“فارة المسك” .. الميلودي شغموم يفكّ الأسرار التي تثير العقول وتجذب الأرواح
1
كل كاتب يرهنُ قلمه للكتابة الأدبية تلزمُه المهارة والموهبة، بدونهما لا يكتبُ إلا كلاما مُلفّقا ومُرصّعا، فجّا ومُكررا بدون فكر أو خيال.
في كل مرة أقرأ فيها أدب الميلودي شغموم، أو أعيد قراءته، يتأكد لي أنه كاتب ذو موهبة خلاقة، ومهارة أدبية تتميز بالقدرة على ابتكار أفكار جديدة وأصيلة وبأسلوب فريد؛ يتأكد لي أن كتابته الروائية منشغلة دوما بقلق الوجود حين تستعيد حيوات بسيطة في الظاهر، لكنها في العمق مشدودة لأزمنة ملتبسة تلقي بها في مناطق من قلق يكدّر عليها صفْوَ الأيام والليالي.
لشخصيات الميلودي شغموم الروائية والقصصية ظاهر وباطن، تحيا في عالم منشطر وملتبس، ولذلك يتوزعها همّان أساسيان: التفكير في هويتها وسط عالم متناقض تكون فيه مجبرة على البحث عن معنى وجودها وتحديد مكانتها في هذا العالم المتشابك؛ وصراعها الدائم مع ذاتها لتجد نفسها في حالة من التوتر بين الرغبات والأوهام والوضع الاجتماعي الضاغط والآمال المستحيلة، لنتأكد من ذلك لنا أن نقرأ بفرحٍ ذخيرة غنية من السرود والتلوينات الحكائية في: “أشياء تتحرك”؛ “الضلع والجزيرة”، “الأبله والمنسية وياسمين”؛ “عين الفرس”، “مسالك الزيتون”، “شجر الخلاطة”، “خميل المضاجع”، “نساء آل الرندي”، “الأناقة”، “أريانة”، “المرأة والصبي”، “فارة المسك”؛ “بقايا من تين الجبل”، “الليالي القمرية”، “طوق الألاف”، “ريالي المثقوب”، “نجمة ترقص معي”، “سرقسطة”، “أرانب السباقات الطويلة”، “كليلة ودنيا”.
بهذا الاعتبار، يُعلي الميلودي شغموم من أهمية الوجدان في تركيب العوالم ووصف الأحوال، فيكون رهان القارئ الاهتمام بالأبعاد الفكرية لهذه الرواية أو تلك من أجل فهم هشاشة الكينونة أمام ما تحياه من أوضاع، لنتأمل ما قاله بطل رواية “الليالي القمرية” فهو يلخص هذا المنحى بشكل واضح: “ما معنى أن أنام وأنا نائم، أشاهد نفسي أنام وأنا نائم بالفعل…”، ولنتأمل أيضا سؤال شخصية دليلة في رواية “كليلة ودنيا” :” أعرف أنه لا يشغلني كما لا يشغلك سوى سؤال واحد: لماذا ولدت؟”؛ الوجدان ببعده الفلسفي مدخل أساس لقراءة التجربة الروائية للميلودي شغموم في أبعادها الواقعية والغرائبية والسحرية والأسطورية….
2
اخترتُ للتمثيل لما سلف أن أقدم لك قارئي العزيز رواية الميلودي شغموم “فارة المسك” والتي تنشد حكايتها على غرار روايات سابقة له، عالما حكائيا مليئا بانفعالات شخصيات تحوّل حالاتها الوجودية إلى لعب سردي يلاحق الرّغبة، ويجعلها تتأسّى على قدَرٍ لمْ يمنحها إلاّ التّوتّر، ولم يحملْ لها إلا هموم الوقت.
من ذلك، هَمُّ سارد الرواية كمال عبد العالي، أستاذ السلك الأول بإعدادية علال الفاسي الذي أحب ابنة عمته سميرة، ورغب في الزواج بها، ليس لأن القدرَ ذاتَه ضمِن له ولها النجاة من الرصاص الطائش الذي غلف سماء الدار البيضاء، عقب الأحداث الشهيرة لعام 1965، وحوّل أمه إلى صورة ممزقة واستعارة مشوّهة: صورة الرصاص وهو يشتت أمعاءها التي تطايرت في الهواء نحو الشمس الصفراء، وحوّل أمها إلى مجرّد يدٍ مبتورة تدحرجت من مرتفع الزقاق إلى أسفله حتى سقطت في مجرى الوادي الحار، (الرواية ص 62)، بل لأنه يحتاج فقط إلى وجهها الفرِح. كانا يكبُران، ولم يكن يجد ما يعوّض به حبّه لسميرة إلا الحبّ نفسه؛ وقد أضيفُ إليه تعب الليالي العارمة منذ علم أنها تزوجت بأستاذ الفيزياء وهي في الثانية ثانوي. سألها يوم زواجها كيف حالكِ؟ أجابت: سعيدة. ثمّ طلبت الطلاق وهي في معركة الاستعداد للباكالوريا سنة 1972. بعد حصولها على الشهادة سألها مرة أخرى: هل نتزوج الآن؟ ردّت بابتسامة غامضة: لستُ جاهزة الآن.
بين كينونة تحيا حياتها بقلق، وأخرى تحياها بشموخ وروح مرتعشة يتقاطع مصير كمال وسميرة على امتداد أحداث الرواية؛ كان هو يتصوّر أنها ستلتحق بمدرسة المعلمين أو بالمركز التربوي لتتخرج معلمة أو أستاذة للسلك الأول، لكنها اختارت كلية الطبّ ورحلت إلى الرباط. بعد ثلاثة أشهر طلبت منه لقاءً من أجل أمر هامّ. أثناء ذلك قدمته لرجل في الخامسة والثلاثين: “بنجلون عز العرب، طبيب جراح، زوجي”.
من زواج إلى آخر، ومنه إلى العيش مع عشيقها محمد الذئب، تبدو سميرة في الرواية، شخصية يحلو لها الإقامة على مشارف التيه؛ لا تقصدُ التخفيّ رغم أن كلامها يأتي أحيانا مباشرا لا مشفرا أمام البلاهة اليومية أو الغفوة الطارئة؛ وفي كلّ مرة تجد من يصدّقها: كمال. تسترجع الثقة لأنها تؤمن، في القرارة، أن لكلّ عُمْرٍ شوقهُ وحُرقتُهُ؛ فنحن لا نتحمّل مسؤولية أنفسنا كاملة، دائما، وكل ما يحدث لنا يقعُ لأننا نريده، فعلا، أو لا نرغب في تجنّبه… (أو) لأننا نعبر العالم كما نعبر الحلم، وليس العكس، (الرواية ص 42)”.
3
يبدو كمال عبد العالي في الرواية متقلّبا بين التشبث بأمل، والترنّح على حافة الصّبوة. ولكي يستمرّ واقفا في مواجهة الحياة، خلق لنفسه ظلا يتعذب، يبكي، وآخر يتلذّذ، ويضحك (الرواية ص 47). يترك مصيره للصدفة وهواهُ أمل ضاعَ منه وتباعدَ. في كلامه كما في صمته ندمٌ وخجلٌ:
“ يا سميرة، إني نادم على كل ما فعلت معك ولكم أخجل من نفسي على كلّ هذا.
وماذا فعلت بالضبط، يا كمال؟
حين رأيت الآخرين يشتهون جسدكِ أخذت أشتهيه معهم، كأني واحد منهم، وزدت على ذلك بأن حوّلتكِ إلى مجرّد جسد فتحالفت معهم، ضدّكِ، ومع الوقت”، (الرواية ص 115).
أصبح التحالف عند كمال عبد العالي رديف الاكتئاب وافتعال المأساة. بقي عالمُه مشمولا باللوعة والحرقة، مشدودا إلى زمن طفولي كانت فيه سميرة زوجته بالفعل وبالحلم؛ كان لهما بيت، ولدٌ وبنت: أحمد وأمينة، (الرواية ص 115). وعلى امتداد أحداث الرواية، يودّ كمال أن يعرف قلبه، أن يعرف نفسه. صوْتهُ في الرواية تنهيدة ومجرد ذكرى. وحين يسكُبُ الْتِيَاعهُ أمام سميرة، يُصدمُ حين تسأله ذات يوم: “لماذا تؤمن إلى هذه الدرجة بالحُبّ كأنه موجودٌ بالفعل؟”، (الرواية ص 49).
هل يحتاج كمال لكي يجيب على سؤالها إلى نبوءة تبدّد حيرته وتصقل ما في نفسه من صدأ؟
ربّما.
لكن أقصى وأقسى ما فكّر فيه ساعتها كان أعمق وأعْقد: “قد يبدو الحبّ هو ما ينقصني، منذ الطفولة، واستمرّ هذا النقص معي إلى الآن، (الرواية ص 49). ورغم ذلك، ظلّ كمال يرفض المجازفة بأحلامه، ويأبي، في الآن ذاته، السكوتَ عما يهجس بداخله متحسّرا، كأنه لا يطلبُ إلا الشجن، لا يريد أن يثأر إلا لحبه لسميرة.
4
في كلّ علاقة حُرقة. في كلّ علاقة فجْوة من المجهول. تصنعُ العلاقةُ مصيرها، وتأكلهُ كما تأكل النارُ الحطب.
ولذلك، تبدو فصول رواية “فارة المسك” للميلودي شغموم وكأنها فهم لعلاقة كمال بسميرة، وتفسير للُغز “اللاّعلاقة” حين تعني فقط: التجرّد من العاطفة.
تبدأ الرواية بما يمكن أن يكون نهايتها. تبدأ بتقنية معروفة في الروايات البوليسية: تقديم الجريمة. أيةُ جريمة؟
“مع نهاية الألفية الثالثة تناقلت الصحف الوطنية، وعلى مختلف صفحاتها، الخبر التالي:
“طبيبة تقتل عشيقها ثمّ تنتحر”، وكالعادة تكاثرت التعليقات والتأويلات وتباينت خاصة منذ أن عرف أن القاتلة طبيبة أخصائية، اسمها سميرة القط، اشتهرت وهي لا تزال طالبة في كلية الطب، بلقب “زوجة كبار الأساتذة” وأن القتيل فنان تشكيلي مغمور، اسمه محمد الذئب، كان يعيش في باريز، على حساب النساء، قبل أن يصبح عشيقها ويعود معها إلى المغرب…”، (الرواية ص 5).
سميرة تقتلُ عشيقها وتنتحر.
مهوى حتمي لعلاقات ملتبسة. ويبقى قلْبُ كمال مفتوحا وبدون أسرار، يبقى مُصِرّا على مقاومة الإحباط والإخفاق حتى وهو يفيق من البنْج بعدما أجريت له عملية جراحية على القُولُون؛ كأنه يعود من الموت، أو يحتضر.
يهذي، يحلم، يتذكر …
لعلّه يجدُ شيئا يُبْقيه حيّا، وإلى حين…
اقرؤوا “فارة المسك”… لن تندموا على ذلك!
وإلى حديث آخر.
المصدر: هسبريس