7 اكتوبر ضربة الايقاف الاستراتيجية
أمد/ طوينا مائة سنة وأكثر، وأصبحت خلف ظهورنا بكل ما فيها من ألام ومصائب، تزودنا منها بما يكفي لمعرفة الجاني وما اقترفت يداه، وتزودنا كذلك بتضحيات شعبنا وبطولة كفاحه على مدار قرن.. وانبعثنا الى وعد الله نصرا أو شهادة في لحظة تاريخية استكملت شروطها.. لم يكن العدو في يوم من الأيام أكثر انكشافا من ذلك اليوم ولم تكن شمس أكتوبر بهية كمثلها في تلك الساعات التي أشرقت على اندفاع أصحاب الحق إلى حقهم بلا خوف ولا وجل.. لأول مرة نشعر أننا عمليا نعود الى أرضنا.. لم يكن حلما بل واقعا مدويا.. هذه هي المعادلة النفسية الكبيرة التي أحدثت التوازن مع العدو بل والتفوق عليه.. وأسقطت في يديه الرواية الهشة الموغلة في التيه كلها، فبات يلملم بقية عزيمته وكل جنونه وهلعه لعله يثبت للأسياد أنه كفء لتحمل المسؤلية بتركيع العرب والمسلمين وتفتيت محاولات النهضة لديهم ولعله يقنع المستوطنين بجدارته في حماية وجودهم اللصوصي.. هذا هو 7 أكتوبر المجيد جاء ممتلئا بكل اليقين ومحتشدا بكل العزيمة ومندفعا بكل المعاني السامية الفتوة والنخوة ليقول من هنا يبدأ تاريخنا القادم فلقد طوينا صحفهم..
الظرف التاريخي:
لقد جاء 7 اكتوبر في ظرف تاريخي موات تماما.. وكما كل الثورات المنتصرة والنهضات الحقيقية والرسالات والنبوات لابد أن يوافقها ظرف تاريخي مناسب والا فانها حتما لن يتحقق لها مبتغاها.. فلقد كان المشهد مغريا تماما للعدو ان يندفع نحو صياغات واقعية تلقي بالقضية الفلسطينية الى الهامش والى متحف التاريخ فلقد تسابق الحكام العرب الى عقد صفقات تسوية وتخادم امني واستراتيجي مع المؤسسات الصهيونية ولكن كما كل الطغاة وكل الحالات الاستعمارية عندما تواصل فيجريمتها وغيها يصيبها العمى كما أشار القران الكريم:” يمدهم في طغيانهم يعمهون”.. وليس هناك متسع لتناول الواقع المزري فلسطينيا وعربيا واسلاميا ودوليا قبيل 7 أكتوبر.. ويلخصه قول الرئيس الامريكي بايدن أنه ليس في عجلة من أمره بخصوص القضية الفلسطينية أما سابقه فقد أهدى القدس للكيان الصهيوني وكذلك فعل بخصوص الجولان فيما كان حكام العرب يحتشدون له يقدمون استعداداتهم الخدماتية..
صحيح كان هذا موجودا في واقع الناس ولكن الذي لم يره العدو أن هذا مجرد غلالة شفافة هشة تغطي واقعا أكثر صحة وقوة أنه الشعب الفلسطيني الذي فرض عدة حقائق على الأرض أولها: ان الديمغرافيا المتحولة كانت لصالحه تماما ففي حين كان تعداده في سنة النكبة أقل من مليون نسمة تمدد الى أن أصبح يربو على 17 مليون نسمة بنسبة تزايد لعلها الأكثر في العالم.. ولم يكن هذا التزايد افقيا بل اتجه عموديا في كسب ات والعلوم حتى أصبح بلا منازع الأكثر حصولا على العلوم والمعرفة ويكفي أن نستعرض عدد الجامعات والمعاهد في قطاع غزة والضفة الغربية وأن نستحضر عشرات أو مئات المفكرين والكتاب والادباء والشعراء اللامعين المنتشرين في أصقاع الأرض.. وفي داخل فلسطين المغتصبة منذ 1948 تميز جيل من الرجال فكريا وأدبيا لدرجة انهم كانوا هم طليعة المثقفين الفلسطينيين خصوصا والعرب عموما من هشام شرابي وادوارد سعيد وابو لغد وجوزيف مسعد ووائل الحلاق وسواهم كثير.. ومن جهة أخرى لا يمكن لأحد الا ان كان أعمى أن يتجاهل ان نسبة الفلسطينيين أصحاب الأرض في فلسطين أكثر من نسبة المستوطنين الصهاينة برغم كل عمليات التضييق والحصار والتجويع والاعتقالات والقتل والجرائم والحروب المفروضة عليهم.. وفي خارج فلسطين انتشر الفلسطينيون في كل مكان يفرضون حالات تعاطف وتفنيد للرواية الصهيونية وكسب واسع للانصار وتحريك الرأي العام العالمي فكانت هذه الصورة غير المرئية أو المتغافل عنها هي البركان الذي يصعد شيئا فشئيا الى السطح يبعث طوفانا يجرف الرؤى الهزيلة والتصورات السقيمة.
في اللحظة التاريخية التي كان يزهو العدو بما انجزه سياسيا على مستوى الاقليم في ظل تدمير عدة دول عربية كانت ذات علاقة قوية بفلسطين العراق وسورية واليمن وليبيا بعد ان تم تحييد الدولة العربية الأكبر والأكثر تأثيرا على مسار الحرب والسلام في المنطقة.. في هذه اللحظة التاريخية التي اطمأن العدو أن الوضع استقر له بابعاد 7 مليون فلسطيني من ديارهم وقراهم ومدنهم وان البقية تحت سيطرته مشروعا استثماريا يستغلهم في بناء منشآته وتعمير بنيانه وزراعة الارض توفر له الاكتفاء الذاتي بل التصدير لأوربا.. في هذه اللحظة التاريخية أصيب العدو بالعمى أو حسب المصطلح القراني الادق والأجمل والأكثر دلالة”يعمهون”..
في المقابل كان ابناء فلسطين وهم يرون مبلغ الخذلان الرسمي العربي والغياب الإسلامي المذهل وعنجهية المستوطنين وغطرسة حكوماتهم وانهماك العالم الغربي بكل مؤسساته العلمية والاقتصادية وأحزابه وإعلامه في دعم الكيان الصهيوني بكل وسائل القوة والتفوق .. في هذه اللحظة وقد أصبح واضحا تمام الوضوح ان العدو لايريد تسوية ولا يقبل بوجود دولة فلسطينية ولو على شبر من فلسطين وان كل المفاوضات معه عبر عشرات السنين كانت عملا عبثيا وبلا طائل بل كانت تمنحه الفرصة الكبيرة للتوغل في الاستيطان..
الظرف التاريخي كشف كم هو العمى عندما يتم تجاهل الحقائق العميقة في الوجود والتي لم يستطع مرور الزمن الا تكريسها بمعطيات أكثر قوة وأشد إصرارا.. هنا كان الفعل الفلسطيني قد حقق شرطه الموضوعي بعمى استراتيجي أصيب به العدو وحلفاؤه والمتخاذلون.. فتحرك الفعل الفلسطيني في هذا الفراغ التاريخي الذي انسحب منه العدو فكانت الصدمة التي هزت أركان الكيان والمشروع والفكرة الصهيونية.. لقد فشل المشروع الصهيوني كما الكيان بعد أن سقطت مقولته الباطلة” أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وها هو يكتشف أن للأرض أصحابها الحقيقيون والتاريخيون والمقتدرون على صنع اللحظة التاريخية الشرارة..
7 أكتوبر ضرورة عربية وإسلامية:
صحيح أن تجاوب الأوضاع الرسمية العربية سواء الحكام أو الأحزاب مع الطوفان لم يكن منطقيا ولا مقبولا بل مترديا وخائبا وأحيانا متواطئا مع العدو ويقدم له بلا تردد سبل النجاة.. الا انه ينبغي التأكيد أن الحديث عن العرب ومستقبلهم يجب أن يكون متحررا تماما من استشعار وجود الحكام والنخب السياسية الرسمية.. ذلك ببساطة لان قضية فلسطين تجمع المشاعر والمعاني السامية والمتحررة من الحسابات الدنيا.. وهذه تحتشد في أوساط الشعوب وطلائعها الحرة من إعلاميين ومثقفين وعلماء دين وحركات مقاومة..
ان العرب كما الفلسطينيين بحاجة ضرورية للطوفان يقدم لهم نموذج انتصار الروح على المادة وتفوق البطولة على السلاح والصبر على الألم.. ولعلنا نتذكر كيف واجه كثير من الساسة الفلسطينيين ذلك اليوم الكبير بالاستنكار بل ذهب بعضهم للتوعد بأن يحاسب من قرره ومن صاحب المبادرة فيه.. كان العرب بحاجة لهذا اليوم لأن الخوف كبلهم والجبن أوقعهم فريسة كل الوحوش وهم بهذا النموذج الفلسطيني يستطيعون التأكد أنهم قادرون على مواجهة الأعداء مهما كانت صعوبة المواجهة..
هذا اليوم العظيم هو مفتاح النهضة العربية والتحرر العربي من التبعية والذل والمهانة.. وان تقدم اللبنانيين واليمنيين والعراقيين ليس هو نهاية المطاف بل ان الالم والغضب في صدور ملايين العرب والمسلمين سيجد بلا شك سبيله نحو الفعل الحضاري الضروري..
ان المعركة الأن ترتسم في بلاد الشام واليمن والعراق وهذه كتل عربية رئيسية، هذه الكتل هي جوهر المشرق العربي حاملة ارثه الحضاري وتفوقه النوعي في معارك تاريخية حاسمة، لهذا فان دلالات انخراط الشام والعراق واليمن في المعركة تتجاوز حدود النصرة المؤقتة .. صحيح ان هذه المشاركات لم تزل لم تتوسع وان كانت في لبنان أخذت شكل المشاركة الكاملة فإننا بلا شك نرى تصاعدا في الفعل والموقف يشير بوضوح لمستقبل عربي تندفع فيه قوى كبيرة بعد ان كسر الفلسطينيون حاجز الخوف.
الأمريكان واليهود والصدمة الكارثة:
عندما يغير نتنياهو اسم الحرب من “السيوف الحديدية” الى اسم “يوم القيامة”.. وعندما يرتفع صوت كبار الصهاينة بأنهم ليسوا في بادية الانهيار بل في قعره، ويقول كبراؤهم ان الكيان لم يمر بوضع كارثي كما هي السنة الماضية على كل أصعدته.. والمتابع لتصريحات الصهاينة الساسة والمفكرين والاعلاميين الكبار بل والعسكريين يجد عاملا مشتركا واحدا بينهم انهم يتعرضون لحرب وجودية… وهم في حمى القلق الوجودي والخوف الوجودي يصعدون الحرب بجنون في محاولة مستميتة لتدمير معاقل المقاومة في الأمة ولم تعد أهدافهم التي أطلقوها في بداية العدوان هي نفسها بل تعدتها ليصبح تشكيل الشرق الاوسط من جديد حسب مواصفات جديدة هو الهدف المعلن رسميا..
أما لأمريكان الذين يضخون الأسلحة والإعلام والسياسة والمال للعدوان المتواصل فانهم في حالة معنوية منهارة ولم يعد لديهم الثقة الكافية في خروج الكيان من المأزق التاريخي وكما جاء في بوليتيكوعن مسؤولين استخباراتيين أمريكان: أعضاء الكونجرس طالبوا بإجابات عن عدم انتباه اسرائيل لهجوم 7 أكتوبر..التخطيط ل 7 أكتوبر استغرق أشهرا وربما سنوات وأكد مسئولون أمريكان: ذهلنا من نجاح حماس في تنفيذ هجوم 7 أكتوبر ولهذا كانت مكالمات بايدن مع نتنياهو الاولى اشعرت بايدن بالقلق لان نتنياهو كان في حالة بصدمة.
الاضطراب والارتباك هو السمة الأكثر وضوحا في خطاب بايدن والبيت الأبيض كما في خطاب القادة الصهاينة.. لقد كانت صعوبة المعركة عليهم كفيلة بأن تجعلهم يتخلون عن ردائهم التقليدي وصفة الضحية التي يتعيشون عليها في العالم.. كما أصبحوا في مقامرة خطيرة ليس فقط بخسارة الحرب ولكن بخسارة المشروع كله..
ان كل يوم جديد يحمل معه توسع جبهة المقاومة العربية مدعومة من إيران والشعوب العربية ويحمل معه كذلك تشتتا صهيونيا وتيها وفقدان البوصلة لدى قادة العدو.. ورغم كل الأسلحة الفتاكة المتطورة التي يتسلمها من المعلمين الكبار الا انه يسجل في صفوفه خسائر معتبرة أهمها القلق والخوف الوجودي وتحول الكيان الصهيوني الى وادي من النار والرعب والقتل والمتفجرات والملاجئ..
انه 7 أكتوبر المجيد يوم بزغ فيه الفعل الفلسطيني الفذ الذي خرج عن حسابات الجميع.. وليس أمامنا الا الصبر الجميل وانتظار النصر الكبير وما النصر الا من عند الله والله غالب على أمره.