“فلّاتة البُرهان” الذين يحافظون على الوطن.. كلُّ الضوء الذى لا يمكنُنا رؤيته
بدون زعل
وشقيق الرئيس المخلوع، عمر البشير، يأتى متأخّراً. كنّا قد انتظرناه ما يُقَاربُ السّاعة. وحين حضر إلى مكتبه، بمنظّمة “مَعَارج”، بدأ يتحدّثُ زهاء السّاعة عن أشياء لا علاقة لها بالموضوع الذى جئنا إليه. حكيتُ الحكاية هذه، من قبل، على صفحتى هنا. وكنتُ قد حكيتُها فى عمود كتبته زمناً على صحيفة “ألوان”. لكنَّ الاستاذ حسين خوجلى منع نشره. كنتُ أعرفُ أنّه سيمنعُ نشرَه. انتظرتُ يومين دون أنْ أكتبَ عمودىَ اليومىّ. أعرفُ أنَّه سيتّصلُ مسائلاً عن سبب توقّفى. فى اليوم الثالث اتّصلَ الأستاذ. سألنى فسألتُه. “مالك وقفتَ الكتابَة يا ود العرب؟”. “كتبتَ عمود وما نشرتوه…قلتَ يمكن ما دايرنّى أكتب”..ضحكَ. ” أنا القلت ليهم ما تنشروه..دا ما زمنو..بعدين ياخ، رواية بتحكيها إنتَ، وشاهدك فيها دنقلاوىّ دى رواية ضعيفة زاتو”..يضحكُ الأستاذ، ويحكى قصة من قصصه. جرابُه دائماً مليئ بالحكايات. “أكتب ياخ..المواضيع كملتْ يعنى؟”.
سأكتبُ..ولم أفعل، بالطّبع. طلّقتُ يومئذٍ الكتابة على “ألوان”.
سأعودُ لقصّة شقيق الرئيس البشير. لكنّنى سأروى حكاية، قبلها..
بعد مجزرة فضّ اعتصام القيادة العامّة، فى يونيو 2019م، كنتُ أتحدّثُ إلى صديقنا “العطبراوىّ”. مثقّف، تخرّج من القاهرة فرع الخرطوم فى الثمانينات. تنقّل بين اليمين واليسار. كان الوضعُ محتقناً. سألنى عن الحلّ الممكن. وبما أنّه ثورىّ من الطّراز الأوّل، كنتُ أعرفُ أنّه سيرفضُ رأيى. قلتُ له لا سبيل إلّا أنْ تتفاوضوا. سألنى “نتفاوض مع منو؟”..أجبتُه “مع المجلس العسكرىّ”..ردَّ مستاءً “نتفاوض كيف مع مجلس كلو فلّاتة وغسّالين؟”..له ” دا المجلس القسمو ليكم ربّنا..فاوضوا الفلّاتة والغسالين ديل، لأنّهم الماسكين البلد هسى”.
لاحقاً، نشبتِ الحرب..
انقسم الفلّاتة والغسّالون إلى قسمين..فأىُّ قسمٍ سيوافقُ صديقُنا العطبراوىّ، سليل المجاذيب؟ ما هى اعتباراتُ التفاضل بين مجموعتين من “الفلّاتة والغسالين”؟ كان يشيرُ بالطّبع إلى أنَّ المجلس العسكرىّ يضمُّ (حميدتى، الكبّاشى، إبراهيم جابر)، وذلك بعد تقديم الثلّاثة لاستقالاتهم وقبولها من طرف البرهان (عمر،جلال الشيخ، الطيّب).
من الواضح أنَّ هناك “اعتبارات” جرى فرزها أوتوماتيكيّاً فى عقل ونفسية المثقّف العطبراوىّ، هى التى جعلتْ موقفه منحازاً لفلّاتة “البرهان”. فقد قضى إبنُ شقيقه الطيّار الحربىّ نحبه، خلال الأشهر الأولى من الحرب، حينما أسقطتْ مضادّات الدّعم السّريع طائرته. جاء ذلك على خلفية إرثٍ هائلٍ من الحكايات المنقولة شفويّاً بتنكيل المهديّة، الخليفة التعايشىّ، الجهاديّة السّود، وغيرها. ستعملُ مجموعةٌ من الآليات لتضعَ المثقّف الثورىّ، العطبراوىّ، خريج الفلسفة، إلى جانب “فلّاتة البرهان”، مؤقتاً. وكونه يعيشُ فى عطبرة عاصمة الاستنارة، الثورة، الحداثة لن يشفع له. فالمدينة نفسها غرقتْ فى هيمنة القوى الظلاميّة، المناصرة للقبائليّة، المناطقيّة.
شايف كيف؟
قال محمد حسن أحمد البشير، شقيق الرئيس المخلوع (السّودانيين ما بقبلوا يحكمهم واحد رطّانىّ..مستحيل..بتعرف قاموا على الخليفة التعايشىّ ليه؟ مع إنو التعايشة عَرَب؟ بس لأنّو لسانو فيهو لكنة..فما ممكن يقبلوا يحكمهم واحد رطّانى، أبداً). كان فى الجلسة دنقلاويان : أباذر، مدير مكتبه، سيف الدّين حسن، المخرج الشّهير، إضافةً إلى شخصى، الرّطانىّ الثالث. ظلَّ أحدُهما يغمز لى ” أنْ فوّتْ كلام عمّك دا”، لمّا لاحظ أنَّ الشّرر يلمعُ فى عينى.
كتبتُ الحكاية فى عمود ل “ألوان”، عام 2016م. لكنَّ الأستاذ رأى أنّها (كتابة عنصريّة).
كنتُ أجادلُ نفسى : (أنْ تقول مقالة شقيق الرئيس المخلوع ليست عنصريّة..أنْ تنقلها هى العنصريّة؟ ثمّة شيئ خاطئٌ ههنا). نسيرُ باتّجاه الانقسامات الحادّة، بالطّبع. لا يمكنُ نكران ذلك. تغذّيه مخيّلة وحكايات ملفّقة. لا يمكنُ الجزم بأنَّ أحداً من السّودانيين ناجٍ منها. تتعلّقُ القصّة ثوريّاً بإعادة تأهيل الملعب الاجتماعىّ، الثقافىّ، السياسىّ، الاقتصادىّ ليكون جاهزاً لبناء دولة المواطنة والديمقراطيّة. اجتثاث الديكتاتوريّة التى دائما يكونُ الجيش حمارَها الذى تمتطيه. لا يمكنُ أنْ يحدث ذلك فى وجود ذات الجيش، بذات العقليّات، بذات الأدوار.
لكنّك ستجدُ نفسك محمولا بمحفّزاتٍ أخرى للوقوف مع “فلّاتة وغسّالين”، ضدَّ “فلّاتة وغسّالين” آخرين. لماذا؟ لأنَّ “فلّاتة” البرهان وغسّاليه يضمنون استمرار امتيازاتك. يؤمّنون مستقبلا حافلاً بالامتيازات لأبنائك، أحفادك..يعملون على حراسة وضع أهلك الطّبقىّ. وليس لأنَّ الوقوف ههنا هو ما يقتضيه “الوطن”، الكذبة البلقاء التى تغشّ بها نفسك.
شايف كيف؟
ذلك أنَّ الوطن هو ما نتّفق على أسسه، أنظمته، الموجبة للعدالة. القمينة بتحقيق المساواة. الحاثّة على “فضيلة الحق والخير والجمال”. وليس هو ما ننفى منه الذين “لا يشبهوننا”، بعبارة وجدى صالح. لكنّنا نتعمد ألّا نرى الضوء..الضوء الباهر الجليل.ز
*ملحوظة:
الصّورة بليغة..وعنوان المقال مسروق من اسم مسلسل يعالج دخول الألمان إلى فرنسا، فى إطار الحرب العالميّة الثانية.
المصدر: صحيفة الراكوبة