أوروبا تدفع ثمن “حرب صينية بلا دخان”
في عام 1964، بدأ شي باي بو، وهو مُغنٍ في أوبرا بكين وجاسوس، علاقة مثيرة للحيرة مع الدبلوماسي الفرنسي بيرنارد بورسيكوت. وكانت لقاءاتهما الغرامية تتم دائما في الظلام، التي نسبها بورسيكوت إلى الحياء الصيني. وفي الحقيقة، كان شي رجلا يتنكر في صورة امرأة، وأنه حتى قدم طفلا زعم أنه ابنهما. وكانت هذه الخدعة ترمي إلى إغراء بورسيكوت على مواصلة تمرير وثائق السفارة الفرنسية إلى مسؤولي الحزب الشيوعي الصيني، على مدار عشرين عاما.
وقالت تريزا فالون، هي محللة وكاتبة وعضو في مجلس التعاون الأمني في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ومديرة مركز دراسات روسيا وأوروبا وآسيا في بروكسل، إن السجل لا يشير إلى ما إذا كانت هذه هي المرة الأولي التي كان فيها مسؤول غربي أقل سذاجة في تعامله مع جمهورية الصين الشعبية؛ ولكن هذا التقليد يستمر في الحدوث.
وأضافت فالون، في تقرير نشرته مجلة ناشيونال إنترست (The National Interest) الأمريكية، أنه رغم أن كل الدول تقريبا تمارس التجسس والسعي لكسب النفوذ، فإن مدى وكثافة أنشطة جمهورية الصين الشعبية، التي توجهها في المقام الأول إدارة الجبهة المتحدة للعمل، تعتبر واسعة النطاق في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.
وأوضحت فالون أن بلجيكا، التي تعيش فيها، تستضيف كل من مقار قيادة حلف شمال الاطلسي (ناتو) ومعظم مؤسسات الاتحاد الأوروبي؛ وهو ما يجعلها هدفا رئيسيا لنفوذ جمهورية الصين الشعبية.
وتعلقت قضية حديثة بمساعد صيني لماكسيميلان كراه، وهو عضو ألماني في البرلمان الأوروبي من حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف.
وكان قد قُبض على المساعد بتهمة أنه كان يمرر معلومات عن مداولات البرلمان إلى الصين على مدار سنوات، وكان يعُتقد أيضا أنه كان يراقب الصينيين في الشتات في دريسدن.
وأحد الأهداف الرئيسية لعمليات النفوذ الصينية في أوروبا هو الاستقطاب الاستبدادي، الذي يتمثل في إقناع الشخصيات العامة الأوروبية بأن يكون لديها تقدير إيجابي للحزب الشيوعي الصيني والتحدث بشكل إيجابي عن سياساته الداخلية والخارجية.
ثم يتم بعد ذلك دعوة هؤلاء البدلاء أصحاب التفكير المماثل للتحدث كوكلاء لتعزيز مواقف الحزب الشيوعي الصيني.
ويعد السيناتور البلجيكي القومي فرانك كريلمان مثالا جيدا على ذلك. وفي شهر دجنبر عام 2022، جرى الكشف عن أنه عميل صيني. وترددت تقارير أنه عمل أيضا في بولندا ورومانيا.
وكان الشخص المسؤول عن توجيه أنشطة كريلمان يعمل في فرع تشجيانج في وزارة أمن الدولة الصينية، وكان الهدف الرئيسي للحزب الشيوعي الصيني هو إحداث صدع في العلاقات الأمريكية الأوروبية.
وأحد الأهداف الرئيسية للحزب الشيوعي الصيني هو السيطرة على الأشخاص من أصول صينية داخل جمهورية الصين الشعبية وخارجها. ويشمل ذلك ملاحقة المسؤولين الصينيين المشتبه في تورطهم في الفساد والذين فروا إلى خارج البلاد في إطار عملية صيد الثعالب.
وقالت فالون إن الحزب الشيوعي الصيني، للسيطرة على الصينيين في الخارج، أنشأ شبكة عالمية من مراكز الشرطة السرية في 53 دولة في جميع أنحاء العالم. ويتم استخدام هذه المراكز أيضا لمراقبة سلوك الصينيين في الشتات، وبصفة خاصة مجموعات الأقلية؛ مثل الويغور والذين ينتمون إلى إقليم التبت ومنطقة هونج كونج، بهدف منع النشاط المعادي.
وفي الوقت الذي شددت فيه الولايات المتحدة ضوابط التصدير على التكنولوجيات المتقدمة، كثفت بكين جهودها في أوروبا لجمع المعلومات والمعرفة عن مثل هذه القدرات.
وأضافت فالون أن الصين تسعى إلى الحصول على التكنولوجيا المتقدمة بطرق متعددة: بطريقة قانونية من خلال الاستثمارات وتمويل الأبحاث، وبطريقة غير قانونية من خلال العاملين داخل الشركات والتجسس السيبراني، والتحايل على قيود التصدير، والاستحواذ، والهندسة العكسية للتكنولوجيا (تفكيك المعدات والأجهزة لمعرفة تركيبها والكيفية التي تعمل بها).
وأظهرت حوادث التجسس الأخيرة في أوروبا أيضا تداخل أنشطة النفوذ بين الصين وروسيا. ويقدم الكشف عن حالتي كريلمان وكراه بعض الأدلة في هذا الصدد.
ويبدو أن المساعدين البرلمانيين بصفة خاصة مصدر جيد للمعلومات، وأن المشرعين السابقين هدف سهل لكل من عمليات النفوذ والاستخبارات الروسية والصينية.
وأخيرا، هناك دليل على أن مجموعات الجريمة المنظمة الصينية في أوروبا تتعاون مع رجال الشرطة الصينيين غير المعلن عنهم الموجودين في البعثات الدبلوماسية الصينية لمراقبة وترويع المهاجرين والمنشقين في الخارج، حسب فالون.
وهذه الجماعات متجذرة بشكل جيد في الدول المستضيفة، ويمكن أن تقدم معلومات استخباراتية ودعما للشرطة. وفي المقابل، لا تحاكم السلطات الصينية أفراد هذه العصابات الذين يعملون في الخارج ولا ترحلهم أبدا إذا طلبوا اللجوء في الصين. وظهرت أنماط مماثلة من هذا النشاط أيضا في الولايات المتحدة وغيرها.
وتسأل فالون عما يتعين على أوروبا عمله في مواجهة هذا الاتساع والعمق لعمليات النفوذ الصيني، وترى أنه يجب على أوروبا ألا تواصل السير في الطريق الذي سلكه برنارد بورسيكوت.
ولا تتطلب هذه الحرب التي بلا دخان استراتيجية مصممة للمدى الطويل فحسب؛ ولكن تحتاج أيضا إلى ضم شركاء الناتو في مجموعة الأربع لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا) والتعلم من أفضل ممارساتهم.
ومن الإجراءات التي يمكن اتخاذها: أولا، التحقيق في عمليات النفوذ الصيني لفهم طريقة عملها وزيادة الوعي بشأنها حتى يمكن التصدي لها بطريق أفضل وإحباطها. وثانيا، البناء على الخبرة المكتسبة من التصدي للعمليات الاستخباراتية السوفيتية خلال الحرب الباردة لتعزيز قدرات مكافحة التجسس. وثالثا، الاستثمار في تعليم اللغة والثقافة الصينية لزيادة معرفة صناع السياسة بالكيفية التي يعمل بها الحزب الشيوعي الصيني وإعداد الجيل المقبل من المتخصصين. ورابعا، يتعين على الدول الأوروبية، التي ليس لديها قوانين لمكافحة التجسس، أن تبحث تبني قانون خاص بذلك.
ويتعين على صناع السياسة ومسؤولي أجهزة الاستخبارات أن يبتكروا ويتعلموا ويتكيفوا مع حالات التهديد المتغيرة. وسوف يتمثل تحدّ رئيسي في ضمان أن يحترم الرد الاستراتيجي على كلا جانبي المحيط الأطلسي مثل الحرية والانفتاح والشرعية.
وترى فالون أن أي رد مدروس على الحرب بلا دخان التي تشنها بكين، والمقرون بمراقبة مستمرة لتجنب واقعة الدبلوماسي الفرنسي بورسيكوت، سوف يساعد على حماية المؤسسات الديمقراطية وتحقيق المرونة للتعامل مع التهديد المتنامي من جانب الحزب الشيوعي الصيني.
المصدر: هسبريس