طوفان الأقصى رفع الغطاء السياسي عن التطبيع
قبل 7 أكتوبر 2023، كان رئيس وزراء الكيان نتنياهو قد أعلن عن قرب إبرام ما وصفه “اتفاقا تاريخيا” للتطبيع مع الرياض. وكان الكيان الصهيوني يعيش على وقع نشوة سياسية إزاء “فتوحات سياسية” حققها وتوسيع لعلاقات تطبيع عبر اتفاقات أبراهام وقعت نهاية عام 2020 مع عدد من الدول كالمغرب والإمارات، بينما كان التمهيد لذلك يجري في الأثناء مع السعودية والسودان، إضافة إلى ما كشف عنه من اتصالات مع ليبيا، بعد قصة لقاء وزيرة الخارجية الليبية السابقة نجلاء المنقوش مع مسؤول صهيوني في روما في أوت 2023، ما أدى إلى إقالتها من منصبها، لكن طوفان الأقصى أعطب مسار التطبيع ورفع الغطاء السياسي عن أي مبررات تستند إليها دول “اتفاق أبراهام”.
في فبراير 2024، بعد أكثر من 4 أشهر من إطلاق المقاومة طوفان الأقصى، اعترف زير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأن هجوم المقاومة في السابع أكتوبر 2023 عطّل فرصة تطبيع ثمينة كانت بصدد إتمامها بين الكيان الصهيوني والسعودية، وهو اتفاق لو تم في تلك الظروف التي كانت فيها القضية الفلسطينية الأدراج وفي آخر سلم الاهتمامات السياسية الإقليمية والدولية، لكان سيغير كثيرا من موازين القوى لصالح الكيان ويمكن أن يدخل القضية الفلسطينية في مسار تصفية حقيقية.
يؤكد بلينكن أن طوفان الأقصى سبق زيارته إلى الرياض لإنهاء صفقة التطبيع بثلاثة أيام فقط، حيث قال إنه كان مقررا أن يزور في 10 أكتوبر 2023 كلا من الرياض والكيان الصهيوني لمناقشة خطوات التطبيع. وتعطي مثل هذه التصريحات صدقية كبيرة للتقديرات السياسية التي اعتبرت أن اختيار المقاومة تاريخ 7 أكتوبر لبدء المواجهة لم يكن من قبيل الصدفة، لكنه اختيار كان يرتبط أساسا بمثل هذه الحسابات ذات الصلة بنسف خطوات كان مقرر القيام بها في سياق تطبيع العلاقات الإسرائيلية السعودية، كما أدى طوفان الأقصى إلى إلغاء محطات كانت مقررة في نفس سياق التطبيع، على غرار لقاء كان مقررا في الرباط في مارس 2024، ما يعرف “باجتماع النقب”.
يعني ذلك أن طوفان الأقصى، وإن لم يلغ مسار التطبيع بالكامل، كون بعض الدول العربية التي وقعت على ما يعرف باتفاقات أبراهام ليس واردا أن تراجع علاقاتها مع تل أبيب، على غرار المغرب خاصة، بالنظر إلى تجاوز هذه الدول الاعتبارات السياسية والأخلاقية في العلاقة مع الكيان والمضي في علاقة استراتيجية مع تل أبيب، فإنه نجح في المقابل في تجميد مؤقت لهذا المسار والحد من الاتصالات بين الكيان ودول عربية، وهو ما يؤكد تضرر مسار التطبيع بشكل بالغ منذ إطلاق مواجهة طوفان الأقصى بين المقاومة والاحتلال وتوقف الحديث عن اقتراب السعودية من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أو عزز دفع على الأقل الرياض إلى التأكيد على أن هذه الخطوة مرهونة بتطبيق حل الدولتين وبتسوية عادلة لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
إضافة إلى تضرر مسار التطبيع، فإن تطورات المواجهة بين المقاومة والكيان كشفت مسألتين على قدر كبير من الأهمية السياسية، الأولى كون هذه المواجهة رفعت الغطاء السياسي عن مبررات التطبيع التي تسوقها في الغالب دول التطبيع، على غرار الرباط وأبوظبي والرياض وغيرها، حيث كانت هذه الدول تزعم أن التطبيع مع الكيان سيسمح لها بتحقيق السلام والحصول على حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية، وهي مزاعم ظهر أنها بلا معنى على الصعيد السياسي، حيث ظهرت هذه الدول خارج الأحداث تماما وغير قادرة على التعبير عن مواقف حازمة إزاء الجرائم الصهيونية بحق الفلسطينيين، وليس لها حق الموقف إزاء الكيان فما بالك بأن تحصل للفلسطينيين عن حقوق من الكيان. بينما تتعلق المسألة الثانية بأن طوفان الأقصى كشف أن التطبيع لا يحقق السلام في المنطقة ولا يجلب الأمن للكيان الغاصب، لكونه مبنيا أساسا على قاعدة تصفية القضية الفلسطينية وإنجاز تسوية لصالح الكيان على حساب الحقوق الفلسطينية، وهو ما أثبتته الوقائع السياسية بشكل واضح منذ 7 أكتوبر 2023، حيث لم تستطع أي من دول التطبيع لعب دور لصالح الدفاع عن الشعب الفلسطيني.
بعد عام من السابع أكتوبر، وبعكس الاتجاه الذي كان يريده الكيان الصهيوني وحلفاؤه، فإن النتائج اتخذت مسارا معاكسا من حيث عودة الحديث بقوة في الأوساط السياسية والشعبية والفضاءات الإقليمية المستقلة عن مبادرات قانونية لتجريم التطبيع وسن وتفعيل قوانين تمنع إقامة علاقات سياسية وأي نوع من الاتصال مع الكيان، إذ كانت كتلة من نواب البرلمان التونسي قد طرحت في نوفمبر 2023 مشروع قانون “منع الاعتراف والتعامل مع الكيان الصهيوني”، وقعه 97 نائبا، وفي الكويت سعت الأغلبية النيابية إلى طرح مشروع قانون يستهدف تغليظ تجريم التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفي ليبيا سارع نواب في مجلس النواب إلى تقديم مقترح نص قانون يجرم كل أشكال التطبيع مع الكيان.