اخبار السودان

صورة محمد المكي إبراهيم في مرآة الشعراء السودانيين

حاتم الكناني

لم يكن الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم، الذي توفي في القاهرة، شاعراً مؤسساً في موكب حداثة الشعر السوداني فحسب، لكن وجوده وتأثير تجربته امتد ليصقل الفكر والوجدان السودانيين، طوال النصف الثاني من القرن الـ20 وما بعده، عبر كتاباته الشعرية والنثرية، التي باتت من أدبيات الثورات السودانية بعد الاستقلال.

ولد محمد المكي إبراهيم في مدينة الأبيض غرب السودان عام 1939، وتلقى تعليمه الأولي بها، ثم التحق بمدرسة خور طقت الثانوية وتخرج في جامعة الخرطوم كلية القانون. وأثناء دراسته الجامعية انتقل إلى ألمانيا في رحلة دراسية لمدة عام، ثم عاد ليكمل دراسته بجامعة الخرطوم. التحق المكي بوزارة الخارجية السوداني عام 1966 وظل يعمل بها طوال 30 عاماً حتى استقال منها بداية التسعينيات، ليتوجه إلى الولايات المتحدة الأميركية مقيماً بها.

إضافة إلى دواوينه “أمتي” 1968 و”بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت” 1972 و”يختبئ البستان في الوردة” 1984 و”في خباء العامرية” 1988، ألف الراحل عدداً من الكتب في الشأن السوداني: “ظلال وأفيال” و”في ذكرى الغابة والصحراء” و”الفكر السوداني: أصوله وتطوره”، إضافة إلى كتاب “الأكتوبريات” الذي ضم مقالات وقصائد عن ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1964، ضد نظام الفريق إبراهيم عبود، إضافة إلى رواية وحيدة لم تنشر حتى وفاته.

كان واحداً من ثلاثة نسب إليهم تأسيس تيار “الغابة والصحراء”، وهي حركة شعرية ثقافية، أسسها إضافة إلى الراحل في أوائل الستينيات من القرن الماضي، الشاعر والأكاديمي السوداني محمد عبدالحي، والشاعر والمترجم النور عثمان أبكر، وقد انطلقت من مفهوم التمازج العربي الأفريقي في السودان، وفتحت الباب لتدارس خطاب الهوية السودانية، حتى لمن لم ينضموا صراحة للتيار، لكنهم خاضوا في جدل الهوية، مثل الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، والناقد المسرحي يوسف عيدابي.

وقبل 10 أيام من رحيله، رشح المكي من قبل الاتحاد العالمي للشعر، التابع لجامعة الدول العربية، لنيل جائزته من بين خمسة رموز شعرية سودانية.

رقة وصرامة

إضافة إلى ثمرات نشاطه “الشعري”، فإن بحوث الشاعر الراحل الفكرية، كتبت بصرامة الفكر ورقة الشعر، كما يلفت الشاعر بشير أبو سن، في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، مستشهداً ببحثه عن أصول الفكر السوداني وتطوره، فضلاً عن مقالات كثيرة، حول المجتمع السوداني والشعر والتجربة الدبلوماسية.

يصف أبو سن أشعار المكي بأنها تعلق بذاكرة قارئها، فموسيقى كلماتها تبقى في تأرجح، حية، لا تسكن، وما كان قاموسه متشنجاً ضيقاً، بل واسعاً متمهلاً.

ومقراً بتأثره بشعرية محمد المكي إبراهيم يقول أبو سن: “كان شاعر لحظته الثورية، أعني ثورة أكتوبر 1964، بلا منازع، وكان يمجد جيله. وحين انتفضنا نحن في ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 لنسقط جنرالاً آخر، وأردت أن أمجد جيلي، وجدتني أبتدئ قصيدتي بالتناص مع المكي، ربما أثرى ذلك قصيدتي، لا أعلم، ما أردته هو أنه كان حاضراً في بالي دون إدراك مني، كما حضر شعر رفاقه من ذلك الجيل الذي أكسب شعرنا السوداني مجداً غير عابر”.

ولعل مسألة الهوية هي أبرز ما يجيء في بال أبو سن وقراء المكي قاطبة، ف”تيار الغابة والصحراء” كان تعبيراً شعرياً وفكرياً صريحاً عن موقف المكي ورفقائه من مسألة الهوية في السودان، والتي ما زالت حديث النقاد. ويعد أبو سن كتيبه عنها “في ذكرى الغابة والصحراء” وثيقة فريدة لذلك التيار، غير أنه لم يحبس نفسه داخلها، فأشعاره ظلت في تجدد.

وفي وصف شعريته يقول الشاعر بابكر الوسيلة ناعياً محمد المكي إبراهيم، إنه ليس شاعراً بالمعنى الذي تبحث عنه في القاموس، أو تقرأ له قصيدة وتمضي إلى حال سبيلك، بل يترك الأثر يتعلق بك كجرح أبدي ويمضي هو إلى حال حديقته العامرة. فقد استولدته حضارة المكان رزقاً للسودانيين ولأجيالهم القادمة، وتقف قصيدته على امتداد تاريخ المكان وتتأمل المعنى، مخلفة أثراً في المتردم العامر الدلالات، وبيتاً في أرض الشعر تسكنه اللغة ويبدع الإنسان العاشق.

جدل الغابة والصحراء

لكن بعد ما يقارب الـ60 عاماً من بروز “تيار الغابة والصحراء” في الفكر والشعر السوداني، لا يرى الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم أنهم كجيل هو والنور عثمان أبكر ومحمد عبدالحي قد نجحوا في محاولة صناعة تيار كبير في الشعر السوداني، كما تحدث في آخر ندوة أقيمت على شرف عودته، في الخرطوم قبيل الحرب بشهرين، معززاً حديثه بأن أصحاب التيار مواقفهم قد تغيرت.

وعلى رغم اشتراكه في تشكيل “تيار الغابة والصحراء”، مع رفيقيه النور عثمان أبكر ومحمد عبدالحي، فإن تجربة محمد المكي الشعرية، تميزت بالجزالة والعذوبة وسلوك طريق البساطة المتعذرة، وامتد تأثير تجربته إلى معاصريه وإلى أجيال شعرية تلت تجربته.

ويرى الشاعر والناقد أسامة تاج السر، وجه فرادة تجربة المكي الشعرية، في أنه يعد أحد الشعراء الذين حملوا خطاب الهوية السودانية، من دون إسقاط مباشر على القصيدة، ومن دون الانحياز إلى أحد جانبي خطاب “الغابة والصحراء”، متوسلاً تقنية التصوير الشعري لما هو يومي وحيوي في الحياة السودانية، فضلاً عن التوظيف الرمزي للموسيقى الشعرية مع كل قصيدة.

ويلفت تاج السر في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، إلى أن المكي كان الأقرب إلى التعبير عن السودانوية بوصفها مفهوماً تطرق إليه رواد الشعر السوداني، كحمزة الملك طنبل والتيجاني يوسف بشير ومحمد المهدي المجذوب، وصلاح أحمد إبراهيم، شعراً أو نثراً.

يقول تاج السر: “حول ذاك التيار (الغابة والصحراء) خطاب الهوية من شأن فردي، تجلى في تجارب من سبقوهم إلى شأن عام، شغل مساحة من النشاط الفكري، وهو ما استبطن في التجارب الشعرية من بعده”.

إندبندنت عربية

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *