حصر الكليات الضرورية والدعوة لتوسيعها
بداية، وقبل الخوض في موضوع الدعوة لتوسيع مجال الكليات الضرورية، فلا بد أن نعرف أولا ماهية الأصل الضروري الذي تنتمي إليه هذه الكليات وتأخذ قوتها ورسوخها منه. فقد عرفه الإمام الشاطبي بقوله: “أما الضروريات فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد، وتهارج، وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة، والنعيم، والرجوع بالخسران المبين”. وعرفه الإمام ابن عاشور فقال: “المصالح الضرورية هي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها، بحيث لا يستقيم النظام بإخلالها بحيث إذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش”.
لكن الإمام ابن عاشور يؤكد، بعد هذا التعريف، على أن اختلال نظام الأمة جراء فقدها للضروري لا يعني هلاكها واضمحلالها؛ لأن ذلك في نظره قد سلمت منه أعرق الأمم في الوثنية والهمجية، وإنما الذي يترتب على ذلك أن تصبح حياة الأمة كالأنعام، فتخرج بذلك عن النظام الذي أراده لها الشارع سبحانه وتعالى، إلا أنه استدرك بعد ذلك قائلا: “وقد يفضي بعض ذلك الاختلال إلى اضمحلال الآجل بتفاني بعضها ببعض، أو يتسلط العدو عليها، إذا كانت بمرصد من الأمم المعادية لها أو الطامعة في الاستيلاء عليها”.
والذي نستخلصه من كلام الإمام يمكن حصره في أربع نقاط، هي أن الضروري يشمل الجانب الديني والدنيوي، وإن إقامة الضروري ثابت في حق المجموع، كما هو ثابت في حق الأفراد، وإن وضعية الضروري في الحياة الفانية تترتب عليه وضعيه الأفراد في الحياة الآخرة، وإن فقدان الضروري يعني اختلال نظام الحياة البشرية، ولا يعني انعدامها، كما وضح ذلك الإمام ابن عاشور. وبعد هذا، أنتهي إلى القول: الضروري هو ما يتم بإيجاده جريان المصالح الدينية والدنيوية على وجه لا يختل به نظامها المشروع، وفي انعدامه يتطرق إليها التهارج واختلال النظام في حالة الاجتماع والانفراد.
فبعد فهمنا لمعنى الأصل الضروري، ننتقل لبيان المقصود بالكليات الضرورية، وهي التي تشكل العناصر التي تقوم عليها حياة البشر، ويجري بها نظام مصالحهم الدينية والدنيوية على الوجه المشروع، وبناء عليه، فإن حفظ هذه الكليات معناه المحافظة على الأصل الضروري والإخلال بها أو بواحدة منها إخلال بالضروري.
ولهذا، كانت هذه الكليات مطلوبا المحافظة عليها في كل ملة من الملل السالفة، يقول الغزالي في هذا السياق: “وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها صلاح الخلق، ولذلك، لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر…”. ويؤكد هذا الكلام الإمام الشاطبي فيقول: “فقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس…”.
ويحصر العلماء كليات الضروري في خمس كليات هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وتواتر سير الأمة على هذه الكليات الخمس من عصر الغزالي الذي يعدّ واضعها ومحدّدها، ويؤكد الآمدي هذا الحصر بقوله: “والقصر في هذه الخمسة الأنواع إنما كان نظرا إلى الوقوع والعلم بانتفاء مقصد ضروري خارج عنها في العادة”.
واستمر الأمر بعد الآمدي على هذه الحال، حتى جاء الإمام ابن عاشور الذي استخلص، من خلال بحثه واستقرائه أن حصر كليات الضروري في الخمسة السالفة غير كاف لإقامة الضروري. وبناء عليه، رأى الإمام ابن عاشور أنه يجب علينا أن نلتفت إلى عنصر الحرية؛ لأن الشارع الحكيم قد تشوف إليها واعتبرها في مواقع متعدّدة، وهذا ما يكسبها قوة الضروري، ولذلك، تجده عقد لها فصلاً في كتابه “مقاصد الشريعة”، ولكنه لم يلحقها بالضروري عندما تحدث عن كلياته، مكتفيا في ذلك بتنبيه الباحثين المسلمين إلى هذا الكلي ودراسته وإدراجه ضمن إطار الضروري، ثم بدأت بعد ذلك محاولات إعادة النظر في كليات الضروري تتوالى، وبدأت الأصوات التي تنادي بتوسيع مجال الضروري تتعالى، ومن هذا القبيل ما دعا إليه الشيخ محمد الغزالي بإضافة العدالة والمساواة زيادة على الحرية التي دعا إلى إضافتها ابن عاشور. ثم جاء بعد ذلك الحمليشي الذي دعا بدوره إلى إضافة العدل، وحقوق الفرد وحريته إلى عناصر الضروري، ثم جاءت دعوة أحمد الريسوني إلى إعادة النظر في حصر الضرورات في الخمس المعروفة، وفتح الباب للزيادة مع مراعاة موازين العلم وأدلته.
والذي أراه في هذا الموضوع إضافة عنصر الحرية التي حاز ابن عاشور فضل التنبيه إليها، فتصبح كليات الضروري ستة هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، والحرية. أما فيما يتعلق بإضافة العدل وحقوق الإنسان، فإن إقامة عنصر الدين كفيل بها، وما قانون جلب المصالح ودرء المفاسد الذي حرصت الشريعة على تمكينه وتحكيمه في جميع الأحكام الشرعية إلا إصرار من الشارع على إقامة العدالة في المجتمع وإجراء لقانون المساواة بين أهله.