ملاحظات على هامش نقاشات الاستمطار الصناعي
لاتخفى أهمية اللجوء إلى الوسائل المبتكرة غير التقليدية في سياق وظروف الخصاص المائي الذي تشهده البلاد واشكالات الماء المزمنة التي تحولت إلى معطى هيكلي.
في هذا الإطار تبنى المغرب برنامجها خاصا بالاستمطار الصناعي منذ سنة 1984 ويسمى “غيث”، والذي كثر عنه الحديث خلال الأيام الاخيرة ارتباطا بما رشح عن الميزانيات التي خصصت له ولكن مع الأسف تبقى المعطيات شحيحة بشأن ذلك البرنامج وبقي فهم ميكانزماته وأدواته بعيدا عن الاستيعاب والفهم لدى عموم المواطنين والاكثر من ذلك انه لا تنشر معطيات صريحة ودقيقة بشأن نجاعته efficacité ولا كفاءته efficience ولا عن تقييمه الفعلي إن تم ذلك.
بداية فالتعريف المعتمد دوليا والذي جاء في إحدى التقارير المركبة لمجموعة GIEC حول تطور المناخ، فالاستمطار الصناعي يعتبر ضمن تقنيات ال Géoingeneirie المعتمدة للتأثير على النظام المناخي على نطاق واسع. عملية تتم بغرض التأثير على السحب لتوجيه سقوط الأمطار او لتفادي سقوط البرد أحيانا او حتى لأغراض اخرى منها طرد التلوث وتنقية اجواء المناطق الملوثة (تجربة بانكوك كنموذج) .
عمليا فهو يتم بقذف السحب بمواد كيميائية على شكل مركبات ملحية من مثل Iodure d’argent (وهو الاكثر استعمالا لكون بنية بلورات تشبه بنية بلورات الجليد) او ايضا من مثل املاح الصوديوم او الملح المعروف، او عموما باستعمال مركبات اخرى مختلفة يمكن ان تلعب نفس الدور وتسمى عموما ال aérosols.
لتخصيب السحاب بهذه المواد يتم قذفها باستعمال مولدات خاصة من الأرض(مدافع) او بواسطة الطائرات او احسام طائرة من الأجواء.
المبدأ الذي تعتمد عليه العملية جد بسيط وهو أن نجعل من تلك الحبيبات الدقيقة دعامة او نواة لتثبيت قطيرات الماء لتتشكل بذلك وتنمو قطرات المطر وتتثاقل شيئا فشيئا لتسقط في الاخير.
ويمكن لهذا أن يحدث بشكل طبيعي حين تنتشر المركبات او الأجزاء الدقيقة في الاجواء الناتجة مثلا عن رياح الغبار او عن الاندفاعات البركانية او عن الأنشطة البشرية المختلفة.
بخصوص الملاحظات المسجلة على عمليات الاستمطار فيمكن إيجازها فيما يلي:
ارتباطا بالموقف الشرعي وإن لست مؤهلا لإعطاء الرأي بشأنه فإن اكثر ما اطلعت عليه من الاراء تبقى عامة و لاترى مانعا في مثل ذلك ما دام يدخل ضمن جلب المنفعة وما دام لاتنتج عنه مفسدة او ضرر للإنسان والبيئة والحيوان وأيضا باعتبار أنها لاتخرج عن القواعد والسنن التي أودعها الله في الكون والتي يمكن للإنسان الاستعانة بها من باب اتخاذ الأسباب المشروعة معتمدا على الله ولكن هذا التقييد المرتبط بوجود المصلحة وانتفاء المفسدة وفق القاعدة العامة التي ارساها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم “لاضرر ولا ضرار”، هو الذي (التقييد) يصعب ضبطه حيث لاتزال شكوك وتساؤلات صريحة وجدية داخل المجتمع العلمي تحوم بشأن هذه العملية وسيأتي في معرض هذه المساهمة ما يثبت ذلك.
على المستوى الأخلاقي فإن بعض الممارسات السيئة والمنحرفة لعمليات الاستمطار بقيت تثير شكوكا كبيرة ومن أشهر ما سجل في ذلك هو استعمالها في حرب الفيتنام بشكل مسيس حيث لجأت الولايات المتحدة إليها بغرض إغراق مناطق وقطع طرق وتأجيل مواسم الحصاد بغية الانتصار في الحرب والقضاء على المقاومين وأصحاب الحق ويعتبر هذا اول تلطيخ لسمعة هذه العملية والتشكيك بخصوص نوايا استخدامها كتقنية لجلب الأمطار او حتى كتقنية يمكن استعمالها في مجابهة آثار التغير المناخي حيث مثلا عارض سكان اصليون في السويد المضي في برنامج للتخفيف من آثار الاحتباس الحراري الذي يعتمد نفس مبدأ الاستمطار ولكن بغرض حجب وصول أشعة الشمس إلى الارض ومن تم خفض حرارة السطح وتجنب الانحباس الحراري المعروف الاثار، تم هذا الرفض رغم أن هناك مؤشرات عديدة تفيد بأهمية اللجوء إلى ذلك من مثل الملاحظة المسجلة بالفيلبين سنة 1991 إثر بركان حجزت انبعاثاته أشعة الشمس على الأرض مما مكان من خفض حرارة السطح هناك بمعدل 0.6 درجة فهلينغ لمدة سنة.
وهكذا ارتفعت الأصوات بشأن ضبط هذه العملية وتجنب استخدامها كسلاح جديد في الحروب وفي الصراعات الجيوسياسية وإرساء إطار قانوني دولي ارتباطا بموضوع السحب كما دعا الى ذلك Mathieu Simonet والذي اعتبرها بمثابة ملك مشترك ينبغي أن يسجل ضمن تراث اليونيسكو وتخصيص يوم عالمي لها.
من الملاحظات ايضا نجد استعمال هذه التقنية في الاستحواذ على السحب الممطرة ومن تم منعها عن المناطق المجاورة مما يحفز نشوب الصراعات كما سجل بإسبانيا بين منطقتي Aragon و Sorya حيث الاخيرة عمدت إلى تفعيل برنامج كبير لمجابهة آثار البرد على الفلاحة باستعمال تقنيات الاستمطار الصناعي مما أدخل جارتها في جفاف حاد دام لسنوات .
نفس الشيء يمكن أن يسجل بين الدول وفي هذا الإطار ظهرت مؤشرات على قلق الجارة اسبانيا بشأن برنامج “غيث” المغربي رغم أنها تعتمد برامج مماثلة كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
ايضا تسجل صعوبة تقييم عمليات الاستمطار حيث أن معظم البحوث المنجزة تشير إلى كون المجتمع العلمي الدولي لم يصل إلى أي اتفاق بخصوص هذا التقييم وذلك لأمر بسيط حيث يقول الباحثون أن أي سحاب لن نجد مثله تماما و حين التأثير عليه بغرض استمطاره لايمكن معرفة هل النتيجة تعود بالفعل الى العملية المنجزة أم أنه في الأصل سحاب كان سيمطر تلقائيا خصوصا وأن عمليات الاستمطار تطبق على سحاب تتوفر فيه بالفعل قابلية وشروط التحول إلى مطر.
بالتالي فلا تأكيد علمي جازم بشأن نجاعة العملية حيث تبقى السحب المحملة بالأمطار والمحتمل ان تمطر أصلا هي المستهدفة بهذه التقنية .
ايضا فالعملية حسب المجتمع العلمي يمكن أن تكون لها عواقب على البيئة وهناك بحوث عديدة بهذا الخصوص ومن ذلك مثلا بحوث اجريت على المواد المستعملة في الاستمطار و تأثيرها على التنوع البيولوجي للأحياء سواء في الاوساط المائية او البرية وتم احيانا تسجيل وقع واضح على مدى الحياة لدى بعض الكائنات سواء في التربة او في الماء وفي نفس الاطار وحتى وإن لم يتأكد وجود تأثير لاملاح Iodure d’argent مثلا على الكائنات حين يكون تركيزها ضعيفا فلكونها غير مذابة في الماء فمن المؤكد انها تتراكم عبر السلاسل الغذائية فيما يسمى بالتراكم الحيوي Bioaccumulation.
على مستوى التوازنات الطبيعية والبيئية الكبرى التي أرساها الله تعالى في الكون وتقوم على قواعد اساسية من مثل قاعدة دورة الماء والدورة الجيوكيميائية فإن مثل هذه العمليات والتدخلات البشرية يمكن أن تؤثر عليها سلبا وتحدث بها اختلالات خصوصا وأن العالم قد أوجد من الحجج ما يكفي لإطلاق يده على الطبيعة بحجة مجابهة بعض الظواهر منها مثلا ظاهرة التغير المناخي، وهنا بالضبط فالمبدأ الذي تقوم عليه عملية الاستمطار اصبح معتمدا في بعض التدخلات المصنفة ضمن ال Géoingeneirie للتخفيف من آثار الانحباس الحراري وتبريد سطح الأرض وبالتالي فتشجيع ذلك وتمويله في إطار السياق الحالي والبرامج الدولية المعلنة خصوصا بعد اتفاق باريس 2015 سيكون بالطبع في نفس الوقت تشجيعا ودعما لعمليات الاستمطار الاصطناعي ويسرع وثيرة المضي فيها.
ايضا يمكن لهذه التقنيات حسب عدد من الباحثين أن يكون لها أثر سلبي على طبقة الأوزون وعلى النظام المناخي واحداث اختلال في توزيع التساقطات في الزمن والمكان والقوة حيث ذهب بعض الباحثين إلى الحديث عن مساهمة برنامج الاستمطار الصناعي في حدوث الأمطار الطوفانية التي شهدتها دبي أبريل 2024 وفسروا ذلك بكون مفعول تلك العملية تضافر مع مفعول ارتفاع الحرارة والغبار المتطاير (aérosol) لتكون النتيجة تلك التساقطات غير المسبوقة والتي ناهزت ما يسقط هناك في ظرف سنتين كاملتين.
ايضا فالتوقف عن استخدام هذه التقنيات سواء للاستمطار الصناعي اوخصوصا في مجابهة آثار التغير المناخي تنتج عنه صدمة التوقف “termination shock” التي تتعرض لها الاوساط الطبيعية المعنية والتنوع البيولوجي بها.
نفس الشيء فهذه العمليات سيكون لها أثر على استقرار الانسان وعلى العدالة المجالية لأن التحكم في المناخ لن يكون الا لصالح الكبار وضد مصالح الباقين، ويمكن يوما أن يتحكم البعض في توزيع التساقطات فيدفعها إلى مناطق معينة ويحرم منها اخرى او حتى اغراق اخرى متى اقتضت مصلحة المتحكم في الزمام ذلك كما سلف ذكر ذلك في حالة حرب الفيتنام.
وقد عمدت الولايات المتحدة منذ بداية تسعينات القرن الماضي إلى اعتبار قضايا المناخ ضمن مقتضيات الامن القومي ونعلم أنها الدولة الاولى التي لجأت إلى اعتماد الاستمطار الصناعي منذ 1946 في ظل اجواء انتهاء الحرب العالمية الثانية.
رغم كل هذا وبالنظر الى ما أضحى من أهمية لهذه التقنيات سواء ذات العلاقة بالاستمطار الصناعي او بالتأثير على المناخ عموما وذلك في سياق الصراعات والنزاعات السياسية والجيوستراتيجية المتنامية وسياق التغير المناخي والخصاص المائي الحاد الذي تتضرر منه الكثير من مناطق المعمور فإن الكثير من البلدان ومنها المغرب لن يجد بدا من اللجوء اليها وتملك تكنولوجياتها، ضمن ما قد يعتبر جزءا من مستلزمات قواعد الأمن الاستراتيجي والجيوسياسي.
المصدر: العمق المغربي