتأكيد أو نفي الإصابة.
إضافة إلى ذلك، فقدت 2024 سيدة متابعة علاجها مع أخصائي الأورام، وتواجه 3500 سيدة صعوبة في الحصول على جلسات العلاج الكيميائي، و200 سيدة لم تتمكن من إجراء العمليات الجراحية اللازمة، بينما لم تُجرِ 6000 سيدة الفحوصات المعملية الضرورية وذلك بعد 6 اشهر من بداية الصراع.
تأثير مدمر
تسببت الحرب في حرمان النساء السودانيات من حقوقهن الصحية الأساسية. وتوضح دكتورة مرام أن هذا الوقت من كل أكتوبر كان يشهد احتفالات وقصص شفاء ملهمة، إلا أنه في هذا العام، كانت أصوات المدافع أعلى من أي شئ آخر.
وأشارت إلى أن مركز الخرطوم للعناية بالثدي كان على مدى 12 عاماً ملاذاً آمناً للنساء، ليس فقط لتلقي العلاج، بل لتبادل القصص وتقديم الدعم النفسي والمجتمعي.
هذا الدعم أصبح الآن شبه معدوم، حيث توقفت المستشفيات والمراكز الرئيسية في الخرطوم والجزيرة عن العمل، مما أضطر الناجيات للبحث عن علاج في مستشفيات بعيدة مثل كوستي أو مروي، أو حتى اللجوء إلى خارج البلاد.
سقوط ود مدني في ديسمبر من العام الماضي كان نقطة تحول مؤلمة في رحلة علاج (نون)
رحلة علاج مضنية
(نون) كانت من بين النساء اللاتي عانين من توقف العلاج. “بعد اندلاع الحرب في الخرطوم، توجهت إلى ولاية الجزيرة، ود مدني، لتلقي الجرعات والجلسات العلاجية. في البداية، تعثرت الجلسات ولم تكن منتظمة، ولكن مع مرور الوقت، بدأت الأوضاع في المركز تتحسن”.
أوضحت (نون) أن نتائج التحاليل كانت مشجعة، وأظهرت تقدماً في محاصرة المرض، حيث قرر الأطباء أن تصبح الجلسات متباعدة، بحيث تكون كل ثلاثة أسابيع بدلاً عن أسبوعياً.
لكن سقوط ود مدني في ديسمبر من العام الماضي كان نقطة تحول مؤلمة في رحلتها، حيث انقطعت عن العلاج لثلاثة أشهر بسبب النزوح من مدني إلى سنار، ثم استقرت في ربك بولاية النيل الأبيض. وواصلت العلاج من هناك.
تكلفة الجلسات العلاجية أصبحت عبئاً كبيراً، كما أكدت (نون)، وأوضحت أن الأدوية التي تحتاجها الجلسة الواحدة تتجاوز ستمائة ألف جنيه.
ولفتت إلى أن هذه المعاناة ليست قاصرة على مدني فقط، بل تمتد إلى مستشفى مروي في الولاية الشمالية، حيث يواجه المرضى نفس التحديات في الحصول على العلاج المناسب.
(عايدة) تلقت جرعة منتهية الصلاحية ما أدى لانتشار المرض والعودة لنقطة البداية
من الأمل إلى الانتكاسة
حكاية (عايدة) وهو اسم مستعار، تعكس جانباً آخر من المعاناة. فقد واجهت لمدة خمسة أعوام سرطان الثدي، وكانت تستعد لإنهاء جلساتها العلاجية في مستشفى الذرة ولم يتبقَّ لها سوى جلستان.
قالت في مقابلتها مع (التغيير): “قبل أن تكتمل فرحتي بقرب نهاية العلاج، احتدم الصراع في الخرطوم”.
توجهت إلى الجزيرة، حيث قابلت طبيبين لاستكمال الجلسات، لكنهما لم يتمكنا من تحديد نوع الجرعة وحجمها بدقة. وبعد محاولات عديدة، توصلوا أخيرًا إلى وصفة الجرعة المطلوبة، ولكن قبل أن تتمكن من أخذها، دخلت قوات الدعم السريع ود مدني.
لذلك اضطرت (عايدة) للعودة إلى ولايتها شمال كردفان بحثًا عن الجرعة، وبعد جهد كبير، تمكنت من الحصول على جرعة واحدة فقط، ثم قررت التوجه إلى مصر بحثاً عن علاج أكثر فعالية، لتكتشف بعد مقابلتها الأطباء هناك أن الجرعة التي تلقتها كانت منتهية الصلاحية، ما أدى إلى انتشار المرض في ثديها الآخر والدم، لتعود إلى نقطة البداية من جديد.
اختصاصي الأورام د. عمر عباس: تأخير الجرعات يمكن أن يؤدي لانتكاسة وانتشار المرض وقد يتسبب في الوفاة
خطورة الانقطاع
اختصاصي الأورام د. عمر عباس، تحدث عن خطورة توقف العلاج، وأشار إلى أن انتظام الجرعات العلاجية أمر حاسم في السيطرة على السرطان.
وذكر في مقابلة مع (التغيير)، أن الجرعات العلاجية تتطلب انتظاماً دقيقاً في تناولها، وأي تأخير يمكن أن يترك آثاراً سلبية.
وأوضح أن التأخير في أخذ الجرعات، سواء كان بسبب عدم توفر الجرعة، أو لظروف مادية، أو نتيجة للوضع الأمني المتردي في البلاد، يمكن أن يؤدي إلى انتكاسة، وتحول الحالة السرطانية من عضو واحد إلى انتشار المرض في أنحاء الجسم، وقد يتسبب في الوفاة.
وأكمل حديثه قائلاً: “الاستمرار في العلاج هو المفتاح لتحقيق التأثير الطبي الإيجابي، والانقطاع يضعف فعالية الجرعات”.
وأوضح اختصاصي الأورام أن العودة للعلاج بعد انقطاع طويل قد تفقد العلاج فعاليته إلى حد كبير، مما يعقد الحالة ويزيد من احتمالات الوفاة.
نصحوها بـ”شيخ” يعالج السرطان ويسئت بعد شهرين من تلقي العلاج دون تقدم
علاج بديل
ليلى حمد النيل، مصابة بسرطان الثدي، هاجمت طرفي الحرب في السودان، متهمة إياهما بتدمير البنية التحتية والمرافق الصحية.
وقالت لـ(التغيير): “حتى قبل الحرب، لم تكن مستشفى الذرة أو المراكز المختصة بعلاج السرطان على قدر عالٍ من الكفاءة. ولكن خلال الحرب، ازدادت الأوضاع سوءًا”.
وأشارت إلى أن توقف مستشفيات الخرطوم وود مدني أدخل المصابات بسرطان الثدي في أوضاع صحية غاية في التعقيد، حيث توفيت العديد من المريضات اللاتي تعرفت عليهن خلال فترة علاجها بسبب عدم استمرارية.
وأضافت ليلى: “بعض المريضات لجأن إلى دول الجوار لمواصلة علاجهن، أما أنا ومن فضلن البقاء في السودان، فقدنا الأمل في استقرار البلاد أو مواصلة العلاج بفعالية.
ومع تزايد تكاليف الجلسات، لجأت إلى العلاج البديل. واتبعت نصيحة أقاربها بالذهاب إلى أحد “المشايخ” الذي يشتهر بعلاج السرطان باستخدام القرآن والأعشاب الطبيعية. لكنها اعترفت بعد مرور شهرين من العلاج أنها لم تلاحظ أي تقدم، ما جعلها تشعر باليأس، في ظل تفاقم معاناتها الصحية.
الحرب الدائرة في السودان لم تؤثر فقط على البنية التحتية والمرافق الحيوية، بل أضافت عبئًا هائلًا على المرضى، وخاصة المصابات بالسرطان، فبينما كانت آمالهن في الشفاء تلوح في الأفق من خلال العلاجات والجرعات المنتظمة، جاءت الحرب لتقوض كل تلك الآمال، تاركة العديد منهن في مواجهة معاناة مضاعفة.
المصدر: صحيفة التغيير