في سياق الحرب على غزة..زفراتُ شعبٍ مظلوم!
أمد/ مظلومٌ هذا الشعب..
فعلاً، فقد تعرضنا نحن الشعب الفلسطيني لظلمٍ عظيم..
وأنا هنا لا أتحدث عن ظلمِ المُحتلين.. ولا أتحدث عمَّن قتلنا وكان سبباً في تشريدنا وتهجيرنا وتدمير منازلنا وكلُّ ما فعله ضدنا المحتل في عدوانه وحرب الإبادة الحالية، وما سبق ذلك من مجازر منذ النكبة الأولى عام 48..
ولا أتحدث عن ظلمِ الدولِ الراعيةِ لهذا الاحتلال، والتي تعتبره قاعدةً استعماريةً متقدمة لها في المنطقة..
ولا أتحدث عن ظُلمِ الإخوة والأشقاء، الذين خذلوا هذا الشعب المظلوم، بل وبدأوا يشعرون أن قضيته أصبحت عبئاً عليهم..
إنما أتحدث وهنا بيت القصيد عن ظُلم الفلسطيني لأخيه الفلسطيني، أتحدث عن ظلم الحكومات والجماعات والقيادات الفلسطينية لهذا الشعب الذي كُسرت بُظلمٍ رباعيته.
حين بدأت معركة (طوفان الأقصى)، تفاجأ الشعب المظلوم بقرار الحرب الذي أعقبها، ولم يكن له في الحالين من دراية أو نفير!!
وكما جرت العادة عبر تاريخنا الطويل، لم يسبق أن وجدنا قيادةً أو حزباً استشارت هذا الشعب أو راعت حساباته في قرار السلم والحرب أو أية قرارات مصيرية أخرى، بل يتم اتخاذ القرار من قبل مجموعة محدودة من الأفراد، قرارٌ يتعلقُ بحاضرِ ومستقبلِ شعبٍ بأكمله، قرارٌ يحدِدُ مصيرَ جيلٍ كاملٍ، ويؤثّرُ على مصيرِ أجيالٍ قادمة!
حين يتخذ الاحتلال قراراً بالحرب، فنقول: هذا محتلٌ عدوٌ مستعمر، قام أصلاً وتأسس على العدوان علينا وعلى حقنا في الحياة، قام بإبادتنا وتهجيرنا وأقام دولته على جثثنا وأشلائنا، لكن حين يتخذ حزبٌ فلسطيني قرار الحرب، وتكون النتيجة أيضاً إبادتنا وتهجيرنا، فهنا تسكبُ العبرات!
خلال هذه الحرب، أدركنا جيداً أننا كشعب لا قيمة لنا بالنسبة للأحزابِ التي تحكمنا وتتحكمُ بنا، فقد تفاجأنا أننا وأطفالنا ونساؤنا ومنازلنا وحاراتنا ومزارعنا وأراضينا هي مجردُ ساحة حرب، وحين نزلت فوق رؤوسنا الصواريخ الارتجاجية الخارقة للتحصينات والتي كان يستخدمها الأمريكيون لقصف أنفاقِ ومغاراتِ جبال تورا بورا في أفغانستان، فيما يعرف لدينا ب “الحزام الناري”، اكتشفنا أننا وحياتنا وبيوتنا لم نكن سوى مجرد غطاء لمدينة من أنفاق المقاومة، والتي بنيت تحتنا أيضاً بغرض التمويه وتعزيز تحصينات الفعل المقاوم.. وكل ذلك تمَّ دون أن يشاورنا أحد أو حتى يأخذ رأينا ولو استئناساً!
حتى في أفغانستان، كانت الأنفاق والمغارات في الجبال والمزارع والأراضي الخالية من السكان، ولم نسمع عن أنفاق جرى نشرها بهذا الاتساع وسط كثافة سكانية بحجم قطاع غزة، والذي يزدحم فيه حوالي مليونين ونصف مليون إنسان في مساحة لا تزيد عن 365 كيلو متر مربع.
وطبعاً، لا بدَّ من الإشارة إلى ملاحظة هامة وهي أن هذا لا يعني الاختلاف مع مقاومة المحتل كمبدأ؛ لكن ألا يحق لهذا الشعب أن يقرر شكل وآليات هذه المقاومة، ألا يحق له أن يكون صاحب رأي على الأقل في الطريقة والأداء، وعلى افتراض أنه حتى في هذا لا يحق له، أفلا يحق أن يكون له رأيٌ في بيتهِ الذي امتلكه بعرق جبينه؟ ألا يحق له الحكم في منزله الذي يؤويه وعائلته؟!
إذا كان الفقهاءُ قد قرروا أن من امتلكَ أرضاً فقد امتلك ما فوقها وما تحتها، وإذا كان الاحتلال قد أخذ ما فوقها بالطيران ظلماً وعدواناً دون رأيه ومشورته، أفلا تستدعي الفروسية والنبل أن نشاوره فيما تحتها؟ فهل من العدل أن تأتي الحرب لتفاجئه في النهاية أن بيته أصبح هشيماً تذروهُ الرياح!
في النهاية، لقد وجد الشعب نفسه طريداً شريداً، هارباً من الموتِ إلى الموت، وتم الحكم بلا حسابات بالإعدام على شعبٍ كاملٍ، دون جريرةٍ أو ذنب، لقد صدر الحكم وبدأ تنفيذه دون تهمةٍ أو محاكمة ودون حتى حقٍ بالاستئناف!!
لقد تمّ تقرير مصيرِ شعبٍ كاملٍ من قبل مجموعة في حزبٍ أو تنظيم لم تشاورِ الشعب ولم تبلغه حتى ليأخذ للموت عدته أو ليهيئ للهجرة سبيلها، فإذا كان الشعب لا يحق له الرأي في قرار السلم والحرب، فعلى الأقل أبلغوه أننا قد عقدنا العزم على أمرٍ فيه ما قد يؤثر على مستقبلك وحياتك، فلو أردت الهجرة فلكَ ذلك، ولو أردت البقاء والموت فلك ذلك، ولو استطعت أن تجد خياراً ثالثاً فافعل، فالمقاومة قد حسمت خيارها..
نعم، إن حق تقرير المصير الذي قررته الأمم المتحدة للشعوب تم شطبه وإلغاؤه من قبل التنظيمات والأحزاب التي من المفترض أنها خرجت من رحم هذا الشعب نفسه، وصار الأمر إلى أن المجموعة المغامرة التي اتخذت قرار مستقبل الوطن والمواطن، هي التي تقرر خريطة مصيرك، ولا يحق لك الاعتراض!!
طبعاً؛ قد يقول قائل: إن الاحتلال هو الذي يتحمل المسؤولية، هو الذي يقصف ويدمر ويقتل، وهذا كله صحيح لا جدال فيه، لكن ألم تكن السردية التي تغنت بها الأحزاب والفصائل على مر السنوات الطويلة الماضية من الصراع مع المحتل، أنهم يقودون النضال والمقاومة بحنكة وسياسة وفهم وإدراك لطبيعة المعركة والظروف الإقليمية والدولية ومراعاة التحالفات الموجودة في المنطقة والعالم؟ ألم نسمع منهم كثيراً أننا لا نستطيع الدخول في حرب شاملة مع الاحتلال لانعدام التكافؤ العسكري، وبسبب الدعم الأميركي للاحتلال؟ هل تفاجأ دهاقنة السياسة العظماء في الأحزاب بهذه الحقائق التي يدركها عامة الناس ناهيك عن دهاقنة السياسيين في الأحزاب؟ وكيف لم يتنبأ أصحاب الفراسة والكياسة والسياسة في الأحزاب بأن نتيجة قرارهم هلاك البلاد والعباد؟
والأدهى والأمَرّ، أنه وبعد كل ما جرى تأتي هذه الأحزاب فتلوم الشعب وتعاتبه.. تخيل!
فأحد المتحدثين باسم حزبٍ من هذه الأحزاب يرفع عقيرته في وجه الشعب ويقول له: أنت اخترت هذه الجماعة لتحكمك فتحمل مسؤولية اختيارك! أما الحزب المقابل فيتهم الشعب بخذلانه وأنه شعبٌ لا يُعَوّلُ عليه، وأن الشعب همُّهُ فقط طعامهُ وشرابه ولم يقف مع الحزب وقفة قوية في حربه التي أشعلها دون إذنه!
تخيل أن حزباً ينتقدُ شعباً ويتهمهُ بخذلانه، وكأن الشعب مهمتهُ هي إرضاء الحزب وليس العكس!
تخيل أن المواطن البسيط المظلوم المغلوبُ على أمره، النازحُ في خيمته، المشردُ من بيته، الذي لا يجدُ قوتَ يومه، ولا يجد ماءً ليشربه، مطلوبٌ منه دعم الحزب وحمايته، وأن يكون له درعاً سابغاً، وسيفاً صارماً، ولساناً مُسَحِّجاً!
تخيل أن حزباً يريد من الشعب أن يحميه، لا أن يحمي هو الشعب، وتخيل أن حزباً يتهم الشعب بضعف الجبهة الداخلية لديه، وقلة الوعي الأمني، وقلة الإدراك الفكري، وقصر النظر المعرفي، وكل ذلك بعد أن أوردَنا هذا الحزب موارد التهلكة وهو الذي ادَّعى على مرِّ سنوات وسنوات أنه يدير مع غيره الصراع “بحكمة واقتدار”، ولكن أنّى لنا كشعب أن يكون لنا فهم الصفوة من الأحزاب؟!
طبعا هذه الأحزاب كانت في أيام الانتخابات عندما احتاجت الشعب جسراً لتعبر عليه كانوا يتغنون بالشعبِ وفهمهِ ووعيهِ وكانوا يهاجمون من يشكك باختياراتِ الشعب باعتبار أنه يؤيد استبداد القلة ضد رأي الكثرة، فما الذي تغير الآن؟ وهل الشعب شعبٌ فهيم حينما تريدون؟ وأحمقٌ عندما مِنهُ تنتهون؟
وكما أن الحرب بدأت دون استشارةِ الشعب، فها هي المفاوضات الآن تبدأ أيضاً دون استشارته، ألم يخطر ببال أحد من هذه الأحزاب أن يسأل الشعب عما يريده؟ تجد الواحد فيهم يقف في مؤتمر صحفي، فيعطي التصريحات التي تعرف منها وتنكر، وقد تصاب بالدهشة والغثيان من اللغة التي يتكلمُ بها المتحدث، وكأنه في واد والشعب في وادٍ آخر، ولكن لا غرابة، فمنذ متى كانوا يسألون الشعب عما يريد؟
يقولون إننا نفاوض ونطالب بمطالب تلبي حجم التضحيات التي قدمها هذا الشعب، فهل سألتم الشعب صاحب التضحيات عما يريد؟ ومن قال لكم إن الطلبات التي تطلبونها هي ما يريده الشعب؟!
هنا نسأل الأسئلة البسيطة البديهية: من الذي خولكم بالحديث باسمنا؟ من الذي أعطاكم هذا الحق؟ من الذي فوضكم؟ هل نزلتم في شوارع المواصي والدير وهي ما تبقى من قطاع غزة وسألتم الناس عما يريدون؟ هل تعرفون أصلاً حقيقة أوضاع الناس خلال هذه النكبة؟ أم إن الشعب لايزال بالنسبة لكم غطاء ووسيلة للوصول لغاياتٍ لا ندري أهي لنا أم علينا؟!
ثم صدّق أو لا تصدّق أن من يسأل هذه الأسئلة البسيطة البديهية يُتَهمُ بالعمالةِ والخيانةِ والتخاذلِ والانبطاحِ والانهزاميةِ، هذه التهم المعلبة الجاهزة توجه لمن؟ لمستضعفين من رجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ هاموا على وجوههم في النزوح لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، تُوجَّه للذين يهربون من الموت، والموت يحيط بهم من كل جانب، تُوجَّه للذين يصطفون في الطوابير للحصول على الخبز والطعام والماء والغاز والصابون، ويبحثون عن أملٍ في أي حياة.
لا أعلم حقيقةً على أي واقعٍ مريرٍ ستنتهي هذه الحرب، لكنني أدركت شيئاً واحداً أكيداً في هذه الحرب، أننا نحن كشعب لا قيمة لنا في معادلات المكاسب والخسائر لدى الأحزاب، وأن حياة الشعب ومستقبله ليس معياراً أصلاً يؤثِّرُ في اتخاذِ القراراتِ لدى الأحزاب التي من المفروض أنها تمثل الشعب، وهذا الذي أقوله هو نبضُ الشارع ومن شاءَ فليسأل.
وصدَقَ الشاعرُ حين قال:
لا يُلامُ الذئبُ في عُدوانهِ..
إن يكُ الراعي عَدوَّ الغنمِ!
ما كانت هذه الكارثة في حسابات أحد، وكانت مباغتة بكل أثقالها للجميع.. لذلك، كانت الصدمة وكان الذهول الذي حمل معه موجات عاتية من الغضب ومثلها جبال من الزلزلة والعتب..
ولا ندري إلى أي مآل تؤول إليه؟! وهل يصل هذا الشعب إلى بر الأمان الذي يصبو إليه؟!
يا رب.. فرِّج الكرب..