سُقوط الحركات المسلحة .. (1 2)
إسماعيل عبد الله
عندما هجمت حركة تحرير السودان (تحرير دارفور) على مدينة الفاشر، الحركة التي كانت موحّدة تحت قيادة الأستاذ عبد الواحد محمد نور ، بعد شهور من إعلانها عن تمردها على حكومة الخرطوم ، خرج منظروها ومفكروها بطرحهم السياسي المطالب بتحرير دارفور السودان من سطوة الدولة القديمة ، وبانتهاج رؤية السودان الجديد كعتبة أولى لانطلاق فكر (الثورة) الجديدة ، فاكتسبت الحركة بعد ذلك تعاطفاً من بعض أبناء دارفور ، بينما انزوى البعض الآخر ، وتحفظ على المظهر الاثني والتكوين القبلي لهيكلها الإداري ، وانخرط كثير من الناطقين اعلامياً باسمها في تبريرات واهية ، ذهبت مذهب أن الثورة حينما تندلع لا تشاور أحداً ، وأن من لم يلتحق بركب (الثورة) ليس من حقه أن ينتقد الخلل البنيوي والهيكلي للأجسام المعبّرة عنها ، لقد صدق حدس المعترضين على قيام أي عمل مسلح أياً كان نوعه ، يهدف للحصول على مطالب مجتمع الإقليم المهمش ، باعتبار أن التركيبة السكانية أساسها قبلي هش ، يمكن أن يستغل هشاشته النظام المركزي الحاكم ، ليفجّر صراعاً عرقياً لا يبقي ولا يذر ، وسرعان ما فاجأ قادة الحركة المسلحة العالم بانفجار عظيم ، شق الحركة الواحدة لحركتين ، قاد احداهما المحامي عبدالواحد محمد احمد النور ، الذي ينظر إليه بعض المهتمين بالشأن السوداني كمؤسس للعمل المسلح بدارفور بعد الألفية الثالثة ، أما الحركة الأخرى المتهمة بالقيام بالدور الأكبر في شق الصف ، قادها الأمين العام وقتها مني أركو مناوي ، الذي كان يفاخر أبناء قبيلته بأنهم الأكثر عدداً كجنود مقاتلين على أرض الميدان ، ما دفعهم لأن يقودوا مشروع الاقصاء الذي شطر الحركة لنصفين ، ومنذ انطلاقة ذلك التسونامي الذي عصف بوحدة الحراك الهادف إلى دحر الظالمين من رموز الدولة المركزية ، توالت الانقسامات على أساس القبيلة ، فتم استنساخ أكثر من ثمانين حركة حملت ذات الاسم ، وعلى النسق الانشقاقي لحركة تحرير السودان سارت رصيفتها حركة العدل والمساواة التي كان يقودها الراحل خليل إبراهيم المحسوب على نفس قبيلة المنشق مني أركو مناوي ، وجاءت التبريرات من المنشقين من القبائل الأخرى على نفس طريقة القادة الذين انشقوا عن حركة تحرير السودان ، بأن سطوة القبيلة دفعتهم للخروج من القبضة الحديدية لآل بيت رئيس الحركة.
هنالك بعد ثالث للصراع الدموي الدائر في دارفور ألا وهو المكون الاجتماعي الرعوي ، الذي وجد نفسه بين مطرقة المليشيات العشائرية المسلحة غير المنضبطة ، وسندان جهاز مخابرات حكومي مركزي خبيث يمارس هوايته التقليدية بوضع السم في الدسم ، بضرب إسفين بين المجتمعات السودانية حفاظاً على استمرارية السلطة الإخوانية النخبوية المركزية ، التي لا تدوم إلّا بدوام إشعال الحروب في الأطراف البعيدة ، فاضطرت المجتمعات الرعوية لحمل البندقية المدعومة حكومياً دفاعاً عن ثرواتها وأعراضها ، وجاءت فكرة حمل السلاح بعدما ارتكبت الحركات المسلحة المدّعية استرداد حقوق الإنسان السوداني المهمش ، فظائع وجرائم حرب في وادي النخيل بنهب آلاف الرؤوس من الأبل ، المملوكة لمجتمعات رعوية صميمة من سكان الإقليم ، كما أنها خرجت عن الالتزام المكتوب بنظامها الأساسي ودستورها الزاعم تأمين الناس ، بأن روّعت المدنيين الآمنين بمدينة برام الحديبة أم الديار بجنوب دارفور ، وقتلت بدم بارد رجالات الإدارة الأهلية هناك ، والذين كان على رأسهم الرجل الثاني ، هذا فضلاً عن سرقة البنوك والقتل على أساس الهوية القبلية ، وذات المجازر المروّعة قد ارتكبتها الحركات المسلحة المدّعية استرداد حقوق المهمشين ، بكل من نتّيقة وشعيرية وغرابش ومهاجرية شرقي عاصمة جنوب دارفور ، فبعد العام الأول لاقتحام حركة تحرير السودان لمطار الفاشر وقيادة الجيش ، وأسرها لضابط عظيم بالجيش السوداني يحمل رتبة اللواء ، تحوّلت الحركات المسلحة لمليشيات قبلية معصوبة العينين ، لا ترى غير البطش والتنكيل طريقاً لما اطلقت عليه مشروع المطالب المستحقة ، وقد ثبت ذلك جليّا في اتفاقية أبوجا بين حركة تحرير السودان الجناح الذي يقوده مني أركو مناوي ، وحكومة الاخوان المسلمين حزب المؤتمر الوطني الحاكم ، ودخل بموجبها أركو القصر مساعداً كبيراً للدكتاتور المطلوب للعدالة الدولية ، بجريرة إبادة عين المجتمعات التي ينتمي إليها أركو مناوي.
بعد اتفاق ابوجا أصاب الاحباط بعض مكونات المجتمع الدارفوري ، ذلك أن ابنائهم الذين وثقوا في طرحهم المطلبي تركوهم ثم تركوا (القضية) ، وانضووا تحت لواء الحكومة المركزية التي ما زالت تقصف قراهم ببراميل البارود الحارق ، ولو كانت هنالك شخصية عامة فضحت المقاصد غير الثورية ، التي حمل من أجلها بعض الأغرار السلاح في دارفور ، لكانت شخصية مني مناوي ، فهو بمثابة طائر الشؤم الذي حط على ظهر حصان الحراك المسلح الذي دشنه رفاقه ، ثم ما لبث أن عمل على عكس ما تحدث عنه الرفاق ، فهو أول (قائد) حركة مسلحة يضع يده في يد قاتل أهله الرئيس المخلوع الملاحق جنائياً لارتكابه جرائم الإبادة الجماعية في دارفور ، ويلي مناوي في الترتيب رئيس حركة العدل والمساوة جبريل إبراهيم ، الشقيق الأكبر للرئيس المؤسس للحركة ، الذي ضرب بعرض الحائط الأجندة المعلنة وأهداف الحركة المزعومة ، والذي هو الآخر قد ارتمى في أحضان فلول النظام البائد بعد ثورة ديسمبر المجيدة ، التي كان يتهكم في مشعلي جذوتها حينما وصفهم بالشباب الصغار الذين يبحثون عن الترفيه ومشاهدة مباريات كرة القدم بميدان الاعتصام ، بربك هل هنالك لعنة اصابت أهل دارفور خاصة وأهل السودان عامة ، مثل لعنة الحركات المسلحة المرتدية للباس الثورة ، لقد ضربت هذه المليشيات أسوأ الأمثلة في العمالة والارتزاق والمتاجرة بأرواح الشباب وتشغيلهم كمرتزقة ، أما بعد الحرب التي شنتها كتائب النظام البائد من وراء حجاب الجيش السوداني على قوات الدعم السريع ، أعلن الرجلان الخروج عن حيادهما ووقفا مع المعتدين ، ودفعا بجنودهما في أتون حرب لا يمثلان فيها سوى أنهما مجرّد وكيلين لا أصيلين ، سعيا لإعادة الجماعات المتطرفة للحكم ، تلك الجماعات التي قاتلاها قتال العدو للعدو.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة