النقد والمحاسبة وانتزاع الحقوق .. صفة المجتمعات المتقدمة
أمد/ بعد أن وصلت البشرية للقرن الواحد والعشرين ، وبالتراكم المعرفي والإنساني والقانوني ، باتت هذه الشعوب تعرف جيداً حقوقها وواجباتها ، حقوق يتلقونها ممن إئتمنوه على مصيرهم لولاية قانونية محددة ، ولأجل ذلك انتخبوه كموظف عندهم يؤدي خدماته لهم في ادارة مصالحهم اليومية والحياتية والمعيشية والسياسية ، لأجل الإرتقاء فيها على الدوام بين كل مرحلة والمرحلة التي تتبعها ، وواجبات يتحمل فيها المواطن كافة المسؤوليات المجتمعية من الحفاظ على المجتمع والوطن والسلم الأهلي حتى دفع الضرائب …
ولذا تجد شعوب هذه المجتمعات الأكثر حرصاً على أوطانها ، بمكافأة المسؤول الناجح والصادق ، ومعاقبة المسؤول الفاشل والكاذب ، ولا تتوانى للحظة من توجيه النقد للمسؤولين ، والمطالبة بمحاسبتهم في حال قصورهم بمهامهم المناطة بهم ، او توريط المجتمع بفظائع ومصائب ، أو حتى عدم الإيفاء بوعوده الانتخابية ، وتصل الأمور بهم للمطالبة بتنحيه طواعيةً أو بتنحيته وإسقاطه عنوةً قبل نهاية ولايته القانونية لعدم إلتزامه مما قطعه على نفسه من وعود حسب برنامجه الانتخابي الذي عرضه عليهم وانتخبوه على أساسه أو نتيجةً لاتخاذ قرارات مصيرية خاطئة تعرض مجتمعهم للخطر على كافة الصعد .
معرفتي واطّلاعي على تجارب ووعي الشعوب المتقدمة ، يشعرني كفلسطيني بالخزي والخجل أحياناً وبالحنق والغضب أحياناً أخرى لعدم تمكني من اختيار من يقرر مصيري ، وما يغضبني أكثر هو المدافعين الذين استمرأوا هذه الحالة السياسية واعتبروها أمراً طبيعياً على غرار حكم الخلافة ، واستبدلوا حقوقهم وحقوق الشعب في تحديد مسؤوليهم على مستوى الوطن ، بحقهم بالانتخاب داخل احزابهم وجماعاتهم ، ليصبح حاكم الجماعة او الحزب هو الحاكم الشرعي للوطن أو الجغرافيا التي يسيطر عليها وعلى باقي سكانها من خارج الجماعة أمراً طبيعياً .
أولئك المدافعين (من أهل الجماعة ) عن هكذا أنظمة سياسية لا تشبه إلا جمهورية الموز ، هم ذاتهم الذين يبررون كل تصرفات وسلوك ولي نعمتهم مهما كانت .. هم ببساطة متناهية سبب هذه المصيبة التي وقعنا فيها منذ سنوات طويلة خلت .
والأنكى من ذلك أن هؤلاء التُبَّع من أتباع الحاكم يهاجمون كل من دافع عن القيم والمُثل الديمقراطية او الإنسانية ، حتى باتوا كعبيد المنازل الذين اعترضوا على ثورة عبيد المزارع ضد جلاديهم في عهد الرق والعبودية الشهير ، ذلك لأنهم يتنعمون من فتات الموائد المتبقية من موائد أسيادهم ، ويعتمدون هؤلاء التبَّع على سياسة الهجوم على التقدميين كخير وسيلة للدفاع عن أسيادهم .
هؤلاء العبيد نواجه صعوبة كبيرة في محاولة إقناعهم بحقوقهم ، لأنهم تعوّدوا دوماً كجماعة على عدم استقبال اي معلومة وعدم تصديق اي قول إلاّ من خلال المسؤول أو الأمير ، وما دون ذلك هو كفر بواح .
من هنا ستجدهم مصعوقين إذا ما حاولت انتقاد او طالبت بمحاسبة أو حتى مراجعة مسؤوليهم في قرارات قد تجدها كمستقل عن فكرهم أنها قرارات خاطئة بامتياز ، وتراهم يرتعدون ويزبّدون ويضربون شرقاً وغرباً لمجرد اعتقادهم أنك قد مسست بتابو من تابوهاتهم المقدّسة ، التي لم يعتادوا بل لم يتصوروا أنهم قد يخضعون ذات يوم للنقد والمساءلة والمحاسبة .
لن يرتقِ مجتمعنا الفلسطيني مطلقاً ، وسنظل اسمنا ( يتلألأ ) في سلم التقييم العالمي للمجتمعات الديكاتورية ، لطالما ظلت هذه العقول الظلامية مسيطرة على التفكير الجمعي لشعبنا ، ولن تقُم لنا قائمة لطالما ارتضينا على أنفسنا أن يبقى هؤلاء الحكام اللاشرعيين جاثمين على صدورنا … فإن خلاصنا ورُقيّنا وتقدمنا وانجاز مشروعنا الوطني بإقامة وطن ديمقراطي يكمن في شعب يتمكن من تحديد مصيره بنفسه واختيار الموظفين المسؤولين عنه عبر صناديق الاقتراع .. حتى لا نصحو ذات صباح كما صحونا في السابع من أكتوبر 2024 من نومنا لنجد أن أحدهم اتخذ قراراً بفتح حرب تأكل الأخضر واليابس .. ليلقى شعباً بأكمله في وادي الموت السحيق .
كل ما يحدث للشعب الفلسطيني من مآسي ومصائب وانهيارات ، لم تكن إلاّ نتاج مسؤوليات متساوية ومقسّمة بالتساوي بين احتلال يسعى لتدمير ما تبقى من الوطن ، وبين دكتاتوريات استمرأت الحكم على مدار سنوات طويلة خلت ، خضعنا خلالها لكل أشكال وأنواع الحكم المزاجي والمهادن المنبطح في جزء من الوطن ، والمغامر الأهوج والمتذاكي في الجزء الاخر من الوطن .. وجميعهم بالطبع فاسدون .
كل ذلك يحدث لنا لأننا شعب لم نصمم ذات يوم على انتزاع حقوقنا من هذه الديكتاتوريات وخضعنا لأنظمتهم البوليسية ، ولأننا لم نواجه ذات يومٍ عبيدهم الذين يبررون لهم هذه الممارسات .
وليستحضرني السؤال الذهبي اليومي الخاص بآخر كل ليلة ..
ماذا نحن فاعلون؟؟