«العقاب الجماعي».. خطر يتهدد السودانيين في مناطق النزاع
العقاب الجماعي متوارث ونابع من العقيدة المشتركة لطرفي نزاع السودان، ونتائجه وخيمة يمكن أن تؤدي لانقسام البلاد وفق محللين سياسيين.
الخرطوم كمبالا: التغيير
يمارس طرفا حرب السودان “الجيش وقوات الدعم السريع” العقاب الجماعي على المواطنين عقب المعارك في مناطق النزاع، واتهامهم بالتعاون مع الطرف الآخر، خاصة في المناطق التي تدخل الصراع حديثاً وفي حالي النصر أو الهزيمة، إذ يجدون أنفسهم تحت رحمة الطرف المسيطر أو ردة فعل المهزوم، ويرى مراقبون أن ما يحدث هو نتيجة السلوك المتوارث لطرفي الصراع.
ومنذ اندلاع الصراع في 15 أبريل 2023م يدفع المواطنون ضريبة وجودهم في مناطق النزاع، بسبب الانفلات الأمني والظروف الاقتصادية القاهرة التي خلفتها الحرب، جراء توقف العمل ومصادر الدخل لما يقرب العامين.
حصار توتي
ويعاني سكان جزيرة توتي بالعاصمة الخرطوم حصاراً مطبقاً فرضته قوات الدعم السريع التي تواجه عمليات عسكرية من قبل قوات الجيش التي استطاعت الأيام الماضية نقل عملياتها العسكرية لمنطقة المقرن جنوب توتي، مما جعل الدعم السريع تفرض ضوابط مشددة على السكان ومنعهم من الخروج من منازلهم للحصول على الغذاء والدواء.
وقالت لجنة أبناء توتي بالخارج، إن قوات الدعم السريع تحاصر المنطقة، وتمارس التعذيب والنهب والترويع بحق المواطنين، وتفرض جميع أنواع الإذلال، وأنها منعت حركة الدخول والخروج من الجزيرة، مما نتج عنه نقص حاد في الغذاء والدواء، وأصبحت “التكايا” مصدر الغذاء الوحيد، مهددة بالتوقف.
جلد المواطنين
ولم تكن توتي هي الوحيدة التي مارست فيها قوات الدعم السريع العقاب والإذلال في حق المواطنين، وفعلت ذلك بمواطني منطقة حجر العسل التي دخلها الجيش أواخر سبتمبر الماضي، خلال مساعي تحرير مصفاة الخرطوم بمنطقة الجيلي، واستقبله المواطنون بالهتافات، ولكن بعد انسحاب الجيش من المنطقة مارست قوات الدعم السريع سياسة العقاب والتشفي، وجلدت المواطنين في المنطقة بالسياط، وهذا المبدأ أصبح هو السائد في الحرب.
تصفية شباب الحلفايا
الجيش السوداني ليس بأحسن حالا من الدعم السريع، وبعد سيطرته على منطقة وكبري الحلفايا الرابط بين الخرطوم بحري وأم درمان عقب معارك شرسة ربط من خلالها قواته في الكدرو ووادي سيدنا، وقبل أن ينجلي غبار المعركة، نفذت كتيبة البراء بن مالك المساندة له إعدامات في حق بعض الشباب بذريعة التعاون مع مليشيا الدعم السريع، ووجدت الحادثة إدانات محلية ودولية، طالبت بعدم التنكيل بالمواطنين العزل، كما طالبت بتقديم الجناة للعدالة حتى لا يفلتوا من العقاب.
سلوك متوارث
واعتبر عضو تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) ماهر أبو الجوخ، أن مسألة التعامل العنيف لطرفي الحرب تجاه المدنيين هو في الأساس نابع من العقيدة المشتركة للطرفين والمتوارثة بينهما منذ سنوات الحرب في دارفور.
وقال لـ(التغيير): “صحيح أن الدعم السريع على المستوى القيادي يسعى لتقديم خطاب متقدم فيما يتصل بقضايا الديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان بالمقارنة بقادة الجيش الذين يبادرون دوماً لاستهداف القوى المدنية والديمقراطية في ما يتصدر عناصر النظام البائد ومليشياته العسكرية المسلحة تقديم الوجه الأكثر تطرفاً، وبالتالي فإن النتائج على الأرض تمثل انتهاكا لحقوق الإنسان وإساءة التعامل مع المدنيين”.
