اخبار المغرب

أحضان النجاة.. دعم الأسر لبناتهن المتعرضات للابتزاز الإلكتروني يجنبهن الانتحار

تقف وحيدة ليلاً على جانب الطريق، عازمة على إنهاء حياتها تحت عجلات إحدى السيارات المسرعة، قبل أن تُفاجأ بزميل لها في اللحظة الأخيرة معترضاً طريقها، متشككاً فيما يدور بخَلَدها. لم تكن تلك محاولة الانتحار الوحيدة لوعد المصرية (اسم مستعار)، التي عانت الابتزاز الإلكتروني لسنوات، ومع ذلك لم تلجأ إلى أهلها حين ابتزها الشاب خوفاً من أن تصبح ضحية جريمة شرف.

تعود أحداث القصة إلى عام 2019، عندما ارتبطت وعد عاطفيّاً بأحد زملائها؛ ولكن بعد فترة من العلاقة شعرت بعدم الأمان، وقررت الانفصال عنه، لكنّه رفض ذلك بشكل صريح، وحاول ابتزازها عاطفيّاً. وأمام تمسكها بقرار الانفصال، بدأ بملاحقتها ليس فقط في نطاق حيها السكني، بل أيضاً في أحد شوارع وسط القاهرة، بعد انتهائها من حضور إحدى الفعاليات.

الخوف من الأهل إهدار للحقوق

وعد واحدة من فتيات مصريات يتعرضن للابتزاز الإلكتروني، وبدلاً من التوجه إلى مباحث الإنترنت للإبلاغ عن تلك الجرائم، يستسلمن إلى تهديدات المبتز أو يُقدمن على الهروب أو الانتحار. ويرجع ذلك في بعض الحالات إلى خوف الفتاة من مواجهة أسرتها، حتى لا تتعرض للعنف الذي قد يهدد حياتها، بمجرد معرفتهم أن ابنتهم كانت على علاقة بأحدهم، أو نتيجة لعدم تصديقها إذا لُفّقت لها صور أو محادثات من قبل أحد المبتزين بحسب ما ورد في دراسة عن العنف الرقمي ضد المرأة في مصر، أصدرتها الشبكة العربية الرقمية بالتعاون مع كل من مؤسسة سيكديف (هي منظمة غير ربحية كندية تدعم استخدام التكنولوجيا لتعزيز الشفافية والمساءلة والأمن) ووزارة الخارجية الفيدرالية وهو ما يضطرها إلى إخفاء الأمر عن أهلها، حتى لو كان ذلك على حساب سلامتها وأمانها، كما فعلت وعد التي لم تفكر سوى في احتمالية تعرضها لجريمة شرف على يد أهلها؛ لذا فكرت في الانتحار للمرة الثانية، علّها تنهي هذا الكابوس الذي عاشته لسنوات.

ووفقًا لاستبيان « الابتزاز والجرائم الإلكترونية في مصر »، الصادر عن « مبادرة اتكلم/ي Speak Up » في 2024، والذي شارك فيه ثلاثة آلاف و176 شخصاً، 90 في المئة منهم إناث، تبيّن أن عشرة في المئة فقط من إجمالي العينة تقدموا ببلاغات رسمية. وجاء « الخوف من الأهل » في المرتبة الثانية، بعد « عدم المعرفة بإمكانية الإبلاغ والإجراءات القانونية »، ضمن أسباب عدم الإبلاغ عن جرائم العنف الرقمي.

وتُؤكد عزة مصطفى، رئيسة مجلس إدارة جمعية صبايا الخير للتنمية، أن الخوف من الأهل دفع كثيراً من الحالات التي رصدتها الجمعية إلى الهرب من البيت، أو محاولة الانتحار، أو الانتحار فعلاً.

ويصف الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، الفتاة التي تُفكر في الانتحار أو تُقدم عليه جراء خوفها من أهلها، أو توتر علاقتها بهم، بصاحبة « الشخصية العصابية »؛ وهي على النقيض تماماً من الفتاة ذات الشخصية العقلانية الهادئة، التي تلجأ إلى أهلها وأصدقائها لطلب الدعم والنجدة، عند تعرضها للمشكلة نفسها.

تباين في ردود أفعال أهل الناجيات

وبعيداً عن العنف، قد تصدر عن الأهالي ردود أفعال أخرى؛ فمنهم من يتحلى بالثبات الانفعالي، ويتغاضى عن التعمق في تفاصيل الموضوع، حتى لا يتعرض للصدمة أو الغضب من ابنته، كوالد وعد الذي رفض الحديث عمّا حدث، واكتفى بمتابعة سير المحضر الذي حررته ابنته ضد المبتز. ومنهم مَن يلقي باللوم على الفتاة وحدها دون الرجل، كما فعل أشقاء مريم (اسم مستعار)، التي بدأت حكايتها مع الابتزاز الرقمي في فبراير من عام 2022، عندما تلقت عدة رسائل ذات محتوى جنسي، وتهديدات صريحة بالتحرش من شخص مجهول عبر تطبيق ماسنچر

في بداية الأمر، رفض أهل مريم قرارها بالإبلاغ عن ذلك المجرم؛ خوفاً عليها من الوصم المجتمعي، كما حمّلها أشقاؤها الذنب وحدها في ذلك؛ معتقدين أنها المتسبب الوحيد في تعريض نفسها لذلك النوع من الإيذاء، لطبيعة ما ترتديه من ملابس، وما تنشره من صور لها على مواقع التواصل الاجتماعي.

ويرى دكتور فرويز أن التباين في ردود الأفعال يعتمد على نوع الشخصيات داخل الأسرة، وطبيعة الإمكانيات والقدرات المتاحة أمامهم، وكذلك الظروف المحيطة بهم. كما يرى أن لوم الفتيات اللاتي يتعرضن للابتزاز الرقمي يقترن بطبيعة « المجتمع الذكوري » الذي ينتمين إليه، فإلقاء اللوم على الفتاة أمر معتاد، كونها العنصر الضعيف في القصة.

عندما يصبح الأب بطل ابنته

وبينما كانت مريم تتعرض إلى لوم أشقائها؛ كان أحمد يونس صانع محتوى يقدم سبل الدعم والحماية كافة لشقيقته شيماء صانعة محتوى أيضاً التي مرت بتجربة شبيهة، على يد أحد المبتزين قبل إلقاء القبض عليه.

« أنا كنت عايزاك يا بابا توعيني، وتكون جنبي، وتتكلم معايا »، هكذا تصف وعد علاقتها السطحية بوالدها، فكان في حياتها غائباً حاضراً؛ لم يكن قريباً منها، فكانت محادثاته معها محدودة تتعلق بالسؤال عن سير أمور عبادتها ودراستها، ما صعّب عليها رحلتها داخل أعماق نفسها، لاكتشاف وجهتها في الحياة من دون نصيحة أو مشورة من أقرب الناس إليها، خصوصاً بعد انتقالها للعيش في القاهرة وحدها، من أجل الدراسة والعمل.

يصف دكتور فرويز مركزية دور الأب في الأسرة بقوله: « الأب هو مظلة الأسرة، وكلما كانت علاقته بابنته قوية، لجأت إليه لحل مشكلاتها، وعلى النقيض تماماً كلما كانت العلاقة غير ناضجة، زادت فرصة وقوعها فريسة لجرائم الابتزاز؛ بسبب بحثها عن العاطفة المفقودة، التي لم يمنحها الأب إياها ».

ولعل أبلغ مثال على ذلك، قصة الطفلة سيرينا صاحبة الـ 11 عاماً؛ فوالدها محمد طلبة لم يكتفِ بكونه أباً محبّاً وداعماً في حياة ابنته؛ بل تحول لبطل شجاع، أنقذها من براثن أحد « وحوش الابتزاز الإلكتروني ».

وتعود أحداث تلك الواقعة إلى عام 2022، عندما شارك الأب منشوراً عبر تطبيق الفيسبوك، يؤكد فيه حبه ودعمه غير المشروط لطفلته الصغيرة، التي لم تلجأ إلى أحد سواه، عندما تعرضت لإحدى جرائم الابتزاز الإلكتروني. فما كان من الأب إلا أن تصرف بحكمة، وأوقع بالمبتز في شر أعماله، فتقدم ببلاغ رسمي إلى مباحث الإنترنت، التي ألقت القبض بدورها على المتهم.

دعم الأهل ينقذ حياة الناجيات

بعد شهور كاملة من الرعب عاشتها وعد، لم تتوقع تغير موقف أهلها؛ فبعد أن قررت إنهاء حياتها بإخفاء سكين في حقيبتها، قبل مقابلة والدتها وخالها، اللذيْن سافرا إلى القاهرة خصيصاً لوضع حد لتلك الأزمة؛ حدث ما لم يكن في الحسبان، وفق وعد: « بمعجزة من ربنا الحال اتقلب ».

تعتقد وعد أن سبب دعم أهلها لها، هو إدراكهم حقيقة أن خسارتها كانت وشيكة، إن لم يقفوا بجانبها. تقول وعد في هذا الصدد: « أهلي تقبلوني علشان أنا بنتهم، وفهموا إن حياتي أهم، وأنا قدّرت فيهم عدم الإلحاح لمعرفة أيّ تفاصيل حصلت بيني، وبين هذا الشخص في الماضي؛ لأنهم شعروا إنه أكيد فيه تفاصيل تضايق، لو سمعوها هيزعلوا؛ لذلك اختاروا الوقوف عند هذا الحد، وما هوَّن عليهم أن القضية مستمرة، وقد ينال المخطئ عقابه في النهاية ».

يؤكد دكتور فرويز أهمية دور الأهل في دعم ابنتهم قائلاً: « إن تقديم الدعم النفسي للفتاة من قبل أهلها، من شأنه أن يُخفّف وطأة الصدمة على صحتها النفسية، خصوصاً إن كانت ذات شخصية عصابية تفكر في الانتحار، أو الهرب من البيت، أو الانعزال عن الآخرين، فمساندة الابنة في التغلب على أثر هذه التجربة، يمنحها القوة الكافية لمواجهة المبتز، وعدم الاستسلام أمام تهديداته ».

وهناك سلوكيات تصدر عن الفتاة التي تتعرض للابتزاز الإلكتروني، من شأنها أن تنبه الأهل إلى ضرورة التدخل الفوري، لدعمها وحمايتها، يوضح دكتور فرويز هذه السلوكيات بالقول: « الأرق من أكثر السلوكيات التي تنبه الأهل بوجود مشكلة تحتاج إلى تدخل سريع، أيضاً الاستلقاء في السرير طوال اليوم دون رغبة في فعل أي شئ، وقلة الأكل أو الإفراط في تناوله، إلى جانب ردود الأفعال البطيئة وعدم التركيز، وقلة الكلام، أو خفوت الصوت، والتحدث بشيء من الغموض ».

وفي هذا الإطار، تقول جهاد حمدي، مؤسسة مبادرة اتكلم/ ي Speak Up: « مهما عمل الأهل فلن يستطيعوا منع بناتهم من التعرض للمشكلات؛ لكن دورهم أساسي في الوقوف معهن، إذا ما وقعن في مشكلة كالابتزاز الإلكتروني، فيجب احتضانهن ومساعدتهن بدلاً من أن يكونوا أداة تخويف يستخدمها المبتز ضدهن ».

مؤسسات المجتمع المدني وتوعية الأهل

وكما تحرص مبادرة اتكلم/ ي Speak Up، على رفع الوعي المجتمعي بجرائم الابتزاز الإلكتروني والعنف الرقمي؛ تُقدم مبادرة « بر أمان » أيضاً عدداً من الورش التوعوية للفتيات والأهالي. تقول ميار مكي، مؤسسة المبادرة: « نعمل على توعية الأهل بضرورة بناء ثقة متبادلة بينهم وبين بناتهم، ليكونوا مصدر الأمان لهن؛ لأن في كثير من الأحيان تخشى الفتيات رد فعل الأهل عند تعرضهن لأي شكل من أشكال الابتزاز الإلكتروني، ويصل بهن الأمر في بعض الأحيان إلى محاولة الانتحار أو الانتحار فعلاً ».

كذلك فيما يخص جرائم العنف الرقمي لا يقتصر دور جمعية « صبايا الخير للتنمية » على دعم الناجيات فقط، بل تؤدي الجمعية دوراً محوريّاً في توعية أولياء الأمور، من خلال تقديم الندوات التوعوية بالأمان الرقمي، وسبل مناهضة جرائم الابتزاز الإلكتروني.

« تمكنا من إقناع عدد كبير من الأهالي بضرورة دعم ومساندة بناتهم، بعدما تواصلنا معهم وأخبرناهم أن بناتهم لسن وحدهن اللائي يتعرضن لهذا النوع من الجرائم، وأكدنا لهم أننا نتولى حل المشكلة قانونيّاً مع الحفاظ على سرية البيانات »، هكذا تتحدث عزيزة مصطفى، عن الدور الإيجابي الذي تقوم به جمعية صبايا الخير للتنمية؛ للتصدي لجرائم العنف الرقمي، وأيضاً العنف الأسري ضد الفتيات.

وبالرغم من تخلصها من أكبر مخاوفها بتلقيها الدعم من أهلها؛ لا تزال وعد تشعر بالتوجس حيال علاقتها بهم، وتتمنى أن يتذكروها دائماً بكل ما هو جميل، بعيداً عما ترتب على هذه المحنة. أما مريم وأمام إصرارها الكبير على كشف هوية ذلك المبتز لحماية نفسها لم تجد من أهلها إلا التشجيع والمساندة، في نهاية الأمر.

إلى الآن لم تحصل وعد ومريم على حقهما القضائي ضد المبتزين؛ لطول الإجراءات القانونية وكثرتها، والتخبط في معرفة خيارات الدعم المتاحة أمامهما، بالإضافة إلى تعرض إحداهما للاحتيال على يد محامين أوكلت لهم قضيتها؛ لكنّ المؤكد أن كلاً منهما استعادت قناعتها بحقها في الحياة، من دون خوف من العنف أو القتل أو الانتحار، بفضل دعم أهلها واحتضانهم لها.

أنجز هذا التقرير بدعم من أريج

 

المصدر: اليوم 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *