فاعلون يناقشون ظاهرة التشهير الإعلامي
نقاشٌ مستمر حول التشهير عبر وسائلِ إعلام بالمغرب، استقبل أحدث أطواره مقر النقابة الوطنية للصحافة المغربية بالرباط، اليوم الثلاثاء، وشارك فيه صحافيون وأكاديميون وحقوقيون، بتنظيم جمع الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان ومؤسسة “لوبوكلاج” والمركز الوطني للإعلام وحقوق الإنسان، بعنوان “التضامن والتشهير بين الصحافيين أين ينتهي الأول ومتى يبدأ الثاني؟”.
وذكر الأستاذ بالمعهد العالي للإعلام والاتصال إبراهيم الشعبي أن التشهير “عملية تسيء للعملية الصحافية مع الأسف”، مما يتطلب تجديد مناقشة الظاهرة لأن “التضامن تراجع بشكل كبير”، رغم “انتشار هذه الظاهرة المجرَّمَة بشكل قوي”.
وأضاف الجامعي المتخصص في الصحافة وقضاياها: “حتى في سنوات الرصاص لم يكن عدم التضامن بين الصحافيين مثل اليوم (…) وتوجد سياسة عمومية للتشهير، وهناك رجال أعمال كبار اشتروا هيئات إعلامية كما كشف ذلك تحقيق صحافي نُشر سنة 2017، والإعلام المسمّى عموميا ليس كذلك، بل هو مؤسسات إعلامية حكومية”.
وذكّر المتدخل بأن “قلب المفتاح الأساسي” لمعضلة التشهير عبر الصحافة، “هو التضامن والأخلاق، فـالمادة 6 من ميثاق الأخلاقيات تتحدث عن تعزيز أواصر الزمالة داخل المهنة، وأن من واجبات الصحافي عدم استعمال وسيلته الإعلامية لتصفية حساباته مع زملائه، وكذلك ينبغي الرجوع إلى ميثاق ميونخ الدولي لحقوق وواجبات الصحافيين”.
الصحافي رشيد البلغيتي قال من جهته إن “التشهير مسألة واقعة، انتقلت إلى ظاهرة للأسف الشديد في المغرب في السنوات الأخيرة في ظل غياب التضامن الذي هو واقع داخل الجسم الصحافي المغربي، في مقابل التضامن بين المهندسين والأطباء والمحامين والأساتذة (…) حيث نجد في صفوف الصحافيين حربا أهلية جزئية تثير الاستغراب”.
واستشهد البلغيتي بمقال نشره موقع محلي جهوي حول “معايير والٍ في توزيع الأضاحي على الصحافيين”، معناه، وفق قراءته: “لماذا وزّعتم على آخرين واستثنيتمونا؟ (…) ألا تعرف الولاية أدوار عدد من المواقع المحلية في نشر كذا وكذا؟ أي مواكبة أنشطة الوالي (…) وبهذه المؤسسات الإعلامية المستثناة أرامل ومطلقات…”، ثم علق قائلا: “هذا مقال دالٌّ على كيفَ تتمثل الصحافةَ كاتبة المقال التي تقدم نفسها صحافية ذات موقع، ناطقة باسم الولاية، تغطي بشكل تواصلي، لا بشكل إعلامي، أنشطتها”.
ثم استرسل شارحا ما يدلّ عليه المقال: “المجال المسمى صحافة أضحى فضاء من فضاءات الهشاشة، لا اختيارا مهنيا كباقي المهن (…) وتصوّره لمهنته وتمثلّه لنفسه (مشوّش)؛ هل الصحافي بالمغرب وكيل يتحدث باسم السلطة (…) أم وسيط يعطي الصوت لأصوات لا تسمع عادة ويدير الكاميرا لها أم فاعل في التغيير الاجتماعي قلمه مثل المشرط في يد الطبيب ومهنته استثنائية لأن الخطأ الطبي ضحيته شخص والخطأ الصحافي ضحاياه كثر؟”.
وزاد: “هذه سمات عامة مست وتمس الصحافة والصحافيين مع تواتر وتطور التشهير بالمغرب منذ بدايته في سنة 2012 وازدهاره في سنة 2013، مع وعي جزء من السلطة بازدهار ووجود كبير لمدافعين على الديمقراطية، وانحياز مبدئي أو براغماتي لمواقع لهم (…) فظهر التشهير المباشر بشبان حركة عشرين فبراير، أو الحراك، والتنظيمات الخاصة بهم، معززا بمعطيات خاصة لا تتأتى للصحافي وصور كذلك، قد تعود لسنوات”.
وتابع: “الصحافيون والصحافيات في الآونة الأخيرة لديهم مشكل التكوين، فلا نجد صحافي السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والاقتصاد والقانون الخاص… لم يبقَ، أو بالأحرى قلَّ، الصحافي المثقف، الذي له القدرة على التحليل، ومتابعة ما يحدث بشكل فطن، ومجموعة من الشبان تأخذهم المؤسسات الإعلامية في سن صغير، إما دون تكوين في المجالات، أو بتكوين تقني، ويرافق هذا تحول الصحافة، ووعيا بأنه: لم نعد محتاجين صحافيين يكتبون، بل إلى حاملي كاميرات”، ثم استدرك قائلا: “هذا التقييم ليس إدانة، بل حديث عن تحول؛ فغياب الحصانة المعرفية يؤثر إلى حد ما على الوضع الصحافي، وطبيعة المنتوج والمادة الصحافية نفسها، ومشكل الوضع المادي والاعتباري للصحافي والصحافية، والجانب المعرفي يضم الوعي الأخلاقي لا الدبلوم الجامعي فقط (…) يصيّر الصحافة مرادفا للهشاشة، مما يؤثر على طبيعة العمل الصحافي”.
وأضاف البلغيتي إلى هذه المعطيات “وضع الخوف؛ فالصحافيون في حالة خوف، وتوجد مَكَارْثِيَّةٌ اليوم في المغرب لها تصور للصحافي والممارسة الصحافية، وعلى الكل أن ينتظم في الصف، وإلا فستجد نفسك في متابعة قضائية، أو تدبر مؤسسة إعلامية مفلسة تدبّر الندرة، أو ستكون لوحدك خائفا لأن هناك جواّ عاما يشجع على هذا الإحساس، بدل العمل براحة والالتفات للمواضيع التي عليك الاشتغال عليها”.
وأورد الصحافي أيضا معطى “الإغراء؛ فهناك سيطرة المال على المؤسسات الإعلامية إما من خلال المساهمة بالأسهم، أو رجل أعمال، أو رجل إشهار، أو رجل أعمال وسياسي يعطي الإشهار من مؤسسات عمومية يشرف عليها، وتحويل المال العمومي إلى أداة إرشاء غير مباشر، لتحويل الصحافة إلى جسر تواصلي، يعيد تدوير البيان الصحافي، في نوع من الصحافة الإدارية”.
الحقوقي إبراهيم الأشهب استحضر من جهته التشهير الذي قد يمارسه الصحافي، لكنه “غالبا يمارَس ضدّه”، بغرض يظهره الشرح اللغوي لمفهوم التشهير: “إضفاء الحرج على سمعة الآخرين من أجل التنكيل بهم؛ فشهّر يعني أظهر مساوئ الآخر، عكس الإشهار الذي يظهر المحاسن”.
فاطمة القبابي، عن الجمعية المغربية للصحافيين خريجي الجامعات والمعاهد، دعت في مداخلتها إلى “النقد البنّاء بدل التشهير والنقد الهدّام؛ لنتبادل الأفكار والآراء”، مع قولها إن “الرأي محترم”، عكس التشهير الذي فيه “السب والشتم والمس بالكرامة والحياة الخاصة للأشخاص ومسارهم الشخصي بتهم مجانية، ونشر صور مخلة بالكرامة والمواثيق الدولية”، مع ذكرها أنه “تبقى للحرية حدود، في كل بلد”، وأن الإعلام “لا يستوي إلا بفصل السلط”.
وتابعت: “توجد هُوّة بين الصحافة والصحافي، ورغم الترسانة القانونية لأخلاقيات المهنة وما يقال وما يُكتب، إلا أن ذلك يبقى حبرا على ورق، دون أجرأة على أرض الواقع، بتجاوزات وممارسات على رأسها التشهير، بسبب عدم التأطير المعرفي والأخلاقي، فيمارس الصحافي التشهير، كما أنه عندما تتعارض الأفكار والمصالح والرؤى والتوجهات، يلجأ البعض للتشهير، ويمكن أن يحدث التشهير أيضا إذا صار الصحافي مجرد آلية لمؤسسة، يوظَّف لتمرير إيديولوجيات وإملاءات، ومجموعة من الأفكار، دون وعي أو بوعي”، مع استحضارها وضع “الصحافي المأجور”، الذي تتكالب عليه “هشاشة على جميع المستويات، ماديا وتكوينيا ومعرفيا”.
الصحافي الأستاذ الزائر بالمعهد العالي للإعلام والاتصال يونس مسكين، سجّل من جهته أن “موضوع التشهير لا يحظى بالقدر الكافي من النقاش المستحق؛ فلا ينبغي أن نطبّع مع شيء غير طبيعي، وفي ظل النقاشات التقنية والمهنية والتطورات التي حصلت (…) نناقش تشهير الصحافيين، لا التشهير الذي يمارسه من لا خلفية والتزامات مهنية وأخلاقية لهم (…) هذا عيب، وينبغي أن نستحي منه؛ لأنه بدل التغيير ومواكبة الإصلاحات وكشف الفساد، نناقش طامة كبرى وفضيحة ينبغي لكل واحد من موقعه بالمغرب وضع حد لها”.
وأردف قائلا: “التضامن المهني ليس فضيلة أخلاقية، بل شرط وجود؛ فهذه المهنة بطبيعتها جاءت لوظيفة محددة، هي: أن تكون المراقب الكاشف لِسَير صراع في ساحة مكشوفة؛ الصراع السياسي والاقتصادي وصراع الأفكار والصراع الاجتماعي”.
ثم ذكّر بأن “ميثاق أخلاقيات مهنة الصحافة جزء من المنظومة القانونية، وينص على أن الصحافة والبطاقة المهنية تعني تضامنك مع زملائك، لا بمنطق القبيلة التي تحمي بعضَها البعض ظالمين أو مظلومين، بل تضامن بحذر منهجي؛ لأن هناك شبهة أوتوماتيكية مرتبطة بعمل الصحافي؛ أن تكون هناك تصفية حسابات، ولو اختلفنا تحريريا أو إيديولوجيا”.
ويرى يونس مسكين أن “التحول بالمغرب حصل بعيد التحول الطفيف في سنة 2011، والمستهدف كان شباب 20 فبراير، بعد وعي أطراف سلطوية بحظوة مكونات بقدر من الثقة، فبدأ إفساد اللعبة، عبر سياسة عمومية، بكل ما في الكلمة من معنى، أدت إلى هذا الوضع من الترهل والتحلل”، مع دعوته عند مناقشة التشهير ومن يتبناه من منابر إلى “الابتعاد عن الوصم والفرز لصحافيّين (…) ترتيب المسؤوليات ينبغي أن يتم بقواعده لا بظلم”.
ثم جدد التأكيد على أن “التشهير عبر الصحافة اليوم ليس عبثيا، ولا صدفة، أو مسألة أكثرية ضد أقلية، بل بدأ باستهداف نشطاء وسياسيين ومستقلين باستغلال مغرض لتقنيات جديدة، وباستهداف كل مختلف، وكل من يقاوم للحفاظ على استقلاليته الفكرية أو السياسية أو حتى الاقتصادية، ثم إغراق المشهد الإعلامي بموجة من الفاعلين الجدد الذين لا ذنب لهم ربما، وشُجِّعَت ممارسات منحرفة وغير مهنية، مع إضعاف ممنهج للنموذج الاقتصادي للمقاولة، وإغراق السوق بمؤسسات ومنتسبين جدد دون مراعاة لخصوصية المهنة، ومن جرّب أعجبته الكلفة الأقل بالإعدامات المعنوية بجرة قلم بكلفة صفر، بدل الطريقة السابقة من اعتقالات وردود”، واستحضر نماذج اشتغل إلى جانبهم، هم: الصحافية المعتقلة سابقا هاجر الريسوني، والصحافيان المعتقلان توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني.
وذكّر يونس مسكين بـ”كتلة رهيبة من التشهير، ومرور رسائل إعلامية تشهيرية في الإعلام العمومي حول توفيق بوعشرين، هي بلاغات النيابة العامة التي من حقها إصدار ما تريد، لكنها مرّت في التلفزيون بصورة الشخص في الإعلام العمومي من أجل إعدامه الرمزي عموميا”.
وحول التبليغ ضد تشهيرِ وسائل إعلام، نبّه المتدخل إلى أنه “عبر الملف الذي يضعه مدير النشر لو كان الهدف تخليق المهنة لكنا حاربنا المسألة (…) لكن يطلب من المتضرر عنوان من شهّر به لتبليغه، أو القيام بدعوى مباشرة، في حين عندما يتعلق الأمر بشكاية رئيس حكومة مثلا ضد الصحافية حنان بكور لا يكون الإجراء هو نفسه”.
وصرّح يونس مسكين بأن مسألة انتشار التشهير “يمكن أن تكون متعلقة بسوء تدبير (…) أدى إلى تمكين منابر ومنصات التشهير، فالصحافة لا تجتمع مع التشهير”، وبالتالي حلها “قرار سياسي مركزي؛ فلا يمكن أن نتصارع مع الأعراض، بل على الدولة المغربية حسم أمرها”، ثم قال إن “الحل الوحيد هو التنظيم الذاتي لمهنة الصحافة، وقلبه الأخلاقيات، دون أن نتوه في نقاشات (…) ولا يمكن أن يبقى التشهير سياسة عمومية، وأيُّ دولة تحتاج أن تكون متنوعة، وتحتاج بدائل، ولا ندري ما المصيبة التي لا قدر الله يمكن أن تصيبنا ونحن فاقدون للمناعة ولقدرة إنتاج البدائل والقدرة على التصحيح”.
المصدر: هسبريس