دفنوها في حضن قبره! أمد للإعلام
أمد/ أصرَّ أحمد مساء يوم 20102023م أن يحدثني عن نبوغه في مجال التمريض والطب، وأنه يملك موهبة اكتشاف شريين الدم في أذرعة المرضى ممن يحتاجون لحقنٍ تغذية، وكيف أن الأطباء الماهرين كانوا يعجزون عن اكتشاف شرايين الدم في أجساد المرضى، بخاصة عند المواليد وعند بعض الأشخاص ممن لا تظهر شرايينهم بوضوح، قال أحمد: كنتُ أنتشي عندما كان الأطباء ينادونني: “أحمد ضع أنبوب التغذية في وريد المريض”.
أصر، أحمد ابن أخي في تلك الليلة وهو يجلس في بيت والده أن يحدثني عن مسيرة حياته كلها، وبخاصة في مجالات نبوغه، كان يسكن في بناية صغيرة المساحة وسط مخيم اللاجئين، هذه المساحة اشتراها والده، خصصها سكنا لولدين من أولاده، بنى لكل ولد منهما شقة خاصة في الطابق العلوي، أما الطابق السفلي خصصه دكانا للتجارة.
حدثني أحمد في تلك الليلة بشغف عن موهبة أخرى، عن نبوغه في صناعة مواد التنظيف والشامبو، أرد أن يُثبت لي كفاءته في صناعة أرقى أنواع الشامبو والصابون والمنظفات بأرخص الأثمان، لأنه تمكن من العثور على أسرار تلك المستحضرات بالمتابعة العلمية والتجربة العملية، لذلك فهو يملك كل الأدوات اللازمة لهذه الصناعة، كان يود أن ينجح في تغليف منتجاته بشكل علمي ليتم تسويقها بصورة أفضل من إعادة تدوير القوارير القديمة، كان سعيدا جدا بالدخل المادي، وأنه تمكن من شراء دراجة نارية خصصها للتوزيع، كان قادرا على الإنفاق على أسرته المكونة من أربعة أفراد، زوجته وابن وابنتين، حدثني طويلا عن، جود، ابنته الصغرى وهي في الثانية من عمرها ولدت بمشكلة صحية، ورغم ذلك بدت عليها علائم الذكاء، كانت أكبر من عمرها الحقيقي، قال: أحسستُ بأنها ستكون متفوقة في دراستها، وأنها كانت تتحدى مشكلتها الصحية الخطيرة، كانت ابنة حياة، مما اضطرني للحصول على منحة لعلاجها في مستشفى تخصصي، كان حديثه مملوءا بالحب والحنان والحرص على متابعة صحة هذه الابنة، ابتسم وهو يقول: أخيرا نجح طبيب فلسطيني في إجراء عمليتين جراحيتين ناجحتين، مما جلب لي السعادة بشفائها شفاء تاما.
كان يسرد روايته لي وأنا أتمدد على بقايا كنبة جلوس مصنوعة يدويا من خشب الصناديق، فجأة طلب من ابنته الكبرى أن تُحضر، جود من حضن أمها لأراها، كانت عينا جود طافحتين بحب الحياة، لم تغضب حين وضعها في حضني بل كانت سعيدة، طبعت على جبينها قبلة، لم تنفر، بل شعرتُ بأنها انتشت وابتسمت، بسرعة استعاد ابنته من حضني وشرع في تقبيلها وخرمشة وجهها الطري بلحيته، كانت تضحك وهي تعتصر بإصبع يدها الغض أذنه، كم كانت سعيدة عندما صرخ مدعيا الألم من عصر أذنه! ظلت تقرب خدها من شفتيه وتمنحه ابتسامة كمكافأة.
كان شغفه بابنته، جود وبقصص تفوقه وحلمه بالمستقبل لتطوير شركته يرسم على وجهه سعادة التألق والانتشاء.
صوت زنين الطائرة المسيرة يقتحم الجمجمة، يشوش العقل، ورغم ذلك كنت قادرا على الإحساس بمقدار سعادة أحمد وهو يقص عليَّ فرحه بنجاة ابنته جود من مرضها.
كان ضوء البطارية يخبو قليلا قليلا لغياب التيار الكهربي، كنت أغالب النعاس وأحاول أن أظل منتبها طوال هذه المدة الطويلة لكي أمنحه مزيدا من الإعجاب بمثابرته وإصراره على التفوق.
غادر أحمد بيت والده في تمام الساعة الحادية عشرة مساء، متجها نحو بيته القريب، كان حليق الذقن متورد الوجنتين يلبس جلابيه جديدة، تفوح منها رائحة العطر، كان الظلام في الخارج دامسا، اقتاد ابنه بيده وخرج!
كنت أحاول أن أغفو على صوت المذياع المنبعث من هاتفي، وهو يعدد غارات الطائرات وأعداد القتلى، لم أنجح في إغفاءة طويلة، انشغلتُ طويلا بقصة أحمد ومهاراته في اكتشاف شرايين الدم في أذرعة المرضى، ونبوغه في صناعة مواد التنظيف، ظللتُ أتساءل: لماذا حدثني عن كل مواهبه؟
غفوت غفوات متقطعة حتى بداية خيوط الفجر الأولى، حين أيقظ انفجارٌ ضخم جميع النائمين في محيطنا، قفزت بسرعة من فراشي الأرضي، كومة من السواد اكتسحت خيوط الفجر الأولى وأسدلت عليها ستائر من الغبار الدقيق تحجب الرؤية، لم أكن أعرف موقع الانفجار بالضبط ولكنني كنت أحس أنني في وسطه بالضبط، ظللت أتابع اتجاه الذين يجرون نحو الانفجار، قال أحدهم إن الانفجار أطاح ببيت أحمد وأخيه لأنه ملاصق للبيتٍ المقصود بالتفجير، هدمت القنابل أساسات بيت أحمد دُفن الطابق الأول كلُّه في أساس البيت السفلي، مال الطابق الثاني على الشارع. انشغل إخوة أحمد في إيجاد ثقب يمكنهم من الوصول إلى أسرة أخيهم، كانت الإضاءة تنبعث من هواتف المحيطين بالمكان، أخيرا وجدوا فتحة متشققة صغيرة جدا تطل على أسرة أحمد، أضاءوا الفتحة بكشاف الهاتف، كان أحمد فاقد الوعي، سحبوه من الفتحة الصغيرة، لكنه لم ينج، ولم تفلح محاولة إنعاشه، لكنهم تمكنوا من إخراج زوجته وابنته الكبرى وابنه وهم مصابون بجروح ورضوض متعددة، كان ثلاثتهم على قيد الحياة، أما جود ابنته الصغرى لم يتمكن أحد من إيجادها.
حاول إخوته طوال اليوم العثور على الابنة جود، ولكنهم فشلوا في تحديد مكانها تحت الركام، كنتُ أخاف على إخوة أحمد الأربعة عندما ظلوا يحاولون البحث عن رفات جود بين ركام بيتهم الغائر في الأرض، حتى أن والدهم حذرهم ومنعهم من الغوص وسط الركام، خشية أن ينهار البيت بالكامل فتتضاعف الفاجعة.
لم تغب جود عن مغامرات أعمامها ورغبتهم في العثور عليها، لم ييأسوا في البحث عنها، ظلوا يتسللون عبر فتحة في بقايا الركام، إلى أن تمكنوا بعد ثلاثة شهور من العثور على بقايا جسدها الغض المتحلل، جمعوا بقايا جسدها، عبأوها في وعاء فخاري قديم، أغلقوا الوعاء الفخاري، دفنوها في حضن قبر أبيها!