هذه قصة ريحانتي الفداء “ليلى ونفيسة بلكحل”
تروي قسنطينة قصة التضحيات وهي مدينة الفداء، مرت منها أسماء ثورية ثقيلة اختار بعضهم العمليات المسلحة داخل المدينة، فمنهم من استشهدوا في أزقتها وشوارعها فحملت المنطقة اسم حملاوي، مريم بوعتورة، فضيلة ومريم سعدان، زيغود يوسف، شيحاني بشير..، وآخرون التحقوا بالجبال. هؤلاء جميعا كانت لهم قصص وبطولات نعلم بعضها وأجزاء منها كثيرة لا تزال في خفايا الماضي والتاريخ، ومن بين الأسماء التي رفعت “” اللثام عنها، الشقيقتان الشهيدة نفيسة بلكحل والمجاهدة ليلى بلكحل، قصة أختين التحقتا بالثورة، الأولى استشهدت في كمين والثانية واصلت الكفاح وبقيت على عهد الثورة والجزائر إلى يومنا هذا. التقت “” بالمجاهدة ليلى بلكحل بمناسبة ذكرى يوم المجاهد 20 أوت، وكانت لنا دردشة مميزة كشفت خلالها المجاهدة اتفاقها السري مع شقيقتها الشهيدة وعبارة كانتا ترددانها “إذا استشهدت قومي أنت بواجبي بعد الاستقلال”.
تعد المجاهدة ليلى بلكحل ابنة لعروسي حرم بن سديرة، واحدة من النساء القليلات المتبقيات من جيل الثورة المجيدة، تتمتع بأخلاق عالية وذكاء وحكمة قليل ما نجدها الآن، روح الثورة ومساندة القضايا العادلة تظهر مع لمعان عينيها اللتين تحملان الكثير من الشجاعة والقوة، إلى جانب ذكريات تاريخ أليمة تجعل دموعها من وقت لآخر تغطي جزءا كبيرا من البياض، لكن سواده يبقى حادا وقوي العزيمة.
السيدة ليلى تتقن لغة موليير بطلاقة، درستها في المدرسة الفرنسية الاستعمارية نادرا ما نجدها، غير أنها تتحدث بلغة الضاد بافتخار وأغلب جملها باللغة العربية الفصحى، تروي وتحكي ذكريات وبطولات الشعب لساعات، لكن ظلت تستثني نفسها وتبحث عمن يسمع قصص الشهيدة نفيسة ووالدها المجاهد لعروسي بلكحل، عضو جمعية العلماء المسلمين وكأنها تحمل عبء الأمانة وتسترسل في حديثها روايات عاشتها في صغرها الذي قضته مع الشيخ البشير الابراهيمي الذي تأثرت به، وعن الأحياء في قلبها والشهداء من أجل الوطن ممن تعذبت معهم في سجن “امزيان الوحشي” وقصصا أخرى يدمع لها القلب عن استعمار بغيض غاشم لم يرحم لا البشر ولا الحجر.
وذكرت الفدائية ليلى أن شقيقتها الشهيدة نفيسة التحقت بالثورة الجزائرية قبلها في سرية تامة، دون أن تكشف عن هذا السر واستشهدت قبل وقف إطلاق النار، حيث تحمل الآن ابتدائية اسمها بوسط مدينة قسنطينة، وحسب، فقد ولدت الشهيدة نفيسة في 27 أفريل 1936 بالمدينة القديمة لقسنطينة سنتين قبل ميلادها هي، ترعرعت في حي “طريق جديدة” العربي بن مهيدي حاليا بالقرب من محل والدها بحي الأربعين شريف، قبل أن ينتقلوا إلى حي “الفوبور” الأمير عبد القادر حاليا، من عائلة تتكون من الوالدين و8 بنات، حيث كانت نفيسة قريبة جدا منها روحيا لدرجة أن لغتهما كانت عن طريق الإشارة.
وقالت المجاهدة بلكحل إن شقيقتها نفيسة حاربت العنصرية المفروضة على التلاميذ العرب مقارنة مع الفرنسيين وهي في سن صغيرة داخل المدرسة، خاصة أثناء حلق شعرهم أمام زملائهم بحجة أنهم ممن لديهم القمل في الشعر، حيث كانت تعتبرها جريمة في حق الطفل لا يمكن السكوت عنها، كما كانت تشتري من مصروفها دواء ضد القمل للبنات لكي لا تسمح لأعوان مصالح الطب المدرسي بتقليل الاحترام للجزائريين، وهي في سن الثامنة من العمر قائلة “نفيسة كانت لها القدرة القوية على الاستيعاب، ذكية، شجاعة منذ طفولتها وإلى غاية التحاقها وسقوطها شهيدة في سن 25 سنة في محاربة القهر الفرنسي”، مواصلة في ذات السياق، أن نفيسة كانت متمردة جدا وهو ما أدى إلى ظلمها في التنقيط بمختلف المواد وهو ما كان يمارس ضد كل الجزائريين رغم أنها كانت تدرس جيدا ومتفوقة، لكن أرادوا إحباطها لما كانت تحمله من الإرادة وتخوف المعمرين منها مستقبلا.
وتذكرت المجاهدة ليلى حادثة وقعت في صغرهما، حين حاولت الإدارة الفرنسية آنذاك معرفة عدد أفراد الأسرة الجزائرية ووظائفهم من خلال تحقيق عسكري انطلق من المدارس، غير أن نفيسة تفطنت لذلك وطلبت من أختها أن تضع الورقة بيضاء، وحين انتفضت المعلمة ضدهما ردت نفيسة بقولها “نحن العائلات الجزائرية المسلمة لسنا أغبياء ونعرف عائلاتنا جيدا لكن كل الجيران أخوالي وخالاتي والتجار أعمامي وهناك أيضا من نساء الحي من هن عماتي لذا فصعب حسابهم”.
“والدي صديق العلامة بن باديس وطفولتنا كانت مع أعضاء جمعية علماء المسلمين”
وتروي السيدة ليلى بلكحل أن العائلة اكتسبت الروح الوطنية من والدها لعروسي الذي كان صديق العلامة عبد الحميد بن باديس وعضو في الحركة الوطنية، حيث تشبع بالقيم والمبادئ وفتح منزله لكل أعضاء جمعية العلماء المسلمين على أساس أنه واجب وطني، على غرار البشير الإبراهيمي، أمبارك الميلي، العربي التبسي، فضيل الورتلاني، الشيخ الغسيري، مؤكدة أن احتكاكهم بهؤلاء العلماء وتقديرهم ومعرفة دورهم قد أثر على تكوين شخصية كل أفراد العائلة، إلى جانب ما سمعوه من قصص رويت عن العلامة زادت من تمسكهم بالوطن، حيث كشفت أن الشيخ الابراهيمي كان يكتب مقالاته في جريدة “البصائر” انطلاقا من منزلهم ويزاول نشاطه بصفة عادية رغم أنه كان مريض “سكري”، قائلة “كان الإبراهيمي يستعين بكمية من نبات الشيح الصحراوي المطحون يتناوله على الريق كل صباح وهو السر والحكمة التي يعتادها”، كما كانت هي وشقيقتها عضوتين في الكشافة الإسلامية الجزائرية حيث كانت نفيسة قائدة.
رضا حوحو… عراب المجاهدة ليلى ومرافقها في صغرها
كان للأديب الشهيد أحمد رضا حوحو، دور كبير في المسار التعليمي للمجاهدة ليلى بلكحل، وقد وصفته بعرابها الذي رافقها كثيرا في صغرها، حيث كان الأديب يرتاد منزلهم رفقة أعضاء جمعية العلماء المسلمين ويعتبرها ابنة له، تسافر معه دائما خاصة إلى مدينة عنابة، حيث كان يلتقي هناك ببعض المثقفين حاملا حقيبتين، إحداهما كانت من أجل ملابسه وأخرى مملوءة بالكتب والمنشورات، وهي زاوية في حياة الأديب تقول يجهلها الكثيرون، حيث كان هو الآخر يحرض من أجل القيام بثورة تحريرية وتجنيد مجموعات مثقفة. وواصلت بالقول إن للأديب فضل في عضويتها في جمعية المزهر المسرحي التي يترأسها حوحو، وقد أنشدت في “أوبيرا” الجزائر، كما كان المسؤول عن ملء استمارة رغبتها في التخصص وهو من كان بجانبها حين تم الإعلان عن أسماء الناجحين ورفعها عاليا أمام المعمرين بفخر قائلا “برافو”.
ليلى.. من إضراب الطلبة إلى بداية عمليات الفداء
تمكنت المجاهدة ليلى بلكحل من النجاح في دراستها وكانت تحلم بأن تصبح صيدلية، حيث كانت من بين 15 تلميذة جزائرية ممن التحقن بثانوية الحرية العريقة في مختلف الأقسام رفقة المعمرين، وقد درست الفرنسية الكلاسيكية باللغة اللاتينية وكانت متفوقة، غير أن إضراب الطلبة الجزائريين في 19 ماي 1956 والذي كان أغلبه من الثانويين، أدى إلى توقف مسارها التعليمي والتحاقها بالثورة في سن مبكرة حيث بدأ منعرج الفداء يتكون في حياة المجاهدة ليلى بلكحل.
كان منزل والد الأختين نفيسة وليلى بلكحل عبارة عن مركز للمجاهدين في الاجتماعات بدءا من سنة 1955، كان يقصده أبطال الثورة من الرعيل الأول على غرار فيسلي أحمد المدعو “الرقيق” خرشي سليمان المدعو ” لاسو”، علي بسباس، حملاوي، الصالح دقيوس، إلى جانب رابح فيلالي كمال بن زراري، محمد بلمرخي وكانت مهمة الأختين في البداية هي الطبخ وغسل الملابس للمجاهدين، حين كانت تبلغان 17 و19 سنة، غير أنهما تأثرتا جدا بتلك الشخصيات وانضمت الشقيقتان إلى الثورة أواخر 1956 دون علم أي واحدة بالأخرى، وهذا تبعا لسرية الثورة التي كانت كنز وثمن نجاح الثورة، لكن سرعان ما تم اكتشاف سر نفيسة داخل العائلة بعد أن عثرت والدتهما على قنبلة داخل خزانتها، وقد كانت هذه الأخيرة على اتصال دائم مع عدد من المجاهدات على غرار مريم بوعتورة التي دخلت في الفداء سنة 1960 وطلبت من الشهيد مسعود بوجريو العمل في المدينة، هذا الأخير كان يعامل النساء المجاهدات بلطف جدا وكان قريبا جدا في التعامل مع نفيسة بلكحل التي كانت تحت إمرته في الولاية التاريخية الثانية المنطقة الخامسة، لتلتحق بها ليلى بعد أشهر وبدأت باقتناء الدواء والعمل كمرشدة والذهاب نحو مراكز البريد الخاصة بالثورة، فنقل الرسائل والسلاح وتلقي الأوامر في أية لحظة قبل بداية العملية الفدائية، ثم اندمجت في العمل الفدائي إلى غاية الثورة باستعمال الملاية أحيانا واللباس العصري مرة أخرى على حسب العملية المنجزة، حيث ذكرت أن قسنطينة معقل الفداء ولشدة ما وقع فيها كانت المدينة الوحيدة في الجزائر التي جندت نساء شرطيات من نساء وبنات المعمرين دون حتى أدنى تكوين مسبق لهن، غير أن مهمتهن مراقبة وتفتيش المرأة الجزائرية.
رحلة عذاب رهيب في سجن “أمزيان” لأفراد عائلة بلكحل
كان منزل بلكحل لعروسي ضحية خيانة كشفت عنهم، فجرجرت العائلة كلها إلى السجن، حيث مورست كل أنواع العذاب ضدهم وفقد والدهم إحدى عينيه إلى أن توفي بعد الاستقلال رافضا العلاج في فرنسا، فيما اتهمت نفيسة وأدخلت السجن ونالت ليلى أسابيع من العذاب الشديد قبل خروجها رفقة والدها، غير أن الأختين لم تتوقفا بعدها عن العمل ولم يثنيهما العذاب في سجن “أمزيان الوحشي”، والتحقت نفيسة بالكفاح المسلح في جبال جيجل، بعد أن انكشفت جماعة كانت تعمل سرا معها وذكر اسمها، حيث زودت الثورة بالسلاح في عديد المرات بسبب ذكائها في عمليات استثنائية، وأصبح النظام الثوري يخاف عليها بعد أن حامت حولها شكوك كثيرة وخطيرة، حيث قالت السيدة ليلى “خرجت نفيسة من المنزل دون أن تخبرنا إلى غاية وصول رسالة من عندها بعد 3 أيام من الجبال وأوصوا والدنا بأن يقدم شكوى عن اختفاء ابنته، وطلب البحث عنها وسجلت على أنها اختفت، وظلت في الكفاح المسلح إلى أن سقطت في ميدان الشرف في منطقة بني سبيح بالعنصر ولاية جيجل شهيدة رفقة مجموعة من الأبطال”.
مثلت الجزائر في كندا سنة 1967 وحملت أمانة وعهد مدة 62 سنة
قالت السيدة ليلى بلكحل في الأخير، شاءت الأقدار أن تزور أختها رفقة والدها يومين قبل استشهادها من أجل تزويد المجاهدين بمؤونة الأكل بعد أن نفدت، غير أن إحساسا غريبا انتابها وظلت فيه تريد معانقة شقيقتها والعودة لرؤيتها لثلاث مرات متتالية في وقت كان قريبا من وقف إطلاق النار، مستذكرة آخر عبارات وحديث تناولته مع شقيقتها. ليلى تقول “نفيسة بعد الاستقلال لن أفعل شيئا سآخذ حصة من النوم العميق لأيام تغنيني عن ليالي الخوف التي قضيناها”، ردت نفيسة قائلة “ما تشبعيش الرقاد يجب مواصلة ما بدأناه في (جزائر مستقلة)، نوصيك إذا استشهدت واحدة فينا يجب أن تقوم الأخرى بواجبها، وأنا إذا عشت سأقوم بواجبك وأنت نوصيك قومي بواجبي”، وهناك قالت السيدة ليلى “تحضينتها الأخيرة أريدها في الجنة مرة أخرى”.
السيدة نفيسة واصلت نضالها السياسي وحملت الأمانة لمدة 62 سنة، حيث مثلت الجزائر بعد الاستقلال في مؤتمرات دولية في كندا سنة 1967 على غرار لقاء “المرأة من اجل السلام” وكانت شخصية وحيدة مثلت الجزائر وناصرت الدولة الفلسطينية وتحدثت بقوة دون عقدة الخوف حيث أثارت الإعجاب وكتبت عنها وسائل إعلام دولية ولا تزال تشارك لحد الآن وبكل عزيمة في كل محطة تشرف الجزائر، المهم عندها أن تكون راية الجزائر مرفوعة.