قضيتان سياسيتان خارج السياق التاريخي السودانية , اخبار السودان
قضيتان سياسيتان خارج السياق التاريخي
زين العابدين صالح عبد الرحمن
عندما تكون أي بلد في أزمة أو حرب كما هو في السودان تنشط العقول لتقدم أفكارا بهدف وضع حل للأزمة أو كيفية إنهاء الحرب بما يضمن وحدة البلاد واستقلالها وامتلاك قرارها، وفي جانب آخر تحاول بعض النخب البحث عن أفكار لكي تخلق بها واقعا جديدا بعد الخروج من الأزمة السياسية أو وقف الحرب.. بالأمس كان هناك حدثان يتعلقان بمستقبل العملية السياية في البلاد. الأول صدور قرار من رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل بتعيين ثلاثة نواب له هم “عبد الله محمد عثمان الميرغني وميرغني عبد الرحمن والبرفيسور البخاري الجعلي” وعلل التعيين بأنه يهدف إلى اضطلاع الحزب بمسؤوليته الوطنية التاريخية، وتعزيزا لمجهودات الحزب في مواجهة الأزمة السياسية في البلاد وآثار حرب ميليشيا الدعم المتمردة على الدولة..
من المسائل الغريبة جدا أن حزب تاريخي مثل الاتحادي الديمقراطي، وقع على قيادته المؤسسة له عبء أن تخوض النضال الوطني من أجل الاستقلال، والذي تحقق على يديها، أن تجهل قيادته أن تضع المصطلحات في موضعها الصحيح.. هل قبل تعيين هؤلاء الثلاثة مع احترامنا لهم، أن الحزب لم يكن يضطلع بمسؤوليته التاريخية الوطنية، هل كان غائبا والآن فجأة استيقظ من غفوته، وعين هؤلاء الثلاثة لكي يضطلع بهذه المسؤولية التاريخية.. الأفضل كان أن تستقيل كل القيادة التي كانت قبل تعيين هؤلاء حتى الذي عينهم لأنهم من خلال هذا البيان الصادر، قد عجزوا أن يضطلعوا بمسؤوليتهم الوطنية والتاريخية.. وهذا اعتراف من الناطق الرسمي بأسم الحزب، ولا اعتقد أن الناطق يصيغ بيانا ولا يعرضه على الذي أوكل إليه مهمة صياغة البيان.. إن كبر سن السيد محمد عثمان الميرغني وحالته الصحية لا تمكنه أن يتابع أعمال الحزب ويعين نواب له.. يبقى السؤال: من هي الجهة التي تستخدم اسم الميرغني وتعين وتصدر بيانات باسمه؟
إن زمن السكوت والهروب من المواجهة بهدف تحقيق مصالح شخصية لنخب سياسية ليس لها أي أجندة غير أجندتها الشخصية قد انتهى، وأن محاولة استخدام الحزب للمصالح الخاصة تحت شعارات الوطنية والمسؤوليات التاريخية أيضا قد ولى وانتهى تماما.. إن مقدرات السيد محمد عثمان الميرغني الآن بحكم كبر السن لا تؤهله أن يلعب أي دور سياسي ولا يستطيع أن يصدر أي قرار.. وهذه ليست إساءة للرجل لكنها سنة الحياة.. يقول القرآن الكريم (والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير) وهناك الذين يحاولون استخدام اسم الرجل من أجل فرض سيادتهم على الحزب لتحقيق أجندة خاصة.. إن هذه السياسة قد جعلت الحزب الاتحادي على هامش الأحداث وليس له أي دور مؤثر في العملية السياسية الجارية في البلاد.. إن الحزب الاتحادي لكي يلعب دورا وطنيا مرة أخرى وتاريخي لابد من إحداث تغيير يطال أغلبية قياداته ذات المصالح الخاصة فقط…
القضية الأخرى التي أريد تناولها، أقام مركز “آفاق جديدة للحوار الفكري” الذي يهتم بالقضايا الفكرية، والذي يشرفي عليه الدكتور صديق الزيلعي جلسة حوار فكري بعنوان “رؤية ماركسية حول الديمقراطية” قدمتها الأستاذة رانيا عبيد على خدمة “Zoom” وحضرها جمع من الزملاء في الحزب الشيوعي والمهتمين بقضية الماركسية والديمقراطية. وبالفعل كان العنوان جاذبا جدا، الأمر الذي جعلني أحرص على حضور الحوار الفكري، واستمع للأستاذة رانيا كيف تربط بين الماركسية التي تؤسس فلسفتها التاريخية على الصراع الطبقي، الذي تقوده قوى البوليتاريا ضد مالكي وسائل الإنتاج، ثم تؤسس البوليتاريا ديكتاتوريتها كمرحلة من مراحل الوصول للمجتمع الشيوعي.. بدأت رانيا محاضرتها بنقد الليبرالية والرأسمالية حيث استهلكت أكثر من 80% من الزمن المخصص لها في هذا المحور، ثم انتقلت إلى الديمقراطية التي أطلقت عليها الديمقراطية الشعبية، ولم تخرج من دائرة فلسفة الماركسية، ونظرتها للصراع الطبقي..
قالت رانيا وهي تعلق على موقف الحزب الشيوعي من الديمقراطية، وتبنيه لها في مؤتمره الخامس.. قالت إن إحداث التغيير للوصول إلى الديمقراطية الشعبية مرتبط بالثورة التي يجب أن تقتلع كل المعوقات التي تعترض طريق التغيير، يبقى السؤال ما هي علاقة الثورية بالديمقراطية؟ الثورة أداة هدم وليست بناء، والديمقراطية تؤسس على أدوات البناء حتى على مستوى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية لأنها تؤسس على رضى المجتمع.. التاريخ القديم والمعاصر بين أن الثورات لا تؤسس ديمقراطية، لأن الثورة تحاول أن تفرض شروطها على الآخرين بالقوة، وتجعلهم تحت طاعتها فهي تؤدي إلى الشمولية.. لذلك استخدام المصطلح “الثورة البوليتاريا” في الفلسفة الماركسية صحيح لأنه يؤدي إلى الديكتاتورية.. ويعلم الزملاء أن الأحزاب الشيوعية في أوروبا عندما قبلت الديمقراطية أسقطت “ثورة البوليتاريا” وقبلت التبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، وأن تسعى للاشتراكية من خلال تدخل الدولة في الاقتصاد حماية للطبقات الدنيا..
الملاحظ في اجتهاد الزملاء لمسألة التوافق بين الماركسية والديمقراطية، أنهم يصطدمون بأن الفلسفتين متوازيتين ولا تلتقيان، لكنهم يتعللون بالاجتهاد، وفي النهاية تصبح قضية الديمقراطية شعار معلق في الهواء.. وهم يعلمون أن الاجتهاد للمقاربة سوف يجعلهم يبتعدون عن الماركسية.. وهم لا يريدون أن يغضبوا القيادات الاستالينية في الحزب.. واجهت رانيا نقداً من عدد من الماركسيين في ندوة.. ويبقى أنه اجتهاد مقدر وتثاب عليه.. إن شغل الذهن مسألة ضرورية للعملية السياسية.. نسأل الله حسن البصيرة..
المصدر: صحيفة التغيير