الملك ينهي معاناة مزارعي القنب الهندي.. وهسبريس في قلب أرض “الكيف”
لا شيء يشي في مطلع صبيحة الثلاثاء بأن هؤلاء الجالسين تحت أشعة الشمس هنا بأرض “الكيف” بالريف المغربي “كلهم” على دراية بأن الملك محمدا السادس أنهى مآسي 4831 شخصا من المدانين أو المتابعين أو المبحوث عنهم في قضايا متعلقة بزراعة القنب الهندي، بعدما أسبغ عليهم عفوه بناء على توفرهم على الشروط المتطلبة للاستفادة منه. فها هي وجوه لا تزال حائرة، وأخرى تبدو مطلعة وتتخفى وراء فرح طفولي لا تبتغي تفجيره.
حين وصلت سيارة الطاقم الصحافي الخاص بهسبريس إلى “اساگن” قرب وسط كتامة، كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا. بدأ الفريق بالبحث عن أولئك الذين تغيّر قدرهم فجأةً ولم يعد ظهورهم بين الناس في حاجة إلى مغامرة “التخفي القسري”؛ أولئك الذين سيجرّبون العيش مرة أخرى “أحراراً” بلا مذكرات بحث وبلا ملاحقات أمنية. غير أنه لا أحد يؤكد أنه “يعرف أحداً منهم”. يقولون إنّ “النبأ مفرح حد الجنون، ولكن البرقية لم تصل بعد”.
ننتظر مع المنتظرين. الشمس تزداد سخونة. “فدادين الكيف” في كلّ الأرجاء، والروائح مختلطة هنا وسط كتامة. ليس كما تركناها في “إسكان”. السلطات المحلية تُقبل لتكشف الخيوط رويداً رويداً في كتامة “المهبولة”. تقول: “الاتصالات بدأت تهمّ المعنيين”. فولجنا إلى السوق للتنقيب عن “مبحوث عنه” يبحث بدوره عن صحّة الأنباء الجديدة ليتخلّص من لعبة المطاردة المُثيرة. وهكذا بدأت قصص الفرح تتغوّل: “أنا روشيرشي، واش صحيح داكشي؟”.
“نهاية مآسي”
صادفنا قرب السوق “م.ح”، مستفيد من العفو الملكي. قدِم إلى أمام الكاميرا مبتسماً ليضعَ بتصريحه لهسبريس، من أرض الكيف، نقطةَ نهاية لثلاث سنوات عجاف كانت ملامحها “جد متشنجة” يلخّصها بقوله: “ثْلث سنين ما تسوّقنا”. فتنتهي حكاية لتبدأ أخرى يفصل فيها السوق بعد نبأ العفو الملكي: “عادْ تسوّقنا هادْ النهار”. لكنه لا يتوقف عند “مشكلة التبضع”، بل يشخّص تعطّلا ما في “الأدوار الاجتماعية حين لا يجد مقدرة على زيارة الأهل في مدن أخرى”.
المتحدث المبتهج ذو العينين الزرقاوين، كشف أيضا محنة العيش في حالة تصدّع، غير معلن، مع الأمن. فلم يجد قطّ القدرة على تجديد بطاقة تعريفه الوطنية منتهية الصّلاحية، “تمشي لْعندْ البوليس يقبطوك يصيفطوك للحبس”. وسجل أنه حين يمرض أبنائه يرسله مع أحد الأقارب إلى المستشفى، وقال منتشيا: “اليوم أتطلع لعيش حياة جديدة بحول الله، أريد أن أشتغل في ضيعة مقننة تزرع القنب الهندي وأن أنخرط في هذا النادي الذي شيّدته السلطات ببلادنا”.
“ثلاث سنوات كنت فيها مكبّلا بلا قدرات كبيرة على التحرك”؛ هكذا يصف المستفيد من عفو العاهل المغربي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب قطعة منتهية من حياته. وأوضح: “وا مربوط أصاحبي، متقدرش تخرج حتى للفيلاج”، وتابع: “الموت أفضل من هذه الوضعيّة المهينة المنقضية. والعفو الملكي أنهى هذا المشكل، ليس لي فقط بل للآلاف من المزارعين الذين يعيشون هذه الوضعية، الذين يحتاجون إلى تأهيل لهذه الزّراعة ليمارسوها وفق المعايير القانونية الجديدة، فشكراً للملك”.
في النقطة الجغرافيّة نفسها تقريباً وسط كتامة، صادف فريق هسبريس “م. ل”، وهو مستفيد بدوره من العفو الملكي. تردّد قليلاً قبل الشروع في الحديث. قرر تقديم تصريح بعيداً عن الكاميرا تكريسا لوضع اللجوء إلى التخفي وإلى الظل الذي عاشه لمدة سنتين وهو مبحوثا عنه على ذمة قضايا متعلّقة بالقنب الهندي بدوره، موردا: “اللحظة هي لحظة حرية، وليس شيئا آخر. اليوم يمكنك الذهاب إلى الرباط وإلى الدار البيضاء ومراكش. نحن أحرار بعد أن كانت حريتنا موقوفة التنفيذ”.
وقال إن “المزارعين في المدينة كانوا محرومين من أشياء كثيرة، ولكنهم كانوا أيضاً يشعرون بالحرمان من العفو الملكي بعدما طال انتظاره لسنوات طويلة، وعاش الهاربون من قبضة العدالة سنوات من الخوف”، معتبراً أنها كانت “معضلة جماعية، بالنظر إلى كون المعنيين بها كثر ويصعب حصرهم ويصعب أحياناً حتى معرفتهم”، وزاد: “عديدون لا يكونون على بيّنة بأنهم في وضعية المبحوث عنهم، إلى أن يكتشفوا ذلك صدفة. قد يضع أحد شكاية كيديّة في حق آخر. هذه التهمة عملة رائجة يبتزّ بها الناس بعضهم هنا”.
وبنوع من الارتباك وكأن اللغة تعيد أدراجها لتتحفّظ بخصوص نقطٍ ما، لفت المتمتع بالعفو الملكي إلى أن الوضع نفسه ينسحبُ على بعض أفراد عائلته، مؤكدا أن “الضرر كان كبيرا خلال أزيد من 24 شهراً. والعفو كان خارج أفق النظر والتفكير. كل ما كان يُنتظر هو مرور مدة التقادم لتصير برقية البحث غير نافذة”، وخلص إلى أن “القرار الملكي كان نبأ سارا، رسم البهجة على وجوهنا جميعا، وأضفى فرحا كبيرا على أيامنا القادمة، لكونه كما قلت أخرجنا من محنة ساكنة وليس محنة أفراد”.
“تخلّص من وصم”
التقينا محمد المرابط بإساكن، وهو مزارع وفاعل جمعوي مطلع على الأنباء السارة منذ أمس. بدا منشرحاً لتحقيق مطلب ترافع عنه طيلة سنين طويلة: العفو، مؤكداً أن “الساكنة كلّها استقبلت بفرح غامر هذا القرار الملكي، الذي نعتبره خطوة تعزّز مسار بلادنا في التعاطي مع الملف الذي بدأ مع التقنين”، مسجلا بامتنان أن “العفو أسقط مجموعة من الهواجس التي كانت تسكن المزارعين الصغار ككوابيس متجسدة في ملاحقات أمنية ومتابعات قضائية”.
المرابط وهو يتكلم غير بعيد عن حقول تتزيّن بـ”العشبة” التي كانت إلى وقت قريب “محرّمة”، لفت إلى أن “أهل الريف سعداء بهذا المستجد؛ لكون العديد من ساكنة بني سدات وكتامة كمناطق أصلية لزراعة الكيف كانت أنشطتهم اليومية مؤجلة إلى أجل غير مسمّى”، مشددا على أن “هذا انتصار لما قلناه دائما بأن المزارع مكره لا بطل، لكونه ولد وفي فمّه هذه العشبة التي عليه أن يحافظ على استمرارها. والدولة التزمت بحل هذه المشاكل حين اتضح أن البديل غير موجود أمام الساكنة، وهو ما يحتاج خطوات أخرى”.
وتحدث المدافع عن حقوق المزارعين حدّ الفناء عن المتاعب الاجتماعية التي واجهوها، من قبيل “عدم قدرة بعضهم على تسجيل أبنائه في دفاتر الحالة المدنية، بكل ما لذلك من ضرر بحقوق الأطفال”، مبرزا “قسوة الخلوة اليومية في المرتفعات، وصعوبة العيش في حالة تخفي مطلقة رتيبة ومنهكة ولا جديد فيها”. واستدرك بالقول: “اليوم أُتيحت لهم الفرصة لمزاولة أنشطتهم العادية والاعتيادية وكآباء وأرباب أسر، وقد طالت مدة تريث هذا الحقّ لمدة سنوات طويلة… فشكرا للملك لكونه أنهى هذا النقاش”.
ودعا المرابط إلى اتخاذ العفو الملكي مقدمة لصفحة جديدة تدفن خلفها، بلا رجعة، الوصم والأساطير التي سادت عن الريف، وتحديدا عن كتامة، في أذهان المغاربة بأنها أرض للمحرمات، قائلا: “في هذا كثير من الحيف. يجب وقف جعل الكتاميين كلّ مرة مذنبين ومتهمين إلى أن تثبت براءتهم. لقد عانوا من التفتيش المزاجي والشك غير المبرر وغيره من الأشياء التي ننتظر بفارغ الصبر ألا يظل لها مكان. هناك حاجة لتحويل كل الحقول الخاصة بالقنب الهندي إلى ورشات قانونية وتقديم تسهيلات في هذا الغرض مع الحفاظ على تحريم أي استغلالات خارج القانون”.
“ساكنة تفرح”
رضوان العزوزي، عضو “تنسيقية أبناء بلاد الكيف”، كان من الساكنة المبتهجة بالمطلق بمصير مزارعي المنطقة وغيرها، إذ اعتبر أن العفو الملكي لأول مرة عن شريحة واسعة من المزارعين من شأنه أن يفتح المجال أمام تحجيم الدعاوى الكيدية، مسجلا أن “العديد من المزارعين أحيانا يتجهون لقضاء غرض إداري فيجدون أن مذكرة بحث قد صدرت في حقّهم، ويكتشفون لاحقا أن نزاعا شخصيا تم تغليفه بموضوع زراعة الكيف، وهذا يضرّ بقدرة أي مزارع على التحرك بأريحية حين يشعر كل مرة بأنه ملاحق من طرف الأمن”.
إن هذا الوضع، وفق ما أبداه العزوزي لهسبريس، “يحتاج إلى تعزيز المبادرة الملكية بتوفير الماء والسدود بالمنطقة لضمان إنجاح هذا الورش المتعلق بتقنين القنب الهندي الذي لم ينجح بهذه الرّقعة من الريف مقارنة مع تاونات أو شفشاون”، مضيفا أن “العدالة الحقوقية أصبحت واقعا بعد العفو، ولكننا نحتاج المرور إلى تحقيق العدالة المجالية، التي تبدأ بإجراءات توفير الماء بما يكفي أولا للشرب وثانيا للزراعة”.
ابن كتامة الذي كان يتحدّث لهسبريس وروائح القنب الهندي تنبعث من حوله، عدّ “المنتوج الكتاميّ من الكيف هو الأجود”، وفق توصيفه، مبعداً “أي نزعة تعصبية أو مغالطة”، وفق تعبيره، مبرزا أن “ما أصاب كتامة في السنين الأخيرة هو تدهور التربة التي لم تعد على درجة الخصوبة القديمة نفسها، وحتى الماء بدوره غاب كثيراً، وهو ما يمكن أن يكون واضحا في ضياع الأمطار التي لا يتم تخزينها في المنطقة لا في سدود تلية ولا عادية، وهذا مطلب حيوي يعزّز العطف المولوي”.
أمّا ابن المنطقة الباحث في التراث والآثار يوسف المساتي، الذي خاض نضالات طويلة من أجل التخلص من “عبء الجريمة” على “أهل الكيف”، فقد وصف قرار العفو بـ”التاريخي” الذي يعيد ترتيب علاقة الكتاميين مع “العشبة العجيبة” التي ولدوا ووجدوها تؤثث تواجدهم، قائلا بحماس كبير إن “العفو هو خطوة للتصالح مع المنطقة التي كانت محكومة بأن تبقى في الهامش لعقود ارتُكبت فيها أخطاء كثيرة على المستوى الحقوقي والقانوني وجعلت الوضع على شفير الهاوية، وبعد أن اتجهت الدولة إلى تقنين الكيف كخطوة كانت رئيسية كان يُنتظر تفعيل مطلب العفو”.
المساتي عدّ، في حديث لهسبريس، منطوق القرار “بمثابة خطوة أولى مفصلية نحو إنهاء رسمي، وبتدخل ملكي، للحيف الذي وقع على بلاد الكيف لعقود طويلة رغم أن الطبيعة والبيئة الزراعية هما اللتان حددتا المزروعات وليس الساكنة بشكل حصري”، معتبرا أن “من شأن هذا الأمر أن يفتح المنطقة أكثر ويخلق مناخا من الثقة تحتاجه الجهة كلها لإنجاح مشروع التقنين الذي مازالت نتائجه غير واضحة إلى حد الآن، رغم أهميته كورش كبير دعمناه كأبناء المنطقة وترافعنا عنه ووضعناه في قلب أوراقنا المطلبية”.
وتكريساً للقراءة الأخلاقية في بعدها التعاقدي بين الساكنة والسلطة بشكل عام، قال المتحدث إن “العفو خطوة نحو إعادة بناء حقيقية وعميقة لعنصر الثقة؛ فلا يجب أن ننسى أن هذه المنقطة، وإن لم تشهد انتفاضات أو تمردا، كانت علاقتها بالسلطة الإدارية والأمنية وسلطات المياه والغابات تعرف شروخا حادّة بسبب تراكمات تاريخية مطبوعة بالخوف وعدم الثقة”، منطلقاً من هذه المعاينة لاقتراح التوجه نحن الاتفاق على ميثاق اجتماعي وتمتين الإحساس بالاعتراف بالمنطقة منتجة وداخل النسق الاجتماعي المغربي ككلّ وليست خارجه”.
“تحفيزات واجبة”
بما أنها المرة الأولى التي يستفيد فيها مزارعو القنب الهندي من العفو، فقد سجل محمد بوسلال، المدير الإقليمي لفرع الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي بالحسيمة، أن “القرار الملكي له آثار اجتماعية تتجاوز المعنيين به مباشرة لتمسّ إيجاباً مصلحة عائلاتهم ومجتمعهم الصغير والكبير”، مبرزا أن “هؤلاء المزارعين كانوا قد مارسوا سابقا أنشطة غير قانونية، ولكن الوقت قد حان ليندمجوا ويلتحقوا ببقية زملائهم الذين انخرطوا في القانون رقم 21.13 الذي سيفتح أمامهم أبواب الاستعمال الطبي والصناعي”.
وأضاف بوسلال، ضمن حديث لهسبريس، أن هؤلاء المزارعين راكموا تجربة وخبرة في مجال التعامل مع القنب الهندي؛ هذه الخبرة سيكون لها الوقع الإيجابي الكبير على تجربة التقنين حين تقدم للمعفى عنهم التحفيزات والتشجيعات لإنجاح جماعي لهذا الورش”، معتبرا أنهم سيلتحقون بدورهم بركب من آمن بالمشروع منذ 2021، وهذه ستكون إضافة مميزة وقفزة نوعية لمشروع التقنين وسيكتمل الصرح وسيُمنح المشروع دفعة قوية.
وتفاعلا مع أسئلة نقلتها هسبريس بخصوص توجس هؤلاء المزارعين حيال “غياب العدالة المجالية فيما يتصل بالمناطق التي تزرع الكيف وغياب الماء بالكمية نفسها بها”، قال المتحدث إن “المغرب يواجه ندرة حقيقية مثله مثل باقي دول العالم، لا سيما من حيث الموارد المائية”، مضيفا أن “الأولوية قبل القنب الهندي يجب أن تكون هي تأمين إمدادات المياه الصالحة للشرب إلى كافة المغاربة حتى نخرج من هذه الوضعية القاسية المتسمة بالشح والندرة”.
وتحدث المسؤول المذكور عن عملية استصدار الرخص على مستوى الحسيمة التي يتم فيها منح تمييز إيجابي لهؤلاء السكان بخصوص توفير آبار داخل حقول “الكيف”، مبرزاً أنه “بمجرّد ما يحصل المزارع على ترخيص من الوكالة الوطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي، تباشر مصالح وكالة الحوض المائي تفعيل المعايير الاعتبارية من أجل تمكينه من رخصة ثقب مائي، في ظل شروط تحترم القانون والوضعیة المائية التي نعيشها”.
المصدر: هسبريس