استهداف قوى الثورة
وحول خطاب الوعيد من عناصر النظام السابق، قال عضو (تقدم)، إن هذه المعركة من البداية وقبل اشتعالها تستهدف قوى الثورة والمبادئ والأهداف المرتبطة بثورة ديسمبر، البعض عد الأمر مجرد (كوزفوبيا) لكن الوقائع تظهر الآن (الكيزان يخرجون على السطح).
وأضاف: “هذا أشبه بالأيام الأولى لانقلاب الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989م حينما كان يتساءل البعض بكل براءة (هل هؤلاء الضباط جبهة؟!) قبل أن يتضح لاحقاً (أنهم الجبهة الإسلامية نفسها)! ولذلك التاريخ يعيد نفسه في هذه الجزئية والطبيعي أن يسعى النظام البائد المدحور أن يصفي مراكز قوة ثورة ديسمبر باستهداف القوى المدنية والمجموعات العاملة على الأرض بذات منهجه عند انقلابه في يونيو 1989م بتصفية مراكز قوة المكونات الديمقراطية وتصفيتها جسديا في المعتقلات وبيوت الأشباح والإعدامات للضباط هذا منهج قديم”.
ضرب مكونات اجتماعية
وتابع أبو الجوخ: “لكن الجديد فيه هو الاستهداف المباشر لمكونات اجتماعية خلاف المعتاد فيما يعرف بمناطق النفوذ التاريخي لوسط وشمال السودان من خلال القصف الجوي والتصفيات الجسدية هذا الأمر قد لا ينفجر اليوم أو الغد مباشرة، لكن ستكون لديه تداعيات متراكمة ستجعل الجهة السياسية ممثلة في النظام البائد وحلفاءه يدفعون ثمن هذه الجريمة كما حدث بعد جريمة قتل المتظاهرين في سبتمبر 2013م، لم يدفع النظام الثمن يومها مباشرة ولكن تراكمت الوقائع حتى تم إسقاطه، وهذه نتيجة سياسية ستكون تداعياتها وخيمة على النظام المباد وعناصره ممن يتفاخرون ويتباهون بهذه الجريمة سيكون الأمر عليهم وخيماً كمجموعة وكيان، وحتى كأفراد مؤكد أنهم لا يدركون هذا الأمر اليوم كحالهم على الدوام، ولكن سيعلمون الخطأ الكبير لما ارتكبوه حينما تدور عليهم الدوائر ويحاسبون على ما اقترفوا من جرائم وتجاوزات فردياً أو جماعياً”.
السيناريو الأخطر
وقال أبو الجوخ: “هذا السيناريو يقابله سيناريو أخطر هو (الانتقام الشخصي)، وهذا مصير يتهدد من ارتكبوا هذه الجرائم لكونهم معروفين بالاسم، ولا مجال للإنكار، وهذا السيناريو وارد الحدوث في حال حدوث الانهيار العام للدولة أو اليأس من إمكانية تحقيقها العدالة، وهو أمر يجب الانتباه له كأحد النتائج الوارد حدوثها خاصة مع انتشار السلاح وإشاعة واستسهال ثقافة الموت والقتل في وسط وشمال السودان التي كانت غير منتشرة في أوقات الحرب، ومن المؤكد سيكون لهذا الأمر وردة الفعل تداعيات سياسية واجتماعية خطيرة على المستوى المتوسط”.
اتهام دائم
من جانبها، قالت عضو محامو الطوارئ رحاب مبارك، إن ظاهرة العقاب الجماعي للمواطنين عقب المعارك واتهامهم بالتعاون مع أحد طرفي الصراع، يوضح أن الطرفين متقاتلين من أجل السلطة، وفي سبيل إنفاذ هذا الأمر يعملان ما يحلو لهم، خصوصا الحركة الإسلامية الحانقة في الأساس على الشعب السوداني الذي قام بثورة ضدها من أجل اقتلاعها لذلك تجدهم في حالة اتهام دائم للمدنيين الذين يرفضون الحرب بأنهم موالين طرف من الأطراف.
وأضافت لـ(التغيير): “كذلك الدعم السريع شكوكه في بعض المواطنين ناتج عن خطاب الكراهية والعنصرية الذي انتشر في الفترة الماضية بمفهوم الحواضن الاجتماعية التي قسمت السودان لحاضنتين اجتماعيتين إحداهما تتبع للدعم السريع وأخرى للجيش”.
خطاب الكراهية
وتابعت رحاب: “للأسف خطاب الكراهية أثر تأثيراً كبيراً في النسيج الاجتماعي خصوصا في مناطق شمال وغرب السودان، بحيث يتم التعامل مع جميع أبناء الغرب الموجودين في شمال السودان باعتبارهم حواضن للدعم السريع بذات الفهم نجد أن الأمر منتشر حتى بين الجماعات المتفقة على استمرار الحرب”.
وأردفت: “خطاب الكراهية أضر بالنسيج الاجتماعي، ويمضي لتفتيته وهذه واحدة من مخرجات الحرب”.
ورأت عضو محامو الطوارئ، أن الحل يكمن في إيقاف الحرب، وعودة مفاهيم الوحدة والخطاب الداعم لرتق النسيج الاجتماعي.
وحول النتائج السياسية ترى أن هذا أوصلنا إلى حالة اللا دولة والحرب تمضي نحو الحرب الأهلية والقتال القبلي، وهذا سيؤدي إلى مراحل بعيدة وسيئة كما هو واقع الحال، وفي الآخر يمكن أن تؤدي إلى تقسيم السودان.
تشفي وإذلال
بدورها، رأت الخبيرة النفسية والاجتماعية مروة محمد إبراهيم، أن الطرف المهزوم في الحرب يلجأ إلى التشفي من المواطنين لإرضاء الغرور الداخلي.
وقالت لـ(التغيير) إن أي طرف من أطراف النزاع عرض المواطن لإذلال والعنف ينظر إليهم على أنهم قيد الاتهام ومتعاونين مع الخصم، لذلك التشفي للقمع وكسر شوكة المواطن.
وأشارت مروة، إلى أن إذلال المواطن يؤدي إلى تخريب النسيج الاجتماعي، لأن الشخص الذي تعرض لإذلال يحاول الهروب من المكان، خوفاً من الوصمة الاجتماعية، وهذا يضرب النسيج الاجتماعي في مقتل، ويؤدي إلى تفكيك المجتمع لأن التركيبة المجتمعية ستنهار لأن الشخص لا يستطيع مقابلة نفس الوجوه التي رأت الانتهاك الذي تعرضوا له”.
ولفتت إلى أن الإذلال والتشفي يؤدي إلى ضعف نفسي من ناحية تقدير وتدني الثقة ولوم الذات فبتالي الشخص لا يستطيع مواجهة المجتمع الموجود.
عقاب جماعي
وفي السياق، قال الصحفي والمحلل السياسي الجميل الفاضل، إن مناخ الحرب السائد في مناطق النزاعات درجة التوجس فيه عالية، ويتم تصنيف الأشخاص حسب الانتماءات الإثنية والقبلية والمناطقية، وتمثل ذلك في ظهور قانون ما يسمى بـ”الوجوه الغريبة”، ولذلك من لا ينتمي إلى المكونات الاجتماعية والمناطقية يكون في موضع الشك، وهذا شكل من أشكال “العقاب الجماعي”.
وأضاف لـ(التغيير): “إن استخدام العنف المفرط يحدث أحياناً لردع آخرين لأن الجهات التي تقوم بهذا الفعل لديها رسالة متعدية بأن الشر يعم”.
وأوضح أن هناك شكل آخر مربوط بالمواقف السياسية مثل ما حدث في الولاية الشمالية بإعطاء الوالي 72 ساعة للمنتمين للحرية والتغيير و(تقدم) بمغادرة الولاية.
رفض الحياد
وأشار الفاضل إلى أن أسوأ مافي العقاب الاجتماعي القصف ضد ما يسمى بـ”الحاضنة الاجتماعية” لأنه لا يستطيع التمييز بين المواطنين، وهذه القوانين هي قوانين الحروب من ليس معنا فهو ضدنا، ولا يوجد وموقف في الوسط أو الحياد، وهذا غير مقبول من كل الأطراف، وهذه واحدة من المشاكلات التي تواجه السكان المدنيين في مناطق سيطرة طرفي الصراع.
وقود جديد للحرب
ولفت إلى أن بعض الأشخاص تم إعدامهم عن طريق المحاكم، القضاء والنيابة أصبحت جزءاً من أدوات الحرب، وأصبح القانون يستخدم كسلاح مثل سلاح الجوع، وهذه مأساة إنسانية آثارها السياسية والمستقبلية كبيرة جداً.
وخلص الفاضل إلى أن الشرخ النفسي في النسيج الاجتماعي آثاره ستظل باقية وتحدث قطعية بين المكونات الاجتماعية، ويزيد من احتمالات استمرار الحرب، ويجعل البعض مضطرين لحمل السلاح، وهذا يعني وقود جديد للحرب.
المصدر: صحيفة التغيير