مراكش … وحبّكَ مقرونٌ بأنفاسي حمراء الأطلس … وجوهرة فريدة في عالم الجمال
د. محمد بدوي مصطفى
أيا مراكش الحمراء أتيتكُ عاشقًا ٭ وعلى فؤادي موعدٌ وكتاب
إنا السوداني الذي اعتصر الهوى ٭ فتذاوبت لغنائه الأهداب (م.ب.م)
تاريخ المدينة الحمراء في عهد المرابطين:
أسس يوسف بن تاشفين مدينة مراكش الحمراء في المغرب في عام 1062م ، وبدأت هذه المدينة الجميلة تصنع تاريخها بخطى ثابتة. كانت العصور الوسطى مليئة بأحداث وتغييرات تاريخية كبيرة في هذه المدينة الجاذبة الجذابة وحينئذ كانت الحاكمات تعلن تسلطها عليها بانتظام. وجدير أن نذكر في هذا السياق أنّ من الأحداث الهامة في تاريخ مراكش ، لا سيما في غضون عهد المرابطين ، هو زراعة النخيل وإقامة المساجد وبناء المدارس القرآنية ، من ثمّة تم تشييد الأسوار التاريخية التي أصبحت رمزًا من الرموز البارزة للمدينة ، ولقد أقيمت تلك الأسوار الشامخة الصلدة لحماية مراكش من الهجمات والتهديدات الخارجية ، التي كانت تحدق عليها وتترصدها من كل صوب وحدب. ويجدر أن نسرد أن هذه الإصلاحات المدنية والاجتماعية كان لها دور فعّال في رقي وعز المدينة الهامة مما أتاحت لأهل الرأي أن تصبح مراكش هي العاصمة الرسمية للدولة المرابطية، ووقتئذ أثبتت وجودها كمركز ثقافي وتجاري وديني يشار إليه بالبنان. ولم تبطرها هذه النجاحات أن تستمر في البناء والتعمير فاستمرت مراكش في تطوير هويتها ومكانتها عبر العصور ، ومازالت حتى يومنا هذا تحتفظ بروح التاريخ والجمال التي جعلتها واحدة من أروع الوجهات في العالم على الإطلاق. وكم أعتز بأنها مدينتي! .
ازدهار ونكبات في تاريخ مراكش:
ازدهرت عبر العصور مدينة مراكش من جهة وتنوعت نكباتها من جهة أخرى بيد أنها استمرت في النمو والتطور ، وشهدت فترات ازدهار مثل عهد والموحدين. حيث تركت هذه الفترات بصماتها على الهوية الثقافية والمعمارية للمدينة. وكما سلف ذكره فقد كانت مراكش أيضًا مشهدًا للعديد من النكبات والصراعات ، لا سيما في غضون فترة الاحتلال الفرنسي في القرن العشرين. ولكنها ثبتت صامدة مناضلة أمام أياد عابثة لا ترد منها إلا الشرّ ، فتمكنت بصمود أبنائها وبناتها ، رغم حسد الحاسدين ، أن تحتفظ على جوهرها وهويتها على مر العصور، وهل من مدكر؟! .
المرينيون والسعديون في مراكش:
لقد عرفت مراكش حقبة من التقدم والازدهار في الفترة التي حكمها المرينيون ، فبنوا العديد من المنشآت الدينية والتعليمية ، مما أضاف قيمة ثقافية وتعليمية للمدينة ولقد كان لهؤلاء دورا بارزا في السياسة والثقافة في مراكش. ومع إطلالة القرن السابع عشر بدأت الأمور تتغير بقدوم سلالة السعديين. وقد قام السلطان السعدي الأول بنقل عاصمته إلى المدينة الحمراء ليجعل منها آنذاك مركزًا للتطور والحضارة ومركزًا أو لنقل بوتقة للثقافات المتباينة المتسامحة مع بعضها البعض فازدهر بها الأدب وصارت مركزًا لأمهر الحرفيين والفنانين.
إرث مراكش الثقافي:
لا يزال التأثير الثقافي للسلالات المتعاقبة على مراكش واضحًا حتى يومنا هذا ، ولم تمسح تلك العبرات والنظرات عبق وإرث المدينة الضارب بجذوره في أعماق التاريخ ، مما يسمح لسواح اليوم زيارة هذه المآثر التاريخية والثقافية المتباينة والمتناثرة والمتوقعة بكل أرجاء المدينة ، حتى خارجها وحدث ولا حرج. فهاتيك القصور الشامخة تنادي من البعد كل عاشق للجمال وكل هائم في سماوات الحبّ السرمدي لمغرب الجمال ومراكش البهاء والكمال. لذلك انطلقت من هذه المدينة الشامخة العديد من الروايات والحكايات التي سطرتها أحبار أدباء من كل أنحاء العالم. هذه الشخصيات قطنت بالمدينة ونشأ شيء من الوله والشغف الماتع بينها وبينهم ، والقائمة تطول عندما نريد أن نعدد حبّات هذا العقد الفريد من محبيّ ومريديّ (على سبيل العشق الصوفي) مراكش التي أعطت اسمها للمملكة المغربية بلغات العالم المتعددة ليطلق عليها مثلا في الإنجليزية لفظ: “موروكو”. وللتسمية “مراكش” أصول عميقة في اللغة الأمازيغية. إن معناها “أرض الله”، وهذا يعكس مكانة المدينة وأهميتها في تاريخ المغرب.
مراكش تحت حكم السعديين:
بالرجوع إلى عهد السعديين في مراكش الذي كان في الفترة ما بين العامين 1554م و1659م نجد أن السلالة السعدية قد حكمت المغرب خلال هذه الفترة ويمكن أن نقول إنها أسست لما يسمى بمدنية المدينة التي وضعت فيها اللبنات الأولى والهامة لتاريخ شامخ تليد. فمن أهم ملوكها كان مولاي إسماعيل الذي حكم منذ عام 1672م حتى وفاته في عام 1727م ويشير علماء التاريخ إلى أن هذه الفترة تعتبر من الفترات الهامة في تاريخ المغرب ، حيث شهدت إعادة الوحدة الوطنية بعد فترة من الانقسام والصراعات بين مختلف الدوائر والممالك المغربية. وسميت هذه الأسرة ب “السعديين” نسبةً إلى مؤسسها محمد الشيخ السعدي الذي نجح في توحيد المغرب تحت سيطرتهم.
استمرت مراكش في التطور والازدهار تحت حكم السعديين ، بنوا قصورًا رائعة مثل قصر البديع وسعوا إلى تطوير المدينة في كل النواحي الثقافية والاجتماعية ، فكان لهم دور بارز في تطوير العمارة والثقافة بها ، ويجدر أن نذكر أنهم بنوا أيضًا العديد من الأضرحة والمساجد التي تضيف للمدينة طابعًا دينيًا وروحانيًا. وفي القرن السابع عشر، انتقل حكم المدينة إلى العلويين ، الذين ما زالوا يحكمون المغرب حتى اليوم ، وتركوا بصمتهم بالمدينة من خلال توسيع المدينة وتطويرها ، وما زالت مراكش تحتضن العديد من المعالم والمباني التي تعكس تلك الفترة الزمنية الهامة.
تعدد الثقافات بمدينة مراكش:
إن التاريخ المديد لمراكش وتأثير العديد من السلالات على مدى القرون قد أضاف طبقات متعددة من التراث إلى المدينة. من العمارة إلى الثقافة والفن ، يمكن لزوار مراكش استكشاف هذا التراث المتنوع من خلال المعالم والمتاحف والمعارض. من السهل أن نفهم أهمية مراكش كواحدة من أهم الوجهات في المغرب والعالم ، حيث يمكن للزوار الاستمتاع بالثقافة والتاريخ والفنون في هذه المدينة الرائعة. مراكش ، حاضرة المملكة المغربية ، تعكس بشكل ملحوظ تعدد فيها الثقافات والأعراق والأجناس والديانات ، وذلكم التعدد الثقافي والتنوع الفريد في نوعه هو الذي يعكس الطبيعة الاستثنائية للمدينة وتاريخها العريق. إليكم سادتي نظرة عامة على هذا التنوع:
١) الثقافات والأعراق:
-
- الثقافة المغربية: تشكل الثقافة المغربية الأساس في مراكش، وتتضمن اللغة العربية واللهجات المغربية والتقاليد والعادات المحلية. المدينة تحتضن مهرجانات وفعاليات كثيرