اخبار السودان

محمد المكي إبراهيم: شاعر الثورة والخيال

أمير تاج السر

منذ فترة قليلة، رحل الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم، أحد الذين ظهروا في ساحة الشعر السودانية، أيام مجد الشعر، الذي يستوعب كل صغيرة وكبيرة، وينتشر سريعا بين الناس، ويردده حتى الذين لا يعرفون ماذا تعني الكلمات، وما ضرورة كتابتها.
ومعروف أن ذلك الزمن الذي يعتبر جميلا فعلا،، أتحفنا غير محمد المكي بشعراء أفذاذ مثل محمد عبد الحي، والنور عثمان أبكر، وآخرين ما زالت قصائدهم تختال في أرض الشعر، رغم مرور سنوات طويلة على كتابتها، ولعل النضال ضد الاستعمار، والوطنية الجارفة بعد زوال الاستعمار، إضافة إلى التأثر المبرر بالثقافة الافريقية، والميثولوجيا والأساطير، أسهم في ذلك التميز.
أعرف محمد المكي إبراهيم كشاعر رمز، منذ زمن طويل، وأنا من جيل تعلم حيل الكتابة الروائية من حيل الشعر، وكان هو من الذين حفظت قصائدهم، ورددتها في محافل مختلفة، أيام المدرسة، في الجمعيات الأدبية، والاحتفالات الوطنية التي يحضرها أولياء الأمور، وتوزع فيها الجوائز، وبعد ذلك أيضا، ليست تلك التي تسمى الأكتوبريات، فقط، وتتحدث بجسارة عن ثورة أكتوبر/تشرين الأول المجيدة، بداية ستينيات القرن الماضي، التي تغنى بها الشعر كثيرا، وسطر فيها الملاحم، وغنى أيضا المطربون في هواها، ولكن حتى تلك القصائد الأخرى التي اشتهر بعضها، مثل: بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت، وقصيدة: إهانات شخصية لابن الملوح، التي تجلت فيها شاعرية المكي بشدة، وبرز خياله الجميل، في توجيه عتاب شفيف لقيس بن الملوح، سيد العشق العذري، عبر التاريخ.
كانت تلك القصيدة، أعني إهانات شخصية لابن الملوح، من قصائدي التي أرددها يوميا، حتى بيني وبين نفسي، وأندهش من خيال الشاعر الذي، قال فيها ما لم يقل أحد غيره، في قصة حب أسطورية، عبرت التاريخ إلى زماننا، وقطعا تعبر إلى أزمنة مقبلة. كل يكتب عن روعة الحب، ولم يفكر أحد في إذلال الحب، وإن ما حدث لقيس كان إهانة وليس مجدا. بعد ذلك بسنوات كنت عرفت فيها النور عثمان أبكر، وتحول إلى أب روحي لكتاباتي، وقارئ أول وناصح لكل ما أستطيع كتابته، التقيت بمحمد المكي في الخرطوم، كنت قدمت روايات لا بأس بها، ودعيت مع المكي إلى حفل تكريمي لنا معا أقامته وزارة الثقافة، أيام أن كان الشاعر صديق المجتبى وزيرا، وكان رجلا يقدر المبدعين كثيرا. كان المكي قد جاء من أمريكا التي يقيم فيها منذ تقاعده، في إجازة بدت لي استكشافية مع احتمال عودة عكسية للسودان، للحياة وسط أهله ومحبيه. ولأن شاعرا في ضخامته وشهرته لا يمكن العثور عليه بسهولة، انشغلت بمحمد المكي، حدثته عن قصائده التي أعشقها والتي أعرفها من دون عشق كثيرا وأسمعته إهانات شخصية لابن الملوح وطرب لذلك، ومعروف أن الشعراء تطربهم قصائدهم حين يرددها آخرون، حتى الكتاب النثريون، يطربون أيضا إن وجدوا من ينشغل بنثرهم، ويقرأه على مسامعهم.

كان شهرا عظيما وممتعا بصحبته، ذلك الذي قضيته في الخرطوم، نلتقي يوميا، نجلس في محل إقامته منذ الصباح إلى أول المساء، نتحدث في الشعر والأدب، أهديته روايتين لي كانتا متوفرتين تلك الأيام، وعرفت أنه حاول كتابة الرواية، لكنه لم يكن مقتنعا بما كتبه، وقد يحاول الكتابة مرة أخرى، لكن لا أظنه فعل.
الشيء الذي لاحظته في اقترابي من الشاعر تلك الأيام، أنني لم أكن وحدي من يتحاوم حول تجربته، ويلتقيه يوميا، كان ثمة كتاب وشعراء وصحافيون، وبعض المحبين الذين ليسوا مبدعين، كلهم يعرفون من النبع، بعد أن توفر في البلاد في ذلك الصيف. كان يقول إنه قد يستقر هنا، وسط الناس، وقد يسافر ويعود باستمرار، وغالبا سيبقى في النهاية، والحقيقة لم تكن البلاد في أي وقت مغرية بالبقاء فيها، لمن جرب الحياة في الغرب، إنها بلاد نعشقها بكل ما فيها من عدم إغراء، وحتى بعد أن دمرتها حرب العبث، تظل البلاد الجميلة في نظر من تآلف معها.
ما يمكن قوله إن تجربة شعراء ذلك الجيل كانت مسنودة شعبيا بشدة، أي شاعر منهم كان يمكن أن يحيي أمسية كاملة وغاصة بالجمهور، تماما مثل أي مغنٍ، بعكس شعراء هذا الزمن، الذين لن تجد في ندواتهم سوى عدد قليل من محبي الشعر، وربما لأن سماع الشعر في ذلك الوقت كان نوعا من الترفيه، بينما الآن تعددت سبل الترفيه، ملغية ما كان سائدا.
أيضا تلاحظ أن تجارب أولئك الشعراء العظماء كانت غنية في المعنى، لكن كانوا مقلين ونادرا ما تجد دواوين كثيرة أو غزيرة الصفحات، وأظنها سمة تسهل ملاحظتها، ولست متأكدا لكن لا أظن قصائد محمد المكي إبراهيم فاقت الستين قصيدة، فلم أر له مجموعات جديدة بعد مجموعاته القديمة.
وعلى الرغم من ذلك يظل محمد المكي إبراهيم صخرة صلدة من صخور الشعر في السودان، وفقده يحدث خللا كبيرا، نحن كقراء وتلاميذ نحس بالاطمئنان في وجود من تعلمنا منهم، ويتهاوى رسوخنا بمجرد أن يرحلوا، وأذكر حين رحل النور عثمان أبكر، وبعده بقليل الطيب صالح، كان الأمر شديد الوطأة.
وفي زمن مظلم مثل الذي نحياه، نحتاج إلى نشيد قوي مثل أناشيد أكتوبر، ليستيقظ النائمون، ويلتفتوا ليلحقوا بما تبقى من أنفاس الوطن.

القدس العربي

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *