اخبار السودان

ملامح من الحياة في كندا (2)

د. حامد بشرى

حامد بشري

السيدة (كرستين) زميلتي في العمل وجارتي في المكتب ، عملنا سوياً في عدة مشاريع لفترة قد تمتد الي عشرة أعوام . نموذج للمرأة المنظمة والمثابرة والدقيقة في عملها وفي كل شئ . تحتفظ بقواتير شراء الأغراض المنزلية في المكتب ومن حين لآخر تبوح لنا عن مشترواتها وأماكن المحلات التجارية التي تعرض بضاعتها بأسعار مخفضة وفي أي الأوقات وكيف كانت تدير المساومة مع البائع . مثلاً أن يتكفل بنقل الأغراض الكبيرة الي منزلها أو أن يمدد فترة تأمين البضاعة أو إقناع شركة السيارات بتخزين الاطارات الشتوية في جراج الشركة . وهنالك حالة نجحت فيها بالحصول علي ثلاجة تبريد مجانية حينما لم تصلها البضاعة في المواعيد المحددة بعد محاججات مضنية . توفي والد السيدة (كرستين) وأخطرتنا بذلك وبمواعيد طقوس العزاء وأسم الكنيسة التي سيتم فيها تقديم القداس . بعد أن قدمنا المُوجب كزملاء وزميلات الي (كرستين) في وفاة والدها مع بطاقة عزاء ، ذهبتُ الي الدافنة وقدمت مواساتي للعائلة وتجولت في الكنيسة بحثاً عن التابوت لكي القي نظرة أخيرة علي الجثمان والذي يكون في أبهي حلة وفي بعض الأحيان بجانبه تضع أسرة المتوفي العصاة التي كان يتوكأ عليها الفقيد ونضاراته الطبية حتي يقدر علي الرؤية والسير يوم الحشر هكذا كما يعتقدون . ولما لم أجده ذهبتُ (لكرستين) لكي أستفسر عن مكانه ، وكان ردها أشارة بيدها اليمني . ولما لم أجد ما يوحي بوجود تابوت رجعت أسألها للمرة الثانية علها لم تفهمني في المرة الأولي . فما كان منها هذه المرة الأ أن لمستْ شنطة اليد التي تضعها علي كفها الأيسر وقالت لي بلغة واضحة أنه هنا . صعقت في الحال وقبل أن أفيق واصلت هي في الحديث ووضحت أن المرحوم الموجود في هذه الحقيبة والذي كان طريح المستشفي قبل أسبوع أوصي بأن يتم حرقه وعملاً بوصيته تم له ما أراد والآن هو في مكان آمن في أناء زجاجي بداخل هذه الشنطة . علاوة علي ذلك هي تضع الفتيل الزجاجي (المرحوم) في غرفة نومها تراه كل يوم صباحاً ومساءً وفاءً وعرفاناً وحباً للوالدين . تعجبت لقوم كيف يخلدون ذكري موتاهم . وبهذه المناسبة لا بأس أن نتعرض لذكر المقابر في هذه البلدان. المقابر ومراسيم الدفن تكلفتها عالية والشركات المختصة بهذه الأجراءات يشجعون المواطنين وهم علي قيد الحياة لشراء المقابر اليوم قبل غد لان أسعارها في زيادة مستمرة مثلها كالعقارات . ويتبعون في ذلك أساليب عده . منها إغراء المتوفي مستقبلاً بشراء المقبرة لفترة زمنية محددة وإذا لم يتوفاه الله في هذا التوقيت يمكنه أن يبيع مقبرته بسعر أعلي من ثمن الشراء (سعر اليوم) . يمكن للشخص أن يشتري أكثر من مقبرة وأن يتحول الي مستثمر عقاري مقابر. وبمعني أقرب للواقع يمكنك أن تشتري مقدماً مقبرة بأحمد شرفي والثانية بالبكري والثالثة بحمد النيل . بعض المسلمين أشتروا مقبرة واحدة من طابقين تضم الزوج والزوجة لتخفيض التكلفة . أما حالي فيحتاج الي فتوي شرعية ، زوجتي مسيحية وأشترتْ مقبرة لها بالقرب من والدتها بسعر معقول وما زالت تغريني بالشراء لكي أكون بالقرب منهما . ما رأي الشريعة في هذه الحالة ؟ وأضعين في الأعتبار أن فرق السعر بين هذه المقبرة ومقابر المسلمين كبير . مقابر المسلمين أعلي سعراً . هل يجوز لي أن أشتري مقبرة بالقرب من زوجتي في مقابر المسيحيين علي أن أتعهد بدفع قيمة الفرق بين المقبرتين لضحايا الحرب العالقين بجمهورية مصر؟ .
