فرنسيون خططوا لإبقاء أجانب الصحافة والنشر بعد استقلال المغرب
“سواء أردتُ ذلك أم أبيت فقد اقترن اسمي في أذهان الناس بميلاد وتطور مؤسسة سبريس، ليس فقط لكونها تختزل أكثر المراحل عطاء في حياتي، بل لأنها تعكس أيضا الشكل الرائع الذي اتخذه عشقي لمجال الصحافة والنشر، ثم لأنها كانت أكثر مغامراتي المهنية والإنسانية كدّا وجهدا، وأكثرها مدعاة للارتياح والاعتزاز”، بهذه الكلمات افتتح محمد عبد الرحمان برادة الحديث عن تجربته في النشر، بسيرته “شغف وإرادة: رهان في الإعلام والثقافة والسياسة”.
لا يوثّق برادة في مذكراته الجديدة فقط قصة موزّع وناشر وصحافي قضى العقود ميسّرا وصول صفحات “صاحبة الجلالة” إلى قرّائها، بل يسرد قصّة محطّة سعي إلى التحرّر من الاحتلال الثقافي، بعد خروج الاحتلال السياسي الأجنبي، وصيانة الصحافة الوطنية، ودورها، ومحاولة تعميم ثقافة القراءة والمعرفة؛ كما ينقل تفاصيل نقاشات متعددة، مازالت كثير من خلاصاتها ذات راهنية، خاضها عبر العقود في العديد من أنحاء العالم، وكان في بعضها المغربيّ الوحيد، أو المغربيّ المبادر، حول الصحافة، ودورها، ومسؤوليتها، وعوائقها، وعوائق الثقافة والاستقلال.
وفي هذه المذكرات جزء من تاريخ المغرب خلال الاستعمار الأجنبي، ومقاومته، ثم بعد الاستقلال، واستكمال الوحدة الترابية، يسردُه شيخا برادة، وهو يتذكّر، وقد جاوز الثمانين، ذاكَ الطّفل الوجديّ الذي كانه، ثم الشاب الذي درس العربية ودرّسها، وتكوّن في الصحافة، وترقّى في صفوف شركة “شوسبريس” الفرنسية التي كانت تستفرد بسوق توزيع ونشر الصحف بالمغرب، إلى أن صار أول مغربيّ يشغل منصب مدير تجاريّ بها، قبل أن يؤسّس مناهضا “إستراتيجيتها في الغزو الثقافي الأجنبي” أول شركة توزيع مغربية، بمساندة من أبرز وجوه الصحافة الوطنية الحزبية بالمغرب في النصف الثاني من القرن العشرين.
ويقدّم عبد الرحمان برادة شهادة دالّة حول إستراتيجيات الهيمنة الثقافية: “المهام الموكولة لي باعتباري مديرا تجاريا جعلتني أكتشف وضعا غريبا وغير طبيعي: معدل مبيعات الصحف الوطنية كان متدنيا جدا وهزيلا مقارنة مع ما كانت تحققه نتائج الصحف الأجنبية. اكتشفت كذلك أن الفكر الاستعماري والثقافة الفرنسية بقيا متجذرين ومؤثرين، بعد أن حصلنا على الاستقلال منذ 1956″، وأضاف: “كان وضعا غير طبيعي وجد معقد، هدف بالأساس إلى خنق الصحافة الوطنية والعناية بالدرجة الأولى بالمطبوعات الواردة من فرنسا بكميات كبيرة وبأسعار يتم تحديدها لكي تصل إلى أكبر عدد ممكن من القراء. كانت الصحف اليومية، مثل جريدة ‘لوموند’، غالبا ما تباع بأسعار أقل من سعرها بفرنسا، رغم التكاليف الباهظة لشحنها جوا حتى توجد في السوق المغربية متزامنة مع فرنسا”.
وزاد الكاتب ذاته: “واجهتُ تعقيدات إضافية تفرضها الشركة الفرنسية، منها أن أي طلب لفتح نقطة جديدة لبيع الصحف يجب أن توافق عليه الشركة الأم في باريس! وفي غالب الأحيان لا تقبل طلبات جديدة لفتح منافذ أخرى لبيع الصحف حتى لا تنتشر الصحف الوطنية في مختلف الجهات، التي لم تكن تعنيها الصحافة المستوردة والفرنسية على وجه الخصوص”، وتابع: “في ظل هذا الوضع الغريب والمتجاوز كان مسؤولو الشركة الفرنسية يتبعون سياسة ‘فرّق تسد’، كما كانوا يتعاملون مع المواطنين بعقلية ‘المغرب النافع والمغرب غير النافع’، إذ كانت الصحف توزّع فقط بالمدن الرئيسية للمملكة، خاصة الدار البيضاء والرباط، في حين بات قراء الصحف بالمغرب العميق من مدن صغيرة وأحياء شعبية وجهات بكاملها محرومين من الجرائد بدعوى أن توزيعها لا يدر على الشركة أي أرباح (…) فالهدف كان تجاريا محضا، وكان المهم أولا وأخيرا هو تحقيق أرباح وتعزيز الوجود الإعلامي والثقافي الفرنسي”.
واسترسل برادة: “لم يكن يهم الشركة الأجنبية أن تباع جرائد مغربية مثل ‘العلم’ و’المحرر’ و’البيان’ حتى في المدن المغربية الرئيسية، لأن هاجسها الأساس هو انتشار الصحافة الفرنسية، ولم يكن الغرض من التوزيع هو تشجيع وتنشيط سوق الصحافة بالمغرب، بل كان الهدف الأساس أن تظل الصحافة الفرنسية تحتكر مجال الإعلام والاتصال، وتستمر في الهيمنة على السوق ضدا على الفكر والصحافة الوطنيين”.
ولِيَشرحَ برادة عمق الثورة التي حدثت في سياق المغرب آنذاك بتأسيس شركة توزيع مغربية تهتم بما يحتاجه القارئ المغربي، لا ما يطمح إلى الحفاظ عليه المستثمر الأجنبي، عاد إلى تاريخ الصحافة بالمغرب: “كانت المؤسّسة الوحيدة التي تنفرد بتوزيع الصحف والمجلّات والمطبوعات شركة من مخلّفات الحقبة الاستعمارية. وحين جاءت الصحافة الوطنية، وشرعت في مواجهة صحافة ‘ماس’ الموروثة هي الأخرى عن فترة الاستعمار، وكانت تنعت الفدائيين والثوار الوطنيين بالإرهابيين والقتلة، لم يعد مستساغا أن تكون الحركة الوطنية موجودة وحاضرة وفاعلة في إنتاج وإخراج وإصدار الصحف، دون أن تمتد هذه الدينامية إلى مجال التوزيع”؛ ثم أردف قائلا: “اعتبرتُ ومجموعة من الشباب مثلي من ذلك الجيل الذي ترعرع في أحضان الحركة الوطنية أن هذه الشركة تعتبر من بقايا ورواسب المرحلة الاستعمارية وإحدى تركاته، وأن استمرارها يعد غزوا ثقافيا أجنبيا، في إطار السعي إلى تكريس تغلغل الفكر الفرانكفوني في بلادنا”، كما عاد في صفحات لاحقة ليكتب، بعد بسط تفاصيل مثيرة للاهتمام: “من هنا تأكَّدت لديّ ضرورة التخلص من استمرار الوطن مرتبطا فكريا ببلد أجنبي، مشدودا إلى ثقافته وتابعا له سياسيا واقتصاديا”.
وقدّم محمد عبد الرحمان برادة مثالا دالّا: “كانت ‘سوشبريس’ توزّع في المغرب أزيد من 300 صحيفة ومجلة فرنسية تعنى بالأطفال فقط، وبالمقابل لم تكن المجلات التربوية المغربية متوفرة لعدم قدرتها على الصمود في وجه المنافسة غير المتكافئة: فصحيفة الطفل الأجنبية كانت طباعتها بالألوان، وكانت أسعارها التفضيلية في متناول الأسر وأقل من سعرها في بلدها الأصلي. وبذلك لم يكن ممكنا للمبادرة المغربية أبدا أن تقاوم هذا الوجود الأجنبي، الذي (…) لم يكن همّه الربح بل المزيد من الهيمنة وتخدير العقول، بترويج الثقافة الأجنبية بألوانها الزاهية وأسعارها المغرية”.
وتحكي المذكرات تفاصيل اللقاءات السرية التي جمعت برادة بمدراء أبرز الجرائد الحزبية المغربية، من قبيل عبد الكريم غلاب، وعلي يعتة، ومحمد اليازغي، وعبد الحفيظ القادري، والإستراتيجيات، والصعوبات التي رغمها خرجت للوجود أول شركة توزيع مغربية من بين أولوياتها انتظارات الناشرين والقرّاء، لتصير في ما بعد المؤسسة الأولى في قطاع النشر والتوزيع والصحافة بالبلاد، مع ما رافق ذلك من تحجيم للمجموعة الفرنسية المحتكرة سابقا للسوق المغربية، ثم انصهار هذه الأخيرة في الشركة المغربية، رغم تأسّف الشاهد على هذا القرار.
ومن بين ما يرد في المذكرات تطرّق لتجربة ترؤس برادة لجنة أخلاقيات برامج “القناة الثانية” المغربية، التي مع حديثه عن التفهم والمساعدة والتشجيع من إدارة القناة، أثبت توصيات وملاحظات، منها: “بما أن للجمهور الحق في جودة البرامج فإن تلك الجودة تعتبر بعدا من أبعاد الأخلاقيات، حماية لحق المواطن في الجودة. ويترتب على ذلك واجب قناة عمومية في حماية هذا الحق”، وملاحظة وجوب “وضع مقتضيات توجيهية لاستعمال اللغات في القناة”؛ لأن “الخلط بين اللغات (عربي، فرنسي، دارجة)، في التداول، وتحريفها، واستعمال لغة هجينة من طرف المنشّطين، إساءةٌ للغات، ولسياسة التعدد اللغوي التي تتبناها القناة”.
ويشهد برادة في الكتاب على مبادرات ولقاءات محطات عديدة، من بينها مبادرته سنة 2006 في جمع كافة الطيف الصحافي المغربي، خاصة الورقي، لمناقشة أوضاع الصحافة المغربية، في لحظة هي الأكبر بعد “المناظرة الوطنية الأولى حول الإعلام” المنظمة سنة 1993: “كان حوارنا المهني في هذه الندوة بلا سقف، ولا خطوط حمراء، لكنه كان حوارا مسؤولا اتسم بالصراحة والجدية والجرأة، بحيث لامس جوهر الإشكالات التي واجهتها صحافتنا، سواء منها الناطقة بالعربية أو بالفرنسية. وككل الأشياء الجميلة التي تعاكسها الأقدار لم يكتب لأحلام تلك الندوة أن تتحقق وترى النور، لاعتبارات وظروف ومواضعات، لم يعد من المفيد اليوم الرجوع إليها والخوض فيها. وظل الحلم حلما”.
المصدر: هسبريس