حكايات الصبي النوبي الذي اكتشف القاهرة وعاد إلى قريته
تبدو رواية “كوش كو” (الدار المصرية اللبنانية) أقرب إلى “لعبة تحضير أرواح” استدعى مؤلفها مجموعة من الشخصيات التاريخية الفاعلة ومررها في حياة البطل، ليكسبه صفات أسطورية تشير إلى اتساع خبراته وسعة رزقه من الدنيا. تتأسس الرواية على مجاز الرحلة التي يقطعها “كوش كو” من طفولته في القرية إلى أن يبلغ النهاية في القرية أيضاً. لكن القارئ يجد نفسه أمام مجموعة من الأفكار الحيوية المرتبطة بمصائر أبطال العمل وتدور حول مفاهيم الحداثة والنهضة والاستشراق، وصولاً إلى إشكاليات معاصرة حول العنصرية والشتات.
الرواية (440 صفحة) تثير شغف القارئ بحكاية تقوم كلها على صبي نوبي أخذه خاله من القرية إلى القاهرة ليعمل معه ضمن طاقم الخدمة في فندق “شبرد” خلال بدايات القرن الـ20، وقت أن كانت مصر تشهد تحولات تاريخية مذهلة تمضي بها إلى فضاء التحديث على النمط الغربي. وتحول الفندق في عيني الصبي حاد الذكاء إلى نافذة كبيرة لرؤية العالم وهو يتغير، فقد تبلورت في تلك الأعوام حال الولع بمصر التي أغرت المغامرين الأوروبيين للمجيء إليها، إما بغرض السياحة أو بحثاً عن فرصة للعمل مع الإدارة البريطانية، أو بغرض الاستثمار في العقار واستكشاف فرص للتجارة في الآثار بطريقة غير شرعية.
يبتكر ولاء كمال في روايته جملة من المصادفات التي تجعل من كوش كو يلتقي بمن يغيرون حياته ويشرعون أبوابه على أسئلة لا حدود لها. وتبدو المصادفات “غير مقبولة” منطقياً إلا أنها مقبولة بمنطق اللعب الفني الذي قاد المؤلف إلى افتراض أن وجود عامل في الفندق التاريخي خلال تلك الفترة التي شهدت مرور كل هؤلاء الأعلام يبرر له فنياً تلك المصادفات. ويستدعي ولاء كمال شخصياته من كتب التاريخ بمنطق من يعمل في مختبر ويبدو منشغلاً بخلق تفاعل بين مسارات ومواد مختلفة أكثر من أي شيء آخر. فالمنطق الفني لدى الروائي أهم من الصدقية التاريخية لأن مهامه تختلف عن مهام المؤرخ. ويبرر هذا المنطق اختيار (كوش كو) لمرافقة صبي أزهري كفيف في مثل سنه لمساعدته في السير داخل حواري القاهرة، لكن الكفيف يعلمه القراءة والكتابة ويقرأ له من كتب التراث. وبتعبير الراوي العليم “لم تكن مسألة تعليم القراءة فحسب بل كانت تشكيلاً كاملاً لوعي كوش”.
ولا عجب في أن يتوقع القارئ أن هذا الكفيف هو طه حسين وبهذا المنطق يمكن تقبل مصادفات أخرى تجعل “كوش” يلتقي أغاثا ميللر (كريستي) في أول رحلة لها في مصر برفقة عائلتها وهي لا تزال فتاة صغيرة، وتأنس له وتبادر إلى تعليمه الإنجليزية وتقرأ عليه فقرات من أعمال لشكسبير وتحل محل طه حسين وتؤدي الدور الذي كان يؤديه لكن في سبيل اكتشاف لغة أخرى. بينما يساعده كبير خدم قلعة هابلكير في مقاطعة هامبشاير البريطانية السير ستيفنز في أن يصبح أفضل نادل في مصر.
بفضل تلك المصادفات تتشكل هوية جديدة لـ”كوش كو” تقوده إلى أزمة وجودية ناتجة من شعوره بأنه مجرد محطة عابرة في حياة زوار فندقه، لكن تجاربه تغير وعيه ليدرك أن تغيير أوضاعه وتحرره غير منفصل عن تحرير بلاده من الاستعمار. ويمد الروائي خط الخيال التاريخي على استقامته لدرجة أنه ينسب افتتاحية الرواية للزعيم سعد زغلول ويشير إلى أنها وردت في الجزء الـ13 من مذكراته، وهو جزء ليس له وجود لكنه يورط القارئ في معاهدة تنسف احتمالية أن يصنف عمله هذا “رواية تاريخية”.
ويبتكر مصادفات تأتي بشخصيات أخرى تلعب على أهميتها التاريخية أدواراً ثانوية ويجلبها من الظل لتعزيز صورة أسطورية للبطل الذي يريد أن يصعد به من الهامش إلى صدارة المشهد. ويتساوى هنا حضور هدى شعراوي أو سعد زغلول أو اللورد كيتشنر بل والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت الذي “حضر” إلى مصر بعد أن ترك منصب الرئاسة، وتم تكليف كوش كو بمرافقته إلا أنه يكتشف أن رأسه يمتلئ بأفكار عنصرية يكرر معها الأفكار التي مررها الرجل الأبيض تاريخياً لتبرير الاستعمار بوصفه مهمة حضارية، بالتالي لم تختلف مهمة روزفلت عن مهمة الطبيب المتخصص في دراسة الأعراق الزنجية الذي التقاه كوش بعد أن التحق بالعمل مع المعتمد البريطاني اللورد كيتشنر (18501916).
ضد الاستشراق
تدين الرواية إجمالاً الخطاب الاستشراقي الذي حكم نظرة الغرب لتاريخ المنطقة وتنتصر للمعرفة التي تقوم على إدراك الذات وتراهن على السعي دائماً إلى المعرفة والتواصل مع الآخر على قاعدة من الندية، وفي قلب تلك اللعبة السردية يتأكد القارئ بفضل شواهد كثيرة داخل العمل أن المؤلف يمتلك الوعي التاريخي الذي يؤهله لبناء رواية تستعيد وقائع تاريخية أو تجتر سيراً معروفة، لكنه يؤمن أن مهمة الروائي أبعد من ذلك ومن ثم يلجأ إلى الخيال ليشيد البناء الذي يفضله. وأخيراً يمكن القول إن هذه الرواية تستعمل التاريخ استعمالاً فريداً، فهي تهتم بسلامة الإطار التاريخي ذاته وتترك للمؤلف الحرية في صياغة نسيج الحكاية، بالتالي لا يمكن القول إن اللقاءات التي يصنعها بين كوش وشخصيات مثل ريا وسكينة القاتلتين الشعيرتين أو شارلي شابلن تقوم على منطق اعتباطي ليست له دلالات، بل على العكس من ذلك فالنسيج التاريخي الذي يمثل خلفية للأحداث حافل بالوقائع التاريخية الرئيسة التي يقدمها الروائي بقدر وافر من الدقة، يبرز طبيعة المرحلة التي يقاربها فنياً.
وتركز الرواية من جهة على الفضاء التعددي لمدينة القاهرة عند بداية القرن الـ20 “المدينة المتفجرة تمر في تلك الومضة من الزمن بحالة ولادة شبه يومية وهي في حالة ديمومة لا تنتهي، تستكشف نفسها مع إشراقة كل شمس”. ومن جهة أخرى تظهر التناقض بين قاهرتين، استناداً إلى رأي طه حسين المخترع في الرواية، فهناك قاهرة للأجانب والرأسماليين وأخرى للمصريين الفقراء والكادحين.
لا تقتصر الرسائل المضمرة في الرواية على القضايا الكبرى وإنما تمتد لتكشف وعي مؤلفها بالصور الفنية التي كانت جديدة في ذلك الزمن التاريخي الذي اختاره خلفية لأحداث روايته، إذ ينقل ولع طه حسين بالرواية وما يسميه “الأدب المستجد”. وفي مناطق أخرى يتعرف على بطل يمنحه اسماً مستعاراً هو “محسن” ليبث لنا هواجسه عن الفن الذي يرغب في دراسته والمسرح الذي استولى على تفكيره. ولم يكن “محسن” هذا سوى توفيق الحكيم الذي يطل غير مرة في الرواية بما تمثله رائعته “عودة الروح”. ويظهر نجيب الريحاني وتساؤلاته حول طبيعة ما يقدمه، وينقل الكاتب للقارئ شغف المخرج السينمائي محمد كريم بالاختراع الجديد الذي استولى على تفكيره.
وتعتمد الرواية كثيراً على تقنيات كتابة السيناريو وتجيد إغلاق الأقواس المفتوحة في العلاقات الروائية والخطوط التي تقدمها في البداية بحيث لا ينتهي القارئ منها إلا وقد وجد نهاية لكل المسارات السردية التي مررها الروائي داخل النسيج. ويلتقي كوش مع طه حسين ونجيب الريحاني وآخرين عرفهم في رحلته ويخرج لمرافقة أغاثا كريستي وزوجها في رحلة أراد أن تكون رحلته الأخيرة لكنه يلتقي على الباخرة نفسها رجل الشرطة الإنجليزي الذي شاهده وهو يقتل جندياً أراد قتله في تظاهرات ثورة 1919. وتساعده كريستي على الهرب ويتمكن من بلوغ الشاطئ والعودة من جديد إلى قريته حيث يتزوج هناك قبل أن ينهي حياته بتأسيس مدرسة للأطفال حتى يكبروا متعلمين، قبل أن يأتي وباء الكوليرا فيحصد روحه مع أرواح الآخرين.
اندبندنت عربية
المصدر: صحيفة الراكوبة