تم بناء مسجد في الحي الذي أسكنه بدعم محلي وخارجي من دول عربية مختلفة وأعتقد أن الأمارات ساهمت بالجزء الأكبر . تبرعتُ كغيري من المسلمين لتشييده . هذا الجامع يضم بداخله ملعب للباسكت بول وفصول لدراسة القرآن الكريم وأنشطة مختلفة للشباب والشابات مع تقديم محاضرات عن الدين الأسلامي باللغة الأنجليزية تحفزهم علي الأمساك بدينهم كذلك نقيم أفراحنا وأتراحنا بالمسجد . الأمام الذي تم تعينه من قبل مجلس الأدارة مواطن صربي/كندي تعلم القرآن الكريم وأصول الفقه بالمملكة العربية السعودية . يدعوا في خطبه للأسلام بصورة عصرية جذبت الي الجامع أعداد كبيرة من شباب الحي الذين وُلدوا بكندا لآباء وأمهات مسلمين ، حتي أن المُصليين باتوا يأتون الي هذا الجامع من أمكان بعيدة . بعد أن أندلعت الحرب في السودان ساعدنا كثيراً في جمع مساعدة مالية للمتضررين وفي أكثر من مرة طالب المصلين بالدعاء لوقف الحرب في السودان وغزة .
حضرت لصلاة الجمعة كالمعتاد وأذا بسيارات الشرطة تقف حول الجامع وبالسؤال عن السبب ، تم عزل الأمام ومُنع من أن يأم المصليين بأمر من مجلس الأدارة وفي أعقاب ذلك تم أستدعاء الشرطة تفادياً لصدام قد يحدث بين مؤيدين له من الشباب ومعارضين . وعلي الحال قامت حملة توقيعات علي وسائل التواصل الأجتماعي تطالب بأعادة الأمام المُقال الي الجامع . وفي محادثتي مع بعض الشخصيات التي لها علاقة مع أدارة المسجد عن الأسباب التي دعت الي إقالة الأمام الذي كان من أكثر الشخصيات جاذبة للشباب وداعيةً لجمع التبرعات لبناء المسجد وصيانته والمحافظة عليه جاء الرد أن مجلس الأدارة له تحفظات علي الأمام مع العلم أنه ظل أماماً لفترة تقارب العشرة أعوام إزدهر فيها الجامع . والتحفظات تتلخص في الآتي :
أولاً : بعد أن تم الدخول علي حسابه في الفيس بوك أتضح أنه وزوجته (الغير محجبة) وضعوا صوراً لهم مع بابا نويل في أحدي المحلات التجارية أثناء أعياد الكريسماس علي صفحتهم بوسائل التواصل الأجتماعي.
ثانياً : في بعض الأحاين لا يحضر صلاة الفجر وأنما يُوكل أمرها لمن ينوب عنه . وهذا مخالف لشروط العقد.
ثالثاً : ليس هو بفقيه لكي يفتي في الأمور الدينية .
رابعاً : يحفظ صور محددة من القرآن الكريم وليس كل القرآن وخطبه غير متجددة .
الجدير بالذكر أن الأمامة وظيفة يتم التقديم لها وتخضع لمعاينة وعقد عمل وراتب شهري محترم ، وفي الجامع الكبير بالمدينة هنالك منزل للأمام مُلحق بالجامع .
يوجد في دولة كندا مؤسستين خيريتين ذات أهمية قصوي وهما (بنك الطعام) و (جيش الخلاص) . بنك الطعام مسئول عن أطعام من ليس له مصدر دخل بخلاف بند الرعاية الأجتماعية . يتم تمويل هذا البنك من صدقات المواطنين والمحلات التجارية وجزء من البلديات ويتواجد في المدن والاحياء المختلفة . الجميع يحق لهم صرف حصص المعلبات والدقيق والخبز والعدس واللبن ومواد غذائية أخري لهم ولاطفالهم أسبوعياً . تحث الدولة المواطنين والمنظمات للتبرع لهذه المؤسسة . في السنوات الأخيرة زاد معدل رواد هذا البنك نسبة للضائقة المعيشية التي يمر بها المواطنيين . بنك الطعام يشبه (التكايا) التي قامت في العاصمة وأماكن أخري بعد أن أندلعت هذه الحرب اللعينة التي لم تسبقها كارثة حلت بالوطن . في أعياد الميلاد يتم جمع مواد غذائية وهدايا من قبل موظفي الحكومة والعاملين بالشركات وتسليمها لبنك الطعام أو الي بعض الأسر الفقيرة نسبياً بغض النظر عن الديانة حتي يشعر الجميع بفرحة العيد . علي المستوي الشخصي أطعمني هذا البنك من جوع حينما وطأت قدامي هذا القطر وله علي أفضال كثيرة والآن جاء وقت رد الجميل .
المؤسسة المهمة الثانية (جيش الخلاص) . جيش الخلاص عبارة عن متاجر كبيرة تباع بها ملابس شبه مستعملة أو جديدة وأحذية ومعدات وأفرشة منزلية وكهربائية وكتب ولوحات بأختصار يوجد بها كل شيئ ما عدا المأكولات . يُمول جيش الخلاص من تبرعات المواطنين . يستقبل التبرعات أما بالذهاب مباشرة الي هذه المتاجر حيث يتم الأستلام أو عن طريق الأتصال التلفوني مع المتجر الذي سيأتي مندوبه الي منزلك ويأخذها أذا كان التبرع بأشياء من الحجم الكبير مثلاً غرف نوم أو جلوس أو كراسي وترابيز ، بوتجازات ، ثلاجات حتي وأن لم تكن تعمل حيث تتم صيانتها من قبل فنيين ومن ثم عرضها للبيع بأسعار زهيدة . في أثناء مرورك داخل هذا المحل التجاري تجد أناساً ذو دخول عالية وسيارات فاخرة وحتي علي بعضها لوحات أمريكية تقف خارج المحل أتوا الي هذه المرفق التجاري لإنخفاض أسعاره ولاهمية وضرورة ترشيد الصرف . بكل أسف نحن السودانيين وعلي الرغم من ظروف الحرب والأعباء التي خلفتها علي عاتقنا لم نعْ الدروس المستفادة منها ولا زلنا نتأفف من الدخول لهذه الأماكن ناهيك من الشراء منها .
لجيش الخلاص مساكن تشبه الداخليات يتوفر بها سكن وطعام مجاني ثلاث وجبات في اليوم لمن ليس له سكن بالمدينة . ونتيجة لوصول أعداد كبيرة من المهاجرين لهذه المدينة أصبح بصعوبة الحصول علي سكن يتبع لجيش الخلاص في المدن الكبيرة . يستقبل سكن جيش الخلاص تبرعات من المواطنين سواء كانت عينية أو نقدية .
هذه هي بعض صور التكافل التي يتمتع بها الكنديين أضافة الي أسهاماتهم في الافراح والأتراح . صحيح قد لا تشبه التكافل الأجتماعي السوداني لكن لكل مجتمع عاداته وخصوصياته .
الأطفال والشباب يحترمون القانون ويلتزمون حرفياً بتطبيقه وهذا الأحترام في رأي مكتسب بداية من التعليم في الروضة . الأطفال يعتقدون أن رأي وتوجيهات معلمة الروضة مُنزلةُ. تعلمهم السلوك القويم بدأ من تناول الطعام والتحدث وأحترام المواعيد وعدم التأخير ويدخل في ذلك العقاب بحرمانهم من أحب الأشياء اليهم وهي اللعب مع بقية الأطفال . يتعلمون حتي قواعد السير في الشارع ومتي يسمح لهم بعبوره حيث يتم أرضاعهم بالقانون والعقاب منذ الصغر. وعندما يكبر الطفل ويتحصل علي رخصة القيادة التي تسمح له بأستعمال سيارة الوالدين فأنه يطبق قانون الحركة بحذافيره خوفاً من فقدان الرخصة أو الغرامة نتيجة لمخالفة في القوانين . أما نحن الآباء فنجد علاقتنا بالقانون ضعيفة وخاصة فيما يتعلق بقيادة السيارة . يمكن للفرد منا أن يتخطي السرعة المسموح بها ويمكن للشخص أن يوقف السيارة في أماكن غير مسموح بها حتي رجالنا القانونيين يقعون فريسة لهذه المخالفات التي لا نوليها أعتباراً . رغم عملنا وعيشتنا في بلدان رأسمالية الأ أننا لا زلنا لا نحترم القانون خلافاً للجيل الثاني من المهاجرين .
ذات يوم كان الطقس معتدلاً والشوارع تخلو من المارة والسيارات ، مما أغراني أن أقود سيارتي بسرعة جنونية فاقت السرعة المسموح بها ، وأذا بسيارة الشرطة من الأتجاه المقابل تعترض طريقي . أوقفني الشرطي وأوضح لي المخالفة في القيادة . لم أعترض علي ذلك وأنما سألته كيف تعرفت علي سرعتي الغير قانونية وأنت تقود سيارتك في الأتجاه المعاكس . فضحك وأخطرني بأن هنالك طائرة هليكوبتر تراقب سرعة السيارات في الشوارع وترسل تعليمات وأشارات بأعتراض السيارة المتخطية للسرعة . تم في الحال أتخاذ أجراءات قانونية ضدي علي أثرها دفعت الغرامة ومنذ ذلك التاريخ لم أتخطي السرعة المطلوبة . تعجبت لهذا البلد ، شخصي الضعيف تتم ملاحقته بطائرة هليكوبتر نتيجة لمخالفته قوانين الحركة وفي بلدي نعجز عن ملاحقة أشخاص خالفوا الشرع وحقوق الانسان وقتلوا الملايين ولا زالوا يمارسون أرتكاب الجريمة .

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *