اخر الاخبار

جراح منسية.. الصحة النفسية ليست أولوية للمؤسسات التي تُشغّل الصحفيين في غزة اليوم 24

أُنجِزَ هذا التحقيق بدعمٍ من أريج.

يوثق التحقيق من خلال شهادات وبيانات صحفيين وصحفيات في غزة الأثر النفسي القاسي، الذي تُخلفه تغطية الحرب، في ظل غياب الدعم النفسي اللازم، المُقدم لهم من المؤسسات الإعلامية.

لم يتمكن يوسف فارس من طرد رائحة احتراق الجثث العالقة في ذهنه؛ حتى إن مشهداً اعتيادياً لشواء السمك أثناء عودته من العمل، يذكره بالقصف الإسرائيلي لمدرسة « التابعين »، الذي راح ضحيته نحو مئة شخص. « لم أعد أحتمل رائحة الشواء، بعد أن شممت رائحة الجثث والأشلاء المحترقة »، يقول يوسف فارس (37 عاماً)، الصحفي في شمال غزة.

بعد مضيّ عشرة أشهر من الحرب على قطاع غزة، وعبر حسابه على فيسبوك، كتب أنس الشريف، مراسل الجزيرة شمال القطاع: « أقضي ليالي بلا نوم، كأنني أبحث عن ملاذ لا يمكن الوصول إليه، تتكرر في ذهني صور المجازر في غزة… ربما تكمن الراحة في الموت؟! ».

المشاعر ذاتها وربما هواجس أخرى، دونتها دعاء روقة عبر صفحتها على فيسبوك بعد نجاتها للمرة الثالثة من غارة إسرائيلية استهدفت ساحة مستشفى شهداء الأقصى، وأدت إلى مقتل خمسة أشخاص: « هل سأموت حرقاً أم بشظية صاروخ؟! هذا السؤال أصبح يراودني ويقلقني … لا أريد أن يفتفتني الصاروخ لأشلاء، أُريد جسدي كاملاً حين مماتي ».

تلخص كلمات فارس والشريف وأمنيات روقة حال عديد الصحفيين والصحفيات في قطاع غزة، ممن عاشوا الحرب الأخيرة وشاركوا في تغطيتها.

في السابع من أكتوبر 2023، استيقظ الغزيون على أصوات الانفجارات، كانت الصواريخ بحسب وصف أحد الصحفيين تملأ سماء غزة. سارع الصحفيون لتغطية الحرب التي لم يتوقع أيّ منهم حينها أن يطول أمدها إلى هذا الحد. رغم أن القطاع شهد عدة حروب، لكنّ أطولها لم تتجاوز واحداً وخمسين يوماً. وجد الصحفيون أنفسهم أمام حرب لا تبقي ولا تذر؛ فالنجاة منها قدر قد لا يصيب كثيرين.

« المشاهد التي يراها تعلق في ذاكرته، الأصوات التي يسمعها، صافرات الإنذار والانفجارات وصراخ الناس الذين يعانون… كل ذلك مقلق جداً ويستنزف الإنسان، لا يمكن أن يمر بذلك لفترات طويلة من دون أن يترك أثراً »، تؤكد الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد.

لا يوثق الصحفيون والصحفيات أحداث الحرب فحسب، بل يعيشون تفاصيلها كل يوم. يقول يوسف فارس، الصحفي في شمال غزة: « عندما نتحدث مع أفراد فقدوا عائلاتهم، نشعر بدموعهم على خدودنا، وبكل مشاعرهم لأننا عشنا ما يعيشونه ».

 

يوسف فارس من داخل مدرسة التابعين في العاشر غشت بعد قصفها بطيران الجيش الإسرائيلي

في بث مباشر، وبعد تلقيه خبر مقتل زميله محمد أبو حطب رفقة أحد عشر فرداً من عائلته، قال الصحفي سلمان البشير: « نحن ضحايا على الهواء مباشرة، مع فرق التوقيت ». ورغم كل هذه الضغوط والتهديدات، يستمر الصحفيون في التغطية.

« لن يكلف أحد نفسه بسؤالنا إن كنا بخير »

 

يفترش الصحفي مصطفى جعرور (34 عاماً) خيمة نُصبت في ساحة مستشفى شهداء الأقصى، يتقاسمها مع خمسة صحفيين آخرين. انتهى به المطاف في هذه الخيمة بعد شهرين من الحرب، قضاها متنقلاً بين مستشفى الشفاء في مدينة غزة، ومستشفى ناصر في خان يونس.

يقول جعرور، الذي يعمل لصالح مؤسسة محلية: « تحرص المؤسسة على تذكيرك بالسلامة الجسدية والابتعاد عن المخاطر… من هذه الناحية لا يوجد تقصير من المؤسسة، لكن المؤسسات عامة لا تسأل الصحفي إن كان بخير أم لا؟! بل لا يملكون الوقت حتى لفعل ذلك ». مضيفاً أن ما يهم المؤسسات نهاية المطاف، هو استلام المادة الصحفية. ورغم أنه « ناجٍ من أربع حروب سابقة »، فإن هذه الحرب هي الأصعب، وفق تعبيره.

في اليوم الثالث من الحرب، فقد جعرور ثلاثة من زملائه المقربين في قصف إسرائيلي، استهدف عمارة سكنية، وفق ما وثّقت أريج في تحقيق سابق لها. يظهر جعرور في هذا الفيديو منهاراً باكياً، لحظة تأكيد خبر مقتلهم.

 

حتى ساحة مستشفى شهداء الأقصى، تعرضت للقصف الإسرائيلي عدة مرات، منها أواخر مارس، والأخير مطلع غشت. يصف جعرور حاله قائلاً: « أعجز عن النوم أحياناً، وحين تقع مثل هذه الأحداث لن يكون النوم ممكناً، بات الأمر مخيفاً للغاية ».

أهوال كثيرة يعيشها الصحفي مصطفى جعرور، كسائر سكان القطاع. دُمّر منزله، وفقد عدداً من زملائه، ونزحت عائلته عدة مرات، لتستقر أخيراً في منطقة القرارة بخان يونس؛ فيصعب الوصول إليهم. لكنّ المشهد الذي أثر فيه نفسياً وبات جزءاً من « روتينه » الصباحي، هو اصطفاف جثث القتلى في كل ممرات المستشفى.

 

خيمة الصحفيين داخل مستشفى شهداء الأقصى
خيمة الصحفيين داخل مستشفى شهداء الأقصى (المصدر: مصطفى جعرور)

يشارك جعرور تفاصيل ما يمر به مع زملائه الصحفيين الذين يتقاسم معهم الخيمة. أما المراسل الحربي عطية درويش (36 عاماً)، يفضّل أن يكون وحيداً، ويحتفظ بالكثير من التفاصيل المؤلمة لنفسه.

يذكر درويش، الذي سبق وتعرض لإصابة أثناء إحدى التغطيات قبل بضع سنوات، أن شعور الخوف والقلق كان يلازمه بداية الحرب؛ فكان أكثر ما يخشاه أن يتلقى خبر قصف محل سكن عائلته، أو أصدقائه. أما الآن فقد تبدّل هذا الخوف، يقول درويش: « ذهب هذا الخوف! لم أعد أشعر به، حتى إنني أصبحت عاجزاً عن البكاء ».

 

عطية درويش

وعن دعم المؤسسات الإعلامية، يشير درويش الذي فقد شقيقه وابنة أخته، إلى جانب ثمانية أشخاص من عائلته عقب قصف منزلهم إلى أن المؤسسات الصحفية العربية والدولية التي يعمل لديها؛ لا تسأل عن حالته النفسية في « الوقت الراهن »، وإنما يسألون فقط عن احتياجاته في العمل.

الصحفيان مصطفى جعرور وعطية درويش

ما يقوله درويش يتطابق مع شهادة الصحفي محمد إسماعيل دحروج، الذي أكد أنه حين تعرض لإصابة، تواصلت معه المؤسسة التي يعمل لديها، وحرصت على تقديم الدعم له. لكنّ المفارقة حين حوصروا في مستشفى الشفاء لأيام، لم تسأله أيّ مؤسسة عن حاله؛ بمعنى أن الصحفي يلقى اهتماماً من المؤسسات حين يكون الجرح ظاهراً، أما تلك الجراح الخفية فلا أحد يلتفت إليها.

من جهة أخرى، يقول الصحفي عبد الله عبيد، إن ما يحفزه للاستمرار في العمل هو تواصل مديره للاطمئنان على صحته؛ لكن في الوقت ذاته فإن المؤسسة لا تُقدّم أيّ دعم مادي للصحة النفسية. وأكد عبيد أنه مر بأربع حروب سابقة، لم يتلقَ خلالها أيّ دعم من أيّ مؤسسة.

 

محمد دحروج

على حافة الانهيار

تمكنت أريج من جمع بيانات مئة و25 صحفياً/ة في قطاع غزة؛ أكد 105 منهم/ن حاجتهم الماسة إلى الحديث حول ما شهدوه من أحداث خلال الحرب الأخيرة على غزة.

أظهر الاستطلاع أن أكثر من نصف الصحفيين/ات (64 صحفياً/ة) يشعرون بالخوف والتوتر أثناء تغطيتهم للأحداث، مقابل 72 صحفياً/ة يتعمدون الانشغال هرباً من مشاعرهم.

كما أوضح الاستطلاع أن 69 صحفياً/ة يرون أن علاقاتهم الاجتماعية تأثرت سلباً بتغطية الأحداث، كما أن 77 منهم أكدوا مرورهم بتقلبات مزاجية حادة. وتشير الأرقام إلى أن 75.2 بالمئة من الصحفيين/ات لا تفارقهم الصور والأحداث التي شهدوها حتى بعد انتهاء التغطية.

يجد فارس في العمل لأكثر من 16 ساعة يومياً، مخرجاً للهروب من ضغوط الحرب النفسية. يضيف قائلاً: « لا يكون العمل الصحفي نعمة لصاحبه سوى في الحروب، فالذي يعمل يكون لديه مسار مقنع للهروب من تفاصيل واقعه وهواجس مستقبله ». حاول فارس أن يتوقف عن التغطية ليوم واحد؛ لكنّه لم ينجح.

يتساءل فارس، الذي لم يتوقف يوماً منذ بداية الحرب عن نشر قصص توثق معاناة الغزيين شمال القطاع: « هل يمكن لإنسان سوي نفسياً أن يكتب ثمانين قطعة صحفية، ويقدم أربعين تقريراً وجولة مصورة، وخمساً وعشرين قصة تلفزيونية، لصالح أكبر خمس مؤسسات إعلامية عربية خلال شهر واحد… لا بل ويستمر في روتين كهذا لستة أشهر؟ ».

 

تصوير محمد بعلوشة

أما عن الدعم الذي تقدمه المؤسسات التي يعمل متعاوناً معها، فيؤكد الصحفي يوسف فارس أن علاقته بهذه المؤسسات اتخذت أبعاداً أكثر إنسانية خلال هذه الحرب، وتخطت كونها علاقة عمل؛ لأنها تتواصل معه بشكل يومي؛ للاطمئنان على حاله وحال أسرته. ويشير فارس إلى أنه ترك ارتباطات مع مؤسسات دولية رغم مردودها المادي الأعلى لأنها كانت دون المستوى الإنساني، على حد تعبيره.

تشير الأرقام إلى أن 53 صحفياً/ة من المستطلعة آراؤهم، لم يحصلوا على يوم إجازة واحد منذ الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023. حتى أولئك الذين توقفوا عن العمل أياماً معدودات بسبب نزوحهم، أو اعتقالهم، أو حتى إصابتهم، فقد عادوا للعمل مباشرة.

تقول خبيرة الأمن والسلامة الجسدية، عبير السعدي، إن الخطورة تكمن في انخراط بعض المراسلين الحربيين المحليين عاطفياً في التغطيات بمناطق النزاع؛ لأن حينها يختفي حس المراسل للأمن والسلامة الجسدية، مشددة على ضرورة أن يخلق الصحفي مسافة بينه وبين الحدث.

وتضيف السعدي أن المراسل الحربي على سبيل المثال يُبقي نفسه منشغلاً هرباً من التفكير، كي لا يتعرض لصدمة نفسية أو « تروما ». وتؤكد ضرورة خضوع الصحفي الحربي لجلسات دعم نفسي، بعد شعوره « بالأمان النسبي »؛ سواء بوقف إطلاق النار أو نزوحه إلى مكان أكثر أماناً، لأنها مرحلة استيعاب ما مر به.

ثنائية مقومات الحياة والأمن

كشف الاستطلاع أيضاً أن 93 من أصل 125مستجيباً فقدوا أفراداً من عائلاتهم، وأن 46 صحفياً/ة تعرضوا للإصابة، في حين واجه أغلب الصحفيين خطر الموت (117 صحفياً/ة).

وكانت أريج قد كشفت في تحقيق سابق أن 72 من أصل 213 صحفياً/ة فقدوا أفراداً من عائلاتهم، من بينهم 49 مستجيباً فقدوا أقارب من الدرجة الأولى، في حين أن 11 شخصاً منهم فقدوا واحداً أو أكثر من أطفالهم.

كما أظهر الاستطلاع، أن كل الصحفيين المُستطلَعين تعرضوا للنزوح؛ 88 صحفياً/ة تعرضوا للنزوح خمس مرات على الأقل، علاوة على ذلك انفصل 81 منهم عن عائلاتهم (64 في المئة).

وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة « فلسطينيات »، وهي مؤسسة أهلية إعلامية عملت على تقديم الدعم النفسي للصحفيين والصحفيات منذ عام 2014، لا تُقلّل من حاجة الصحفيين/ات إلى الدعم النفسي، لكنّها ترى أن هناك حاجات أساسية لكل الفلسطينيين في القطاع، منها تأمين مياه نظيفة، ومكان يلجؤون إليه لحمايتهم وذويهم. تضيف قائلة: « الصحفيون ليسوا منفصلين عن سياقهم وسياق عائلاتهم… بالأول بدي أعيش، أكون قادر على الحياة ».

في السياق ذاته، تؤكد الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، أهمية الحاجات الأساسية للإنسان من الطعام، والراحة، والاستقرار، كي يتمكن من أداء مهامه.

يوسف فارس في منزل العائلة بعد أن دُمّر جزء كبير منه في الحرب الإسرائيلية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *