سقط الزيف أمد للإعلام
أمد/ لأول مرة نحن لا نحارب أشباحا.. ها هو العدو ينكشف بكل أنيابه وإخطبوطه ونقاط قوته ونقاط ضعفه.. لقد قتلتنا الفوضى وشتتنا التنظير المبعثر وأرهقتنا الرحلة في التيه.. لم نحدد من نحن جيدا ولا أي مهمة علينا لأننا لم نحدد عدونا ولا وظيفته جيدا ولا رؤيته وإستراتيجيته جيدا.. فكنا نتخبط في حفر أجاد صناعتها ونسقط بعد قيام ونقدم التضحيات فيما هو يزداد تمكنا وتوسعا.. ما أصعب أن يكافح شعب وأمة عشرات السنين ثم يكتشف أن هناك وسائل أخرى تليق بالمعركة، وأن هناك وعيا لابد من طرق أبوابه كان لا غنى عنها.. فلطالما قاتلناهم خبط عشواء في متاهة بليلة ظلماء وكانوا يجيدون خداعنا وتمويه المعركة واستدرجونا الى المتاهات.
الشرارة الحضارية:
أشعل الفلسطينيون في 7 أكتوبر النار عند فوهات جحور العدو فخرجوا من مخابئهم يعمهون يضربون في كل تجاه بعد أن أحسوا أن وجودهم أصبح على كف المقاومة.. لأول مرة نعرفهم جيدا ونعرف أي اللغات يفهمون والأساليب يجدي.. وفي الوقت نفسه كان 7 اكتوبر كافيا للكشف تماما عن حالنا وعن الجمل المفيدة لنا وعن روحنا التي يحاولون طمسها وإرادتنا التي يجتهدون في تفتيتها.
7 أكتوبر.. هو فجر الانتصار والمواجهة الحقيقية.. ورغم كل ما لحق بنا من ألم ودمار وتخريب مدننا وقتل أبنائنا وتشريدنا إلا أننا اكتشفنا اللعبة وليس لهم بعد الآن الا الرحيل عن فلسطين وانتهاء حقبة استيطان سرطانية هي الأسوأ في سجل التاريخ الإنساني.. ولا نقبل بعد الآن إلا بكل فلسطين.
وهنا من الضروري أن نرفع الغطاء عن جملة الأفكار التي سيطرت على عقولنا خلال قرن من الزمان في مواجهة قضية فلسطين وهذا من الضروري ان يفتح باب التفكير في شقي المسألة الأول رؤيتنا لأنفسنا والثاني رؤيتنا لعدونا.. وهنا كيف تشكلت جملة المواجهة..
كيف كنا في مواجهة العدو:
نحن الفلسطينيين ونحن العرب ونحن المسلمين واجهنا القضية الفلسطينية فيما كنا نلملم أرواحنا من تحت حطام السقوط الكبير في إعقاب سقوط كياننا السياسي الكبير وسقوط عواصمنا تحت الانتداب البريطاني والفرنسي بعد قرون من التخلف والانهيار ثم فرض التبعية علينا وأنظمة مزيفة تابعة كما تم اختراق مجتمعاتنا بتيارات وأفكار لتقويض المقدس من قيم وأخلاق لإلقائنا أرضا تدوسنا الحملات الاستعمارية الواحدة تلو الأخرى حتى اذا ما نهضت الروح في جزء منا تكاثرت عليها أدوات الهدم الخارجية والمحلية لإسقاطها من جديد وهكذا استمرت هيمنة العدو الذي لم نعرفه الا من خلال وصفات سطحية او من خلال عرض قوته.
لقد تمزقنا فكريا وتمسك كل منا بطرف من حقيقتنا و تحولق حولها لتصبح فيما بعد دربا من التيه والضرب في غير اتجاه.. فمن الوطنية المجردة او القومية العرقية او الإسلامية السلفية الحزبية او اليسارية الوافدة او العلمانية المعلبة.. وهذا يعني بكل بساطة أننا واجهنا معاركنا المصيرية ونحن لا نعرف من نحن لا نعرف أهدافنا.. فهل يعقل أن نتجه لمعالجة الملف الفلسطيني في إطار منظور ” الصراع الطبقي” كما اعلن ذلك بعضنا أو أن نتجه لمواجهة أعدائنا ونحن ندعوها وطنية شوفينية مقطوعة الصلات بامتداداتها الحضارية والقومية، وهل منطقي أن ندعو للقومية العرقية في معركة يريد العدو فيها عزلنا عن انتمائنا الحضاري وامتنا الكتلة المتوسطة، وبعدنا الإنساني.. ولقد اكتشفنا من مسلسل التجارب والأخطاء اننا لم نكن نعرف أنفسنا جيدا وهذه اكبر حلقات الخلل التي أدت الى الكارثة والنكبة على كل صعيد مما انتهى بنا الى ما نحن فيه من ضياع وفقر وتخلف وهوان وعجز يتمثل هذا كله في خنوعنا غير المفهوم تجاه اخوة الدم والعقيدة والتاريخ في فلسطين كما مقدسات الامة وأرضها المباركة.
من هنا يجب أن تظهر بوضوح وبلا تلعثم معالم منظومة هويتنا الخاصة بنا والتي كان لها في زمن ما القدرة على الحفاظ علينا وبعثنا للحضارة والسيادة.. وان أي وقت يمر في غير هذا الاتجاه انما هو مزيد من التيه والضياع وهدر الإمكانات والطاقات.
من نحن؟ سؤال طرحه كثيرون وفي مرات عديدة يتم طرحه بخبث لتعميق الأزمة والهوة.. ولعل معسكر خصومنا يحتوي من المفكرين والمنظرين من يكشف عن حقيقتنا أكثر بكثير من مفكرينا ومنظرينا ومن المؤكد ان ذلك ليس مبعثه الحرص على مصلحتنا ومستقبلنا إنما يأتي ذلك في سياق العمل المنظم ضد مستقبلنا وواقعنا وإمكاناتنا الذاتية..
سقطت الحكومات وارتكست الأحزاب في فلسطين والوطن العربي والعالم الإسلامي في وحل الهزيمة والذل والتعايش مع التبعية والانهيار وذلك بلا شك لان الجميع لم يكتشف بعد هويته ويلتزم بها ويتجه الى تفعيلها في واقع الشعب والأمة وظلت الهوية محل تنازع وتمزق بعناوين عديدة مسمومة يسهم العدو في تغذيتها وتمريرها الى عقول نخب وفئات من المجتمع لتقيده وتحرمه من فرصة الانطلاق.
وكنتيجة منطقية وتلقائية لهذه الأزمة الخطيرة أصبحنا لا نعرف من هو عدونا.. فلقد تساوت لدينا العداوات لدرجة أننا أصبحنا في ظل الدولة الوطنية نعادي الدولة العربية المسلمة المجاورة واذا بنا في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي نتعادي فيما بيننا انطلاقا من عقيدتنا الوطنية وأمننا الوطني، وفي ظل الروح العرقية أصبحنا في دائرة صراع غير منتهية بين قومية وقومية كما حصل بين العراق وايران ولازال بين ايران وعرب الجزيرة فلقد رفع شعار انه لابد من النصر على البوابة الشرقية ومن ثم تكون العودة الى البوابة الغربيةفلسطين وكذلك كان مع التيار اليساري الذي رأى أن معركته ضد البرجوازية والارستقراطية والرأسمالية وانه منحاز دوما للبروليتاريا حتى في قضية فلسطين طرح هؤلاء شعارهم بأنهم مع للبروليتاريا اليهودية ضد البرجوازية اليهودية مختصرين قضية فلسطين في صراع طبقي اجتماعي.. وبعضنا اتجه الى التركيز على المظاهر على اعتبار انها هي السنن التي تجلب النصر والفوز وتشكلت أحزاب إسلامية راوحت بين الدعوة الى الأخلاق الفردية التي تساقطت في ظل التزاحم على السلطة على اعتبار أن الدولة الإسلامية هي نقطة الارتكاز لحل كل المشكلات العويصة التي تعاني منها الأمة..ولكننا اكتشفنا ان شعار الإسلام هو الحل ” الفارغ من أي مضامين عميقة حقيقية” الذي رفع لم يكن الا غلالة رقيقة شفيفة لا تصمد أمام تحديات الواقع.. وانتهينا الى ان الطرح الإسلامي المعاصر عمق الأزمة وقدم إضافة إسهام جديدة للهزائم والانتكاسات التي حلت بنا وأبعد عمليا بنا كثيرا عن عناوين النهضة فلسطين والنهضة والوحدة الى التصارع الحزبي والسياسي الساذج..
بمعنى واضح وجلي نكتشف ان كل الشعارات والنظريات التي طرحت في مجتمعاتنا إنما وجدت رواجها في المنطقة الرمادية الضبابية وقد استطاعت للأسف ان تحجب الرؤى وتعطل إمكانات التفكير في الخروج من الأزمة.. لم نتجاوز هذه الأطروحات لأسباب عديدة رغم ان هناك محاولات جديرة بالاحترام فردية وجماعية.
العدو من هو وماذا يريد:
نتيجة عدم معرفتنا لأنفسنا كما هي وتحديد هويتنا الحضارية ورسالتنا الحضارية كمقدس مسلم به، جاءت إجاباتنا متنوعة مشتتة عن عدونا.. فمنا من رآه الكيان الصهيوني وفقط واعتبر الآخرين جميعا أما حليفا له أو صديقا له او محايدا.. ومنا من رأى أنه اليهود الذين ينسلون من يهود خيبر وبني قريضة.. ومنا رآه الاستعمار الغربي في اطار صراع النفوذ.. ومنا من رأى النظام العربي هو العدو بما يمارسه من تجهيل وتجويع وقهر للشعب.. وهنا نكتشف أننا إنما نتحدث عن صور جزئية وبعضها غير واقعي.. أما العدو فهو في مكان آخر تماما وأننا مادمنا في هذه المتاهة فإننا نكون قد حققنا له كسب الوقت ومزيد منه لتحقيق غاياته الكبرى..
لابد من الإضاءة على العدو لكي نعرفه ونكتشف إستراتيجيته ورؤيته وبرامجه فهذا وحده الذي يمنحنا الوعي لاكتشاف سبل مواجهته الحقيقية التي تتصدى حقيقيا له بدون ضربات في الهوائ وسهام طائشة..
العدو الذي يمثل من البشرية القوة المالية الضخمة صاحبة البنوك العملاقة والشركات عابرة القارات ومصانع الأسلحة والنفط.. هذه الفئة المكونة من عدد قليل من العائلات التي تكاملت في حكومة سرية منذ أكثر من مائة خمسين سنة وانطلقت لتغيير الواقع العالمي باندفاع رهيب بدء بإسقاط الإمبراطوريات العديدة الروسية واليابانية والألمانية والعثمانية تلك الإمبراطوريات التي كانت تمتلك مرجعية مالية اي متحررة من مرجعيات خارجية.. دمروا الإمبراطوريات وصنعوا عالما يخضع لبنكهم المركزي وصنعوا إعلاما وثقافة وأنماط حياة هي العبودية الجديدة في العالم كله ورفعوا أسهم أفكار وازاحوا أفكارا أخرى وصنعوا ديانات وشوهوا أخرى وكونوا نخبا في كل بلد لتفجيره وشدوا اليهم نخبا أخرى لتحكم وفي هذه العملية الكبيرة المنهجية صنعوا إسرائيل كيانا متفوقا استراتيجيا على المنطقة في قلب المشرق العربي لإرباكه واستنزافه والهيمنة عليه في سياقات اقتصادية وأمنية وإستراتيجية.
العدو هذا غير المرئي للكثيرين حتى أولئك الذين يتحدثون عنه استطاع ان يحول كل الحكومات بما فيها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية الى منفذ لمشاريعه المحلية والدولية.. وفي سبيل التربح وتسمينه يضعون الخطط من خلال مراكز دراسات خاصة بهم لافتعال حروب وأزمات بل ومن خلال نشر اوبئة وإمراض والمستفيد الوحيد هو شركاتهم من مجمع الصناعات الحربية الى شركات النفط مرورا بشركات الأدوية وحتى المساعدات التي تقدمها الحكومات للمنكوبين هم وحدهم من يستفيد منها.
الأمثلة عديدة عن كيفية إدارة هذه الحكومة السرية لبرامجها ومثال واضح هو ما يجري في اوكرانيا وفي فلسطين.. انه التحكم في العالم واستعباد البشرية وإفساد أخلاقها وتشويه قيم الإنسان وإرباكه في حظيرة يسيطرون عليها بإتقان فان الأمريكي في الولايات المتحدة كما الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية كما الشعوب العربية والعالم بأجمعه يخضع لنفس المؤامرة وان اختلفت الأشكال.. وهذا عين ما قالته حاكمة جورجيا الأمريكية بان أولئك الأشرار يسيطرون على كل شيء.. ولقد علت أصوات كثيرة في أمريكا والغرب تحذر من مصير أسود للبشرية في ظل تحكم تلك العصابة الشريرة.. ولقد كان ل 7 أكتوبر الفضل في إحداث هذه اليقظة العالمية.
كلمة نهائية:
من هنا تتجلى روعة استنتاجات الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن عندما يقول ان مرابطة الفلسطيني ممثلة في مرابطة الغزاوي تحمل مضمون أنساني وأخر حضاري للأمة .. وهذا ما يفسر هذا التعاطف الحار الفعال من قبل شباب الولايات المتحدة الأمريكية وقوى التحرر الإنساني العالمية.. أن أكثر الناس وعيا بجريمة تلك العصابة المتحكمة في العالم هم أولئك الطلبة والأحرار في أمريكا الذين اكشفوا كم هو جريمة تلك العصابة التي حولت العالم كله خدما لتقوية الكيان الصهيوني لكي يؤدي وظائفه الإستراتيجية بكل أريحية..
من هنا يمكننا بلا تردد ان نعتبر أن 7 أكتوبر هو فجر الوعي والانتصار ليس لفلسطين فقط بل وليس للعرب فقط إنما للإنسان حيث هو الإنسان.. نعم قد نحتاج إنبعاثات أخرى ليست اقل قوة من 7 أكتوبر ولكن من المهم ان نؤكد ان الحكومة السرية لم تعد تشعر بطمأنينة لجدارة الكيان الصهيوني للقيام بمهمته.. ومن هنا سيحدث الصدع في إحكام سيطرتها على العالم وبمزيد من تعرية الأحرار في العالم لهيمنة حكومة الأشرار سيتحسس المظلومون طريقا للخلاص لنجد أنفسنا في واقع معطيات جديدة لصالح الإنسانية جمعاء.. ومهما بلغت الضغوط على شعوبنا الا ان طلائعها ستكتشف السبيل وتبعث الروح وتنظم جملتها الحضارية كما ينبغي لتكون الوحدة والنهضة وفلسطين ثمرة طبيعية للوعي بذاتنا ومعرفة عدونا.. والتزامنا سبيل المواجهة بلا تردد على هدي من ذلك.. والله غالب على أمره.