“ألوان الشر” .. فيلم بولندي يخرج عن التقاليد الجمالية لسينما أوروبا الشرقية
ما مصير الشابة التي تلقي بنفسها في أحضان أول شاب تصادفه في أي مكان؟ مشكوك أن تتجاوز سن العشرين بسلام.
إليكم سرد حالة إثبات في فيلم بوليسي بولندي (Colors of Evil: Red 2952024 للمخرج أدريان بولاك) يطبق التعاليم المكرسة لمؤسسة “establishment” الصناعة السينمائية، وهو بذلك يخرج عن التقاليد الجمالية لسينما أوروبا الشرقية.
وقع اللقاء في “نادي حوض السفن”، هنا مكان لقاء الشبيبة. لاسم المكان صدى في تاريخ بولندا ومدينة غدانسك على بحر البلطيق (هنا صور فايدا فيلمه الرجل الحديدي 1981).
يعشق الكهول بنات الأغنياء الغلاميات اللواتي لا يتناولن الكثير من الخبز، لذا تبقى قاماتهن مستقيمة كمسطرة وقد تصير هذه الفتنة مصيبة. ما أخطر المجرمين المخصيين.
ماذا نسمي الزائرة الدائمة لحانة ليلية؟
عاهرة.
هل يبرر ذلك قتلها؟
لا.
لا تهتم الشرطة بمهن البشر بل بحماية حياتهم. لذلك، فأفلام قتل النساء بالتسلسل أكثر تشويقا. كانت الشابة تحتاط من الغرباء فأصابها الأذى من أقرب الناس.
القتل هو الجريمة الأكثر إثارة للاهتمام. يزيد الدم المسفوح من نسبة المتابعة في السياسة والدراما. صارت بولندا أكثر يمينية في عام 2023. دون سلطة الدولة الحديثة ستعود النساء إلى زمن العبودية الأكثر بشاعة.
حسب خصائص النوع تبدأ الأحداث من النهاية كما في كل فيلم بوليسي. تبدأ ما بعد الجريمة المروعة التي تبرر الاستماتة في التحقيق.
من هنا تتوالد قصص موجزة، بعضها متضمن في بعض مثل تقشير طبقات البصل، خلف كل قشرة وقصة هناك قشرة أخرى وقصة. يُمَكّن هذا التعقيد من تمديد التشويق الذي تحتمل خفته. يتزامن تحقيق علمي وعنف مافيوزي منفلت. كان المحقق البوليسي شيرلوك هولمز عالم كيميائي يملك جوابا علميا عن كل واقعة. لا مكان للخيال في المحاكم.
تجري عملية تشريح اكلينيكي لبقايا الجريمة. لتغيير النبر والموضوع تقحم معلومات صغيرة من حياة المحقق للتخفيف من التركيز على الجريمة… بعدها يتم تشعيب البحث لتضليل المشاهد وتشويقه. يتم اكتشاف الأدلة والتحقق منها… لأنه قد يجري تحريف جريمة لطمس معالمها ولتضليل المحققين.
ممنوع في فيلم بوليسي اكتشاف السر والمجرم الحقيقي في الساعة الأولى. يتم افتعال التوتر مع أشخاص لا صلة لهم بالجريمة لدفعهم لتقديم معطيات… تبدأ المطاردات بعد ساعة فيشتد التشويق في إطار خصائص النوع الفيلمي.
وينهي الفيلم بجائزة كل محقق ماهر، وهي كشف الدليل القاطع الذي يلقي بالمجرم في السجن إلى الأبد… تحققت هذه الخطاطة في الفيلم، وهي معايير معتمدة من المنتجين الكبار ومنصات البث (establishment الصناعة السينمائية) التي تستهدف ملايير المشاهدين.
أكرر ملايير.
تعتمد نيتفليكس نمط حكي بصري وسمعي المشاهدين. ليس صدفة أن لديها 282 مليون منخرط في منتصف 2024، أكثر من نصفهم نساء. كل منخرط أربع شاشات.
لهؤلاء قدم المخرج البولندي تحقيقا إخباريا بصريا وسمعيا شديد التواصل يستجيب لمعايير إيقاع السينما الأمريكية. سرد بأسلوب خفيف يخالف اللمسة النضالية لمؤسس السينما البولندية المخرج أندريه فايدا.
وهذا يطرح سؤالا: ما الذي يحصل لسينما بلد ما حين تحتضن وتمول نيتفليكس مخرجيه؟
على صعيد الموضوع تصير الأفلام عبارة عن جرائم وتحقيقات. على صعيد الأسلوب يصير سرد حكاية خطية مشوقة سريعة الإيقاع ضرورة فنية.
في زمن العولمة تتشابه المجتمعات فتتشابه حكايات الجرائم ومناهج التحقيق وتتعولم، فكيف يحتفظ المخرج الفنان بفرادة حكايته وإيقاعه وأسلوبه؟
هذا هو التحدي.
يبحث المبدعون عن التمرد على التقاليد المكرسة لإبراز بصمتهم الفنية ويحتاجون للاشتغال وفق معايير “establishment” لكي يكسبوا المال والشرعية الجماهيرية.
بهدف نقل نسب الفيلم من كاتب السيناريو إلى المخرج، تساءل أندري بازان: كيف يعكس أسلوب الإخراج وبنيته وجهة نظر المخرج؟ مع ملايير دولارات نيتفليكس سيصير السؤال: كيف يعكس أسلوب الإخراج وبنيته وجهة نظر المنتج؟
حمار سكوليموفسكي
لقد حرص المخرجون البولنديون طويلا على أسلوبهم. ما هو الأسلوب غير النيتفليكسي في السينما البولندية؟
يمثل فيلم “رحلة الحمار الساخر” (EO) 2022، للمخرج العجوز جيرزي سكوليموفسكي، مثالا جيدا. عرض فيلم سكوليموفسكي في مهرجانات كثيرة وكتب عنه النقاد الذين يناسب ذوقهم الفني وهم خصوم أوليغارشية الذوق النيتفليكسي.
يرصد حمار المخرج الحماقات البشرية التي ترتكب بثقة… عرف الحمار السيرك وهو فضاء يتعايش فيه خليط من البشر والحيوانات.
للحمار مكانة كبيرة في الدين وعريقة في الأدب.
كان الحمار الماسخ لوكيوس أبوليوس 170م يتجسس على البشر. رصد الحمار حماقات سيرتكبها راكب الحمار المرافق لدون كيخوته. كان الحمار هو رمز البراءة مثل أبله الروائي دوستويفسكي الذي يطربه نهيق الحمار. حسب حديث نبوي ينهق الحمار عندما يرى شيطانا.
كان حمار سكوليموفسكي (1938) وسيلة المخرج المعاصر لأندري فايدا (19262016) للتأمل بسخرية وعبث. تأمل في لقطات طويلة تتفلسف ولا تحكي. لقطات لا يحتمل ثقلها.
لم يجذب تصوير سكوليموفسكي للحمار الخام دون مؤثرات بصرية المشاهِدات ذوات الذوق المعولم. إن (EO) ليس فيلما مشتبكا مع العولمة مثل التحقيق البوليسي المشوق عن الشر الأحمر في الشفتين.
شر أدريان بولاك
في ظل هذا التعارض الأسلوبي والتجاري، ما الذي سيحصل لسينما بلد ما حين تمول وتحتضن نيتفليكس مخرجيه؟
غالبا تفقد إيقاعها الريفي الفلاحي التأملي، لكن في صراع نهج سينما المؤلف وونهج سينما الجماهير. مهما كان التمويل شرسا يمكن للمخرج المتمكن من تمرير أسلوبه.
لتجنب التعميم، ما مدى قدرة أولئك المخرجين عشاق الاستقلالية الفنية على تبني إيقاع السرد النيتفليكسي وفي الوقت نفسه المحافظة على أسلوبهم ونظرتهم للسينيماتوغرافيا؟
هذا هو الجواب انطلاقا من فيلم أدريان بولاك:
ابتكر المخرج المكان بواسطة الكاميرا. تعكس جمالية حركة الممثلين معنى اللقطة ومؤداها السوسيولوجي. جرى التصوير في أمكنة ذات هندسة راقية. يجعل الديكور البرجوازي الدوافع الاقتصادية للجريمة غير مبررة. يلجأ المحقق إلى محلل نفسي فيكشف له أن المختلين عقليا لا ينتحرون. فقط العقلاء ينتحرون.
يملك المخرج البولندي مهارة استخدام المكان دلاليا لتشخيص وضع وكيل نيابة يعتمد على شرطة مخترقة. تجادل موظفان عن منهج العمل. واحد يريد كشف الحقيقة والثاني يريد تنفيذ أمر رئيسه.
في اللقطة الموالية مكث الموظف الأول في مكانه تائها بينما صعد الثاني السلم الرخامي بثقة. هناك فساد مؤسسي يغطي جرائم شخصية. المصلحة متبادلة.
المصدر: هسبريس