الحزب الشيوعي مخترق أم مختطف الجزء الثاني
يعرف علم الاجتماع الماركسي أو ما يعرف بالمادية التاريخية ، نظرية الصراع ، كمصطلح مفاده أن الطبقات المجتمعية تعيش حالة من الصراع الدائم ، كل طبقة تهدف لتعظيم منافعها. هذه الحالة تسهم بشكل أساسي في إحداث حالة حراك وتطور اجتماعي يصل إلى أقصى درجاته مع قيام الثورات وما يصاحبها من تطورات سياسية. هناك نوعان من الصراع صراع سلمي أو ثانوي ، وآخر صراع تناحري: الأول يعالج بالحوار الجاد ، والثاني لا علاج له إلا بإنتصار طبقة على الطبقة التي تتنازع معها حول ملكية أدوات ووسائل الإنتاج.
بالنسبة للصراع السلمي ، الذي أصطلح على تسميته في الأدب الماركسي بالصراع الفكري ، تتم معالجته بالديالكتيك ، الذي يعني الجدل أو الحِوار بين طرفين، وتبادل الحجج. كل يدافع عن وجهة نظره بأسلوب منطقي وعلمي وبصورة حضارية ، في جو ديمقراطي ، وتحت ظرف موضوعي مؤاتٍ للحوار. ذلك ما تعنية المادية الديالكتيكية أو الجدلية “الأسلوب المنطقي والعلمي في دراسة الظواهر الطبيعية وتفسيرها والوقوف على حيثياتها من أجل فهمها وتحليلها والوصول إلى فكرة تلك الظواهر” .
شهد الحزب الشيوعي السوداني ، خلال مسيرته الممتدة قرابة الثمانية عقود ، مختلف أنواع الصراعات، خرج من بعضها وهو أكثر تماسكاً وعنفواناً، ومن بعضها واهن العزيمة ، متضعضع ، متصدع ، مثلما جرى في انقسامي 1964م و 1970م.
الصراع الفكري يعد المحرك الجوهري في تطور الحزب إذا تم وفق منهج ديالكتيكي يقوم على وحدة وصراع الأضداد. وكان الحزب قد أفرد مدّة زمنية لمعالجة الصراع الفكري فيما عرف بالمناقشة العامة بسبب التغييرات السياسية التي جرت نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الاشتراكية في شرق أوروبا.
انبثقت تلك المناقشة عن عدة تيارات ورؤى ، أهما تياران ، تيار يدعو للتمسك بالأسس اللينينية التنظيمية (المركزية الديمقراطية) واسم الحزب وكان على رأس هذا التيار الأستاذ الراحل التيجاني الطيب. وتيار يدعو للتغيير والتخلي عن التجربة والأسس اللينينية في بناء الحزب ، وعن طموحات بناء الشيوعية ، وأن ينكب على تطبيق برنامج التحول الوطني الديمقراطي المؤجل منذ الاستقلال ، حزب تقوم وحدته الفكرية لا على أسس أيديولوجية ونصوص عقائدية ، بل على أساس برنامج ودستور الحزب. ويقود هذا التيار الأستاذ الراحل الخاتم عدلان. كان الأستاذ الراحل محمد إبراهيم نقد على الرغم من ميوله وافكاره التي كانت مع التغيير لكنه كان توفيقياً مثل اجتراحه لمفهوم الدولة المدنية في ظل الصراع بين مؤيدي العلمانية والثّيوقراطيّة ، لكن من المهم أن نعلم أن كلا التيارين كانا يتفقان على الماركسية كمرشد لاستقراء الواقع وتحليله والانفتاح على الفكر الإنساني والتجارب الثرة للشعوب والإرث الثقافي والاجتماعي السوداني.
على العموم كانت الرغبة صادقة لدى قيادات الحزب في استنهاض حزب ثوري معافى من الجمود والانغلاق ، يسترشد بالماركسية في استقرائه واستنتاجاته لمعرفة الواقع وتغييره للأفضل ، وفق منهج ديمقراطي ، يؤمن الحرية لأعضائه وهيئاته في المشاركة في القرار وإدارة شؤون الحزب.
كما أن هناك تيار ثالث ، ربما لم يساهم في المناقشة العامة بطريقة مباشرة ، كان يمني النفس بأن يحذو الحزب حذو الحزب الشيوعي البلجيكي الذي كان يعد ، في وقت من الأوقات ، من أقوى الأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا ، حيث قام في 1989م بحل نفسه في اجتماع ضخم وتبادلوا فيه الأنخاب ومضى كل منهم لحال سبيله. ومن بين هؤلاء الأخيرين من يرى أن يلتحق الشيوعيون بالأحزاب الوطنية الكبرى مثل الاتحادي الديمقراطي والأمة ويعملوا من داخلها كتيارات يسارية لاستمالتها لبرنامج التحول الوطني الديمقراطي ، على أساس أن هذين الحزبين الكبيرين هما الأقرب للسلطة في أي حكومة ديمقراطية.
كانت المناقشة محتدمة. وكان تيار التغيير هو المتقدم والأوسع وتوقع الكثيرون تغيير اسم الحزب والتنازل عن الحلم النبيل في بناء المجتمع الشيوعي ، والاكتفاء بالعمل على تطبيق البرنامج الوطني الديمقراطي ، وتوسيع قاعدة الحزب ليضم كافة الفصائل والطبقات صاحبة المصلحة في تحقيق ذلك البرنامج ، وتأجيل مشروع بناء الشيوعية للأجيال القادمة التي هي في رحم الغيب. حيث يمكنها أن تنطلق من أساس متين في ظلّ المتغيرات التي تطرأ في المفاهيم والعلوم والمعرفة. وعليه أسقط المؤتمر الخامس الذي انعقد في يناير 2009م من لائحة الحزب وبرامجه أهم المبادئ اللينينية وهو مبدأ المركزية الديمقراطية وكذلك أسقط البرنامج دكتاتورية البروليتاريا والحلم النبيل في بناء المجتمع الشيوعي أو (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته). وإن كان قد أبقى على أهم المبادئ التنظيمية التي تضمن وتؤمن سلامة الحزب من وجود المركز الواحد وجعل خضوع الهيئات الأدنى للهيئات الأعلى مشروطا بصحة وسلامة القرارات التي تأتي من الهيئات الأعلى ، وخضوع الأقلية لرأي الأغلبية واحترام حقوق الأقلية في أبداء الرأي ، والانتخاب السري للقيادة من مكاتب الفروع والهيئات الحزبية حتى اللجنة المركزية. وتلك إجمالاً مبادئ ديمقراطية معمول بها في كافة الكيانات السياسية الديمقراطية المحترمة بمختلف مشاربها ، وتنوع مناهجها. وإن لم يتم تغيير اسم الحزب إلا أن التوجه العام ، والخط الذي قاده السكرتير العام السابق محمد إبراهيم نقد كان يمضي في ذلك الاتجاه. ولكن في رأيي أن أهم إضافة تمت في المؤتمر الخامس ، وتمثل نقلة نوعية في مسار تطور الحزب وتخرجه من عزلته الجماهيرية هو ما نصت عليه المادة الرابعة من دستور الحزب التي نصت على ما يلي:
((برنامج ودستور الحزب هما أساس الوحدة الفكرية بين أعضائه)) حيث كانت النظرية الماركسية هي أساس الوحدة الفكرية ، قواعدها ونصوصها تشكّل المرجعية في الصراع الفكري. وهذا التعديل الذي يقضي بأن تكون البرنامج واللائحة هما الأساس الذي يوحد المناضلين الثوريين الذين تعاهدوا طوعياً على إنجاز البرنامج الوطني الديمقراطي والاشتراكية بما يتناسب وخصائص الشعب السوداني يمثل نقلة نوعية ، تتيح الفرصة لعدد كبير ، من غير الماركسيين ، الذين على قناعة راسخة بصحة وسلامة البرنامج الوطني الديمقراطي ، وبرؤى الحزب في الانضمام له ، دون تحمل تبعات الماركسية ومفاهيمها وتعقيداتها الفلسفية.
وللحديث بقية …
في اللقاء القادم (3) صراع فكري … صراع شخصي
المصدر: صحيفة الراكوبة