تفاصيل يوم من القصف الجوي العنيف
في وقت توقفت فيه المعارك المباشرة على الأرض بين الجيش وقوات الدعم السريع بشكل شبه كامل بعد سيطرة قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من ولاية سنار، واصل طرفا الحرب القتال بوسائل أخرى قد تقلل الخسائر في صفوف المقاتلين. ولجأ الجيش وقوات الدعم السريع في الآونة الأخيرة إلى القصف المتبادل لمواقع باستخدام المسيرات والراجمات الثقيلة والخفيفة ومدافع الهاون. ويتسبب هذا القصف “الأعمى” في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا وسط المدنيين ما بين قتيل وجريح بالإضافة إلى تدمير الممتلكات الخاصة والمنشئات العامة والحكومية.
لكن الجيش السوداني يمتلك ميزة كبرى هي سلاح الطيران القتالي، فبجانب الطائرات والمروحيات المقاتلة، يستخدم الجيش طائرات النقل من طراز “انتونوف” في إسقاط البراميل الحارقة على المناطق المستهدفة. ورغم أن الجيش قد خسر العديد من طائراته منذ بداية الحرب، إلا أن المراقبين لاحظوا تعزيز الجيش لقدراته الضاربة من الجو في الفترة الأسابيع الماضية.
غارات يومية في مناطق متباعدة
وأصبح الطيران الحربي ينفذ غارات يومية وبشكل غير مسبوق منذ بداية الحرب وعلى مناطق متباعدة في مختلف الولايات المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. ومن الواضح أن ذلك مرتبط بما يتردد عن حصول الجيش على طائرات جديدة، تتعدد الروايات حول مصدرها. فبعد أن كان البعض يتحدث عن الجزائر كأحد المصادر لهذه الطائرات، تحدث آخرون عن أن مصر هي مصدرها ما دفع الناطق الرسمي للقوات المسلحة لإصدار بيان ينفي فيه تزويد مصر للجيش بطائرات صينية الصنع. فيما فريق يشكر ثالث مؤيد للجيش روسيا على عونها العسكري للجيش والذي سيحدث فرقا. بل أن بعض المصادر تتحدث عن استئجار الجيش لفنيين وطيارين أجانب لقيادة هذه الطائرات.
وفي غياب أي بيانات رسمية من القوات المسلحة عما تنفذه من غارات جوية، قمنا في راديو دبنقا برصد الغارات الجوية التي شنها الطيران الحربي في يوم 31 أغسطس الماضي للتحقق فعلا من مدى اتساع وفعالية هذه الغارات الجوية.
في ذلك اليوم وحده، شنت الطائرات الحربية غارات على جبرة الشيخ في شمال كردفان، وعلى مليط وقرية فشار في شمال دارفور، وعلى زالنجي في ولاية وسط دارفور. وبينما تتحدث المنصات المناصرة للجيش عن تحقيق ضربات قوية على تجمعات قوات الدعم السريع، حملت هذه الغارات معها حصيلة ثقيلة من القتلى والجرحى وسط المدنيين، والدمار للمنازل، والمنشئات الخاصة، والعامة.
جبرة الشيخ
تقع محلية جبرة الشيخ في ولاية شمال كردفان وعلى بعد 160 كيلومتر إلى الشمال من مدينة الأبيض، عاصمة الولاية. وتعتبر المدينة ممرا رئيسيا لطريق الصادرات الذي يربط بارا بمدينة أمدرمان. شن الطيران الحربي غارة جوية على جبرة الشيخ بولاية شمال كردفان يوم السبت 31 أغسطس 2024 في تمام الساعة الثامنة والنصف مساء. ولم تسجل أي خسائر في الأرواح أو إصابات وسط المواطنين، لكن تضررت عدد من المنازل والمنشئات العامة.
وقال أحد المواطنين لراديو دبنقا إن إحدى القذائف سقطت داخل منزل المواطن محمد ابراهيم قمبا بالحي الجنوبي جنوب السوق، بينما سقطت القذيفة الثانية أمام منزل الاستاذ صالح التوم. قام فريق دبنقا للتحقق بمراجعة مقطع الفيديو واستطاع تحديد موقع مسجد عباد الرحمن في الدقيقة 1 و 46 ثانية والذي يقع في الحي الجنوبي في منطقة لا تبعد كثيرا عن منزل الأستاذ صالح التوم الذي سقطت عليه إحدى القذائف.
ويتطابق ذلك مع شهادة المواطن المتضرر الذي أكد أن الطائرات جاءت من جهة الشرق، أي أنها دخلت المدينة من جهة مسجد عباد الرحمن الواقع في جنوب شرق المدينة. كما استهدف الطيران بالقصف عدد من المؤسسات الرسمية الواقعة في شمال شرق مدينة جبرة الشيخ التي تستخدمها قوات الدعم السريع كمقرات لقواتها أو تتولى إدارة المدينة منها باعتبارها مباني حكومية ومن بينها مكتب المحلية، مكتب التربية والتعليم، دار القضاء ومركز الشرطة.
زالنجي
في حوالي الساعة 10 مساء من يوم السبت 31 أغسطس استهدف طيران الجيش السوداني مدينة زالنجي، عاصمة ولاية وسط دارفور من جديد. وتركز القصف هذه المرة على معسكر خمس دقايق للنازحين وحي كرانك في وسط مدينة زالنجي وفي منطقة لا تبعد كثيرا عن سوق زالنجي.
وأسفرت الغارة الجوية عن سقوط 4 قتلى من المدنيين و 6 من الجرحى وتدمير عدد من المنازل. وأفاد شهود عيان أن الغارة لم تصب أي هدف عسكري في المدينة الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع منذ أكثر من 9 أشهر. ويظهر مقطع فيديو مدته 5 دقائق و 41 ثانية الشيخ مطر على حسين، الذي يعرف نفسه باسم المراقب العام لمنسقيه النازحين واللاجئين وهو يتحدث عن تعرض معسكر خمس دقايق عند الساعة العاشرة و 15 دقيقة من مساء السبت 31 أغسطس لقصف جوي، وهو ما يؤكد عملية القصف بالنظر إلى أن الشيخ مطر على حسين من القيادات المعروفة في مدينة زالنجي.
مليط
قال شهود عيان إن الطائرات الحربية التابعة للجيش السوداني نفذت غارات جوية على مدينة مليط صباح يوم السبت، حيث أسقطت 15 قذيفة على عدة أحياء ومواقع لقوات الدعم السريع. وأدت الغارة إلى مقتل 11 شخصاً وأصيب 9 آخرون بإصابات متنوعة، وبعضهم في حالة حرجة، حيث تم نقلهم إلى المستشفى الريفي وإلى بعض العيادات الخارجية لتلقي العلاج.
ونقل مقطع فيديو مدته 41 ثانية، نجح فريق دبنقا للتحقق من تحديد مكان تصويره في الطرف الجنوبي الشرقي لمدينة مليط، نقل صورا لأعمدة الدخان وهي تتصاعد من موقع بعيد خارج المناطق السكنية. ويعتقد بأن الطيران استهدف مقر الحامية العسكرية في مليط والذي يقع في شرق المدينة.
ومن المعروف أن مدينة مليط كانت قد شهدت مواجهات مسلحة بين قيادات متنافسة في قوات الدعم السريع، الأمر الذي دفع قيادة الدعم السريع إلى الدفع بقوات كبيرة إلى المدينة لمنع تطور المعارك. وتستخدم هذه القوات مقر المحلية والمقر السابق لبعثة اليوناميد في دارفور الأمر الذي يفسر هجمات الطيران على وسط المدينة.
وتقع مدينة مليط على بعد 65 كيلومتر إلى الشمال من الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور. وتعتبر المدينة بوابة عبور للفاشر من جهة الشمال، كما أنها تمثل نقطة المرور الأخيرة قبل الوصول إلى مدينة الفاشر للطريق الذي نجحت وساطة جنيف في فتحه بين الدبة والفاشر لنقل المعونات الإنسانية.
الفاشر
أصبحت الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، هدفا مستمرا لطيران الجيش منذ أن حاصرتها قوات الدعم السريع في شهر أبريل الماضي. ويهاجم الطيران في غالب الأحيان تمركزات قوات الدعم السريع في الأطراف الشمالية والشرقية للمدينة. لكن توغل قوات الدعم السريع في الفترة الماضية إلى داخل أحياء المدينة، جعل طائرات الجيش تهاجم عدد من الأحياء وكذلك بعض المناطق داخل معسكرات النازحين.
في صبيحة يوم السبت 31 أغسطس 2024، شن الطيران الحربي في تمام الساعة 10 صباحا غارة على قرية “فشار” الواقعة على بعد 15 كيلومتر إلى الشرق من الفاشر إلى الجنوب من الطريق الرابط بين الفاشر وكوما ولا تبعد كثيرا عن خزان فشار الذي يعتبر أحد مصادر المياه الرئيسية في المنطقة.
ويظهر مقطع فيديو بثته قوات الدعم السريع مدته 4 دقائق و 14 ثانية، ولم يستطع فريق دبنقا للتحقق التأكد من صحته، ان الغارة تسببت في سقوط قتيلين وعدد من الجرحى وسط المدنيين، لكن لم يتم تحديد عددهم. كما أن الشهادات التي قدمها سكان المنطقة تم تسجيلها بواسطة عناصر تابعة لقوات الدعم السريع. رغم ذلك يظهر مقطع الفيديو حجم الدمار الذي حل بعدد من مساكن القرية.
الموقع الذي تعرض للقصف في الفاشر خرائط قوقل
ضحايا القصف في الفاشر خرائط قوقل
مدني
شن الطيران الحربي صباح يوم السبت 31 أغسطس غارة جوية على صينية السوق المركزي الواقعة في الجزء الجنوبي من المدينة. ويظهر مقطع فيديو مدته 2 دقيقة و 51 ثانية، نجح فريق دبنقا للتحقق في التأكد من مكان تصويره، يظهر عدد من جنود الدعم السريع بعد الغارة مباشرة وهم يتوعدون الجيش السوداني. لكن مقطع الفيديو يصور قبل كل شيء حجم الدمار الذي طال المنطقة والخسائر التي طالت المدنيين من فريشة وباعة متجولين وبائعات الشاي والقهوة على الطريق العام.
ويؤكد تواجد أعداد كبيرة من جنود الدعم السريع في المنطقة أن الجيش طيران الجيش قد استهدف واحدا من تجمعاتهم الكبيرة، لكنه يؤكد أيضا أن قصف الطيران أعمى ولا يفرق بين ما هو مدني وعسكري طالما أن الأهداف تقع في داخل المناطق السكنية والأسواق ومقار المنشئات الحكومية والخاصة.
مناشدات بحظر الطيران
مع تكثيف الجيش لاستخدام الطيران القتالي في الحرب الحالية وبما يوفره من تفوق وسيطرة جوية كاملة في مقابل قوات الدعم السريع التي لا تمتلك قدرات جوية قتالية وتستند إلى منظومات دفاع جوي محدودة الفعالية، يدفع المدنيون والبنيات الأساسية والمنشئات العامة والخاصة ثمنا باهظا في هذه الحرب. وتعالت في الآونة الأخيرة أصوات من منظمات المجتمع المدني والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، وأخرها منظمة هيومان رايتس واتش، مطالبة باعتبار المجال الجوي السوداني منطقة حظر طيران. لكن من غير الوارد في ظل التوازنات الدولية الحالية أن يجد مثل هذا المقترح طريقه للتنفيذ. وإن كان البعض يدعو للجوء إلى سلسلة القرارات التي صدرت من مجلس الأمن بشأن دارفور في السابق والتي ما زالت سارية ويخضع تطبيقها للمراجعة الدورية من قبل المجلس، خصوصا وأن دارفور هي المنطقة الأكثر تعرضا للقصف بالطيران.
دبنقا
المصدر: صحيفة الراكوبة