اخبار السودان

«500» يوم ضد الكرامة السودانية , اخبار السودان

«500» يوم ضد الكرامة

أمل محمد الحسن

عندما بدأت طبول الحرب تدق عبر تصريحات القيادات العسكرية ومظاهر الانتشار العسكري في شوارع الخرطوم كنا نبتهل ونكتب حول ضرورة عدم إندلاعها وسط عاصمة هشة يعاني أغلب سكانها من قلة الموارد ويملأ طرقاتها الأطفال المشردون ولا يسد راتب الشهر ثلث احتياجات الأسر فيما يعمل قطاع واسع في مهن هامشية “رِزق اليوم باليوم”.

كان السودانيون يعانون في صمت ويكدحون في صمت وسط عسف الحكومة العسكرية التي لم تتوانى عن قتل عشرات الشباب لتثبت كرسي سلطتها الانقلابية، وبدأت في إعادة فلول النظام البائد للسلطة وتغتال أحلام الشعب في التحول المدني الديمقراطي الذي مهره بدماء غالية طاهرة لبنات وأبناء السودان، كل جريمتهم أنهم رفعوا صوتهم مطالبين بالحرية.

كنا نشفق من الحال الذي سيجابهه المواطن منفرداً بلا يد تمتد لتقديم كسرة خبز أو مأوى وسط شبكة من المفسدين الجشعين المقتاتين على موارد البلاد لا يهمها سوى مصالحها الذاتية الضيقة؛ وهو ما حدث تماماً، تشرّد الناس ونزح الكثيرون منهم مرة واثنتين وثلاث، من الخرطوم إلى ود مدني ثم سنار ثم كسلا إلى جانب لجوء الآلاف لدول جوار لم تراعِ عوزهم وأبلغ مثال ما جابهه اللاجئون في معسكرات إثيوبيا!.

عندما كنت أكتب “لا للحرب” على منصات التواصل الاجتماعي كان الناس يسخرون من مخاوفي، بعضهم أصدقاء أعزاء ورفقاء كرام وفور اندلاع الحرب انقسم السودانيون ومعهم هؤلاء الرفاق بين مؤيد لاستمرارها وبين مطالب لايقافها. في الوقت الذي نشطت فيه الآلة الإعلامية لفلول النظام المباد لتخوين كل من يطالب بوقف الحرب، كيف لا وهم أصحاب شعارات “فلترق كل الدماء” طالما هذه الدماء ليست دماء أبناء الطبقة العليا الفلولية التي يعيش أبناؤها خارج البلاد في تركيا أو القاهرة أو الخليج آمنين يتابعون أخبار الحرب لماماً عبر شاشات الهواتف، بمن فيهم القيادات العسكرية وعلى رأسهم قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الذي نقل أسرته في قصر وثير بتركيا وعاد ليبشر السودانيين بأن هذه الحرب ستستمر مائة عام! دون أن ينظر تحت قدميه لرؤية الجوعى والقتلى والمغتصبات والمشردين من منازلهم ومن أهدرت كرامتهم بالسكن في العراء دون أن تكون هناك خصوصية أو دورات مياه أو لقمة خبز أو جرعة ماء نقية!.

كانت حوائط الطين تستر عوز الكثيرين وتحفظ كرامتهم التي امتهنتها الحرب التي سميت زوراً وبهتاناً بحرب الكرامة وفي كل صباح جديد يدوس السودانيون والسودانيات على كبريائهم وعفتهم في ظل تدهور مستمر للأوضاع الإنسانية والحاجة الماسة لكسرة خبز ودواء وفي ظل سقوط مزيد من المدن وتشريد مزيد من الآمنين.

الفريق المشجع لاستمرار الحرب من الأصدقاء كان يدافع عن فكرته بضرورة إنهاء قوات الدعم السريع وإخفائها عن المشهد، وأنا أتفق تماماً أن ممارسات الرئيس المعزول عمر البشير وحكومة الكيزان التي كانت باستمرار تسلح مليشيات خارج النظام الأساسي للقوات المسلحة السودانية منذ الدفاع الشعبي مرورا بقوات الجنجويد بقيادة موسى هلال ثم أخيراً تقنين وجود قوات الدعم السريع بعمل قانون أجازه برلمانه دون أن ننسى قوات حرس الحدود والفصيل المسلح لجهاز المخابرات مرورا بالمليشيات الإسلامية وكتائب الأمن الشعبي التي قالت عنها القيادية في الحزب المحلول سناء حمد أنها تقدر بالآلاف!.

كل هذه الأرتال من القوات غير النظامية هي خصماً على ميزانية الدولة ومواردها وعبئاً على كاهل المواطن لأن رغبة النظام الفاسد في الاستمرار على سدة الحكم كانت أهم من تطوير البلاد ومؤسساته وكان البشير يرقص على المتناقضات والخلافات باللعب على وجود “حمايتي” العسكرية من جهة لتخويف كل من يريد أن ينقلب عليه من داخل الجيش ووجود حاضنته الإسلامية، التي سمح لها بنهب كافة موارد البلاد، من جهة لإكمال المعادلة المناسبة لبقائه حاكما ابديا للسودان!.

مرة أخرى؛ صحيح أن وجود الدعم السريع مشهد مختل وشائه ويحتاج لمعالجة جذرية لكن هذه الحلول ليس من ضمنها الحرب بأي حال من الأحوال!.

فالتاريخ القريب المرتبط بحروب الجنوب والتاريخ الأقرب لحروب دارفور يؤكد لنا أن الحرب لم تحل لنا يوماً أي قضية مرتبطة بـ”التمرد” وفق وصف حكومة المركز أو  قضايا التهميش وفق رؤية الحركات المسلحة! بل فصلت الجنوب وجعلت أهل دارفور يعيشون في معسكرات عشرات السنين، فلا هي حلت قضية التهميش ولا حققت التنمية ولا أنهت وجود الحركات المسلحة التي فتحت الحرب الحالية شهيتها للتناسل والتجنيد والتسليح والاصطفاف إما لصالح الجيش أو صالح الدعم السريع!.

في أيام الحرب الأولى كان الحماس يتناغم مع الآلة الدعائية الكيزانية للحرب، وتصدرت عبارات مثل حرب الكرامة، وساعة الحسم، الترند في مواقع التواصل الاجتماعي وكان الشعب السوداني يكذب الوقائع والحقائق وينسى التاريخ ويصفق لهذه السردية لاغياً وعيه الخاص، لكن مع استمرار التشريد وتوالي سقوط المدن والقرى والولايات والانتقال من المنازل لدور الإيواء ومعسكرات اللجوء لم تعد تلك العبارات رنانة ولم تعد تلهب حماس الناس لأن جروح واقعهم المزري وشوقهم لبيوتهم ووطنهم واستعادة حياتهم على بساطتها كانت تتسع كل يوم بصورة لا يمكن تخديرها بالأكاذيب والتخوين والاتهامات الجوفاء للمدنيين!.

حسنا؛ يريدون الحساب؟ فلنجلس بالورق والقلم مع الكيزان ونرى من الذي كون مليشيات الدعم السريع ومن الذي دربها ومن الذي جعل لها قانوناً خاصاً بها؟ قدِّموه للمحاكمة أمام الشعب.

ثانياً من الذي مكّن قائد الدعم السريع من السلطة والموارد قبل سقوط البشير وبعده، من الذي قدم له كرسياً ليكون الرجل الثاني للدولة ومن الذي قام بجرة قلم بشطب أهم مادة في ذلك القانون المعيب أصلاً ليطلق يد حميدتي أكثر مما فعل البشير؟.

هو البرهان، لماذا لا تقولوها بصوت عالٍ؟! هو ذات الشخص الذي ينذرنا باستمرار الحرب لمائة عام ويرفض الذهاب للتفاوض ويبني لنفسه قصراً في بورتسودان بعد أن اشترى لعائلته قصراً في تركيا دون حسيب أو رقيب!.

هذه حرب عبثية كما قال قائد الجيش بلسانه في أيامها الأولى، قبل أن يتم تلقينه عبارة حرب الكرامة من القيادي الكيزاني المطلوب لدى العدالة الدولية أحمد هارون! وهي في حقيقة الأمر حرب ضد الكرامة الإنسانية وضد الوجود الإنساني وضد الحريات وضد التحول المدني الديمقراطي لذلك يقوم نائب عام الفلول بفتح بلاغات في مواجهة الصحفيين والسياسيين ويعجز عن فتح بلاغات فيمن ظهرت ملفات فسادهم في سرقة المال العام وجابت وسائط التواصل الاجتماعي الاثباتات والاتصالات الهاتفية التي تثبت تورط أعلى الجنرالات والرتب في الجيش وجهاز المخابرات!

لن أطلب من البرهان أن يتخذ موقفا بطوليا في اتجاه السلام لأن ذلك يتطلب شجاعة استثنائية خاصة مع تراجع موقف الجيش ميدانيا في خريطة السيطرة العسكرية، وهي شجاعة لا اعتقد أنه يملكها لكن أستطيع أن أطلب من الشعب السوداني أن يستفيق من غفلته ويرفض شعارات الكيزان ويصطف في صف واحد ويقول بصوت مزلزل لا للحرب، ولازم تقيف فهدير الآلاف في ميدان اعتصام القيادة العامة هو ما أسقط البشير وابنعوف لأن غضبة الشعوب وهدير صوتها الموحد هو القوة الأعظم التي جعلت دول العالم تقف اجلالا وتقديرا لتلك الشجاعة الاستثنائية لثورة ديسمبر، وهي التي تستطيع أن توقف هذه الحرب بصرخة مجلجلة في وجه الجنرالات!.

#٥٠٠يوم_من_المعاناة

#500daysofsuffering

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *