الفكر الثاقب والبعد الأخلاقي
د. محمد حمد مفرح
من المسلمات التي لا يرقى إليها الشك أن التعويل على تفكيك أي ازمة ، سياسية كانت او اقتصادية او اجتماعية او خلافها ، تحدث في بلد ما وتفرز واقعا كارثياً في ذلك البلد ، يجب ، أي التعويل ، أن يكون على العقل الجمعي للسلطة الحاكمة Authority’s Collective mind بذلك البلد او على مفكر مؤهل لاحداث اختراق ما يضع حدا لهذه الأزمة. وعلاوة على الفكر فان ثمة ضرورة لتوافر البعد الأخلاقي في السلطة المسؤولة أو في المفكر وذلك من اجل تفكيك الأزمة المشار إليها. ويتمثل مفهوم هذين العاملين على التوالي في اعمال الفكر الثاقب ذي المردودات الملموسة مع توافر الأهلية الأخلاقية في السلطة او المفكر المعني.
واذا توافر هذان العاملان المفتاحيان ، أي الفكر والبعد الأخلاقي ، وتوافرت البيئة المناسبة فسوف يقود هذا الى تفكيك الأزمة ووضع حد لها. وبالعكس فانه اذا لم تكن هنالك بيئة تمهد طريق النجاح للعاملين المشار إليهما فسوف لن يقودا الى تحقيق الهدف المرجو. ذلك أن توافر جميع مقومات تحقيق الهدف وتكاملها يعد امرا ضروريا لتحقيقه.
وقد حفل التاريخ السياسي للدول بعدد مقدر من الحكومات التي جمعت بين العقل السياسي الراجح و الأهلية الأخلاقية Moral competence. كما شهدت دول أخرى اختراقات كبيرة لأزماتها كان وراءها بعض القادة النابهين أو المفكرين الذين توافر فيهم العاملان المشار إليهما سابقا ، الأمر الذي عمل على توافر الأهلية لانتشال هذه البلدان من وهدتها حين استحكمت الازمات.
الجدير بالتأكيد أن أهلية حل الأزمة تتضمن ، بجانب الفكر الثاقب المعين على اجتراح الحلول غير التقليدية والبعد الأخلاقي في الممارسة السياسية او التعامل الأخلاقي والقدرة على هزيمة المعوقات كأساسيات لا بد منها ، تتضمن عوامل أخرى ضرورية لتمهيد طريق النجاح. ومن تلك العوامل الواقع السياسي بالبلد المعين ومدى اسهامه في تحقيق النجاح ، مع توافر الارادة الوطنية والشخصية الوطنية و مدى تعاملها الايجابي مع مساعي الحل. وتمثل هذه العوامل مجتمعة البات تفكيك الازمة. واستشراف واقع جديد عنوانه الاستقرار والتطور والرفاه.
وتبعا لذلك يجب التعويل في حل الأزمات على العقل السياسي للدولة والذي إذا ما توفر سيعمل على هزيمة أي قوة خارجية يمكن ان تعيق مساعي حل الأزمة او تقوم بالاسهام في حلها مع رهن قرار البلد المأزوم وسلبه استقلالية ارادتة الوطنية.
يقول عالم الاقتصاد الباكستاني محبوب الحق أنه لا يؤمن بوجود أرض جرداء لا موارد فيها بقدر ايمانه بعقل خلاق يمكنه استخراج الكنوز من باطن الأرض. ولا شك في ان هذا القول ، وبصرف النظر عن احتمالية انتفاء واقعيته وموضوعيته ، يعمل على تعظيم العقل والدعوة الى ضرورة اعماله كمرجعية فكرية منتجة. وهذا بالقطع ما دعا له ديننا الاسلامي الحنيف وحثنا عليه ، في معرض دعوته لاعمال العقل في ترقية الحياة ومواجهة تحدياتها.
ومن الأمثلة الحية للدول التي احدثت اختراقات كبيرة في واقعها الاقتصادي دولة الهند الموسومة بعدد السكان الكبير. فقد واجهت الهند خلال العقود القليلة الماضية تحديا وجوديا Existential challenge تمثل في فجوة جد واسعة بين عدد سكانها الهائل ومواردها الضئيلة.
وقد وقف عالم الاقتصاد السويدي قونار مبردال انذاك على واقع الهند فسماه ب Asian Dilemma أي (المأزق الاسيوي) وحكم على الهنود بالفناء بناء على المعطيات الموضوعية هناك والمتمثلة في إنفجار سكاني مع موارد قليلة ، مقارنة بعدد.السكان. و تبعا لذلك فقد ظل يتابع النمو الاقتصادي للهند ليقف على مالات ذلك الواقع الاستثنائي. غير انه وجد بعد متابعته لمدة سنتين انه اخذ ، خلافا لتوقعاته ، في الأزدهار بوتيرة واعدة. وعندما استقصى الأمر اكتشف ان الهند قامت باعداد إستراتيجية اعلامية ذكية موجهة لمواطنيها من اجل مواحهة هذا الواقع من خلال رفع شعار (اما ان تعمل و تنتج او تموت من الجوع). وقد تجاوب المواطن مع هذا الشعار فكانت المحصلة وفرة في الانتاج الزراعي غير مسبوقة عملت على تحقيق نقلة اقتصادية بالهند وضعتها في صدارة الدول في مجال النمو الاقتصادي ثم ولجت عالم الصناعة من أوسع الأبواب.
كما أن الرئيس الماليزي ماهتير محمد يمثل نموذج العقل السياسي الذي كسر حاجز تقليدية التفكير حتى استطاع ان يهزم واقع بلاده الاقتصادي المأساوي فاستشرفت ، بفضل الله وبفضل برنامجه الاقتصادي الذكي عهدا جديدا على اكثر من صعيد.
واذا تأملنا في واقع دول المحور (المانيا واليابان وايطاليا) والتي هزمت في الحرب العالمية الثانية نجد انها تراجعت على صعيد الاقتصاد بدرجة كبيرة جراء الحرب ، غير ان حكوماتها المتعاقبة أخذت على عاتقها بناء اقتصاداتها بعد أن توافرت لها العوامل انفة الذكر. وقد نجحت بالفعل في ذلك حتى أضحت قوى اقتصادية رائدة وأحتلت مكانة دولية جد متقدمة في مضمار الاقتصاد والنهضة الشاملة.
اما اذا تأملنا في دول مثل رواندا نجد أنها اصبحت نموذجا دوليا بشار إليه بالبنان من حيث مواجهة واقعها الذي افرزته حربها الضروس التي قضت على الأخضر واليابس واورثتها وضعا اقتصاديا كارثيا. وقد تمتعت سلطتها الحاكمة بعد الحرب بالحكمة وسعة الافق السياسي ثم قامت بانقاذ برنامج سياسي ، اجتماعي، اقتصادي نفذت من خلاله العدالة الانتقالية Transitional Justice ثم واجهت واقعها فكانت محصلة ذلك عهدا جديدا نقلها نقلة معتبرة على صعيد البناء السياسي والنهضة والتطور العام.
من جهة أخرى فان السياسي المخضرم والقائد الفذ نيلسون مانديلا استطاع بحكمته وعقله السياسي الراجح ودهائه فضلا عن أهليته الأخلاقية ان يضمد جراح بلده بعد نهاية الابرثايد Aperthied وينقلها الى مربع الاستقرار والنمو. وقد نفذ برنامج (الحقيقة والمصالحة) وقام يخلق بيئة تعايش معافاة بين سكان البلد الاصليين والبيض المستعمرين الذين سبق وأن اوردوا اهالي البلد الاصليين موارد الهلاك.
واذا أخضعنا واقع السودان الحالي ومالاته المتوقعة بعد الحرب الجارية ، للمعايير المتمثلة في العوامل سابقة الذكر ، والتي تعد ضرورية لتفكيك الازمات وتعبيد طريق الاستقرار والنهضة والتطور ، إذا اخضعناها لهذه المعايير نجد أن بلادنا موسومة في الأصل بهشاشة في البنية السياسية Fragility in political structure منذ الاستقلال ، اقعدتها وحالت بينها وبين النهضة والتطور برغم توافر الموارد فيها وتعتبر هذه الهشاشة وليدة الانقلابات العسكرية التي افرزت حكومات شمولية استاثرت بحكم البلاد لسنوات طويلة بالإضافة الى الصراع السياسي بين عدد من القوى السياسية التي لا يتوافر لبعضها النضج السياسي في حين يفتقر بعضها الاخر الى البعد الأخلاقي في الممارسة السياسية. وبالطبع خلق هذا الواقع ، مقرونا بمسببات أخرى كثيرة ، ازمة سياسية متطاولة Prinlonged political crisis فشلت القوى السياسية في حلها مما ادى الى انسداد افق الحل. وقد ضاعفت الحرب الجارية بالبلاد من الأزمة وافرزت واقعا كارثياً نقل البلاد الى شفا الأنهيار وظلت بسببه عرضة للتفكك في ظل التعقيدات الماثلة.
لذا فان توافر العوامل المشار إليها في صدر المقال ، في بئتنا السياسية الداخلية وبين احزابنا ونخبنا السياسية علاوة على المعينات الأخرى المطلوبة سالفة الذكر تمثل مجتمعة ، الضمانة الأكيدة لحل ازمة بلادنا
وانتشالها من وهدتها الحالية.
وهذا يستلزم ، دون ريب ، الوعي التام بمأزق البلاد الراهن ، من قبل كل القوى السياسية والتفاعل معه والسمو فوق كل الصغائر وكذا تقديم المصلحة العامة على ما عداها ثم التواضع على برنامج حد ادنى بستهدف انقاذ البلاد من وهدتها. ومن الضروري استصحاب تجارب الدول الاخرى التي واجهت ازمات مشابهة وبالذات تلك. التي خرجت من الحروب ، وذلك في سبيل احداث اختراق ايجابي كبير في ازمتنا والا ظلت بلادنا مفتوحة على كل السيناريوهات.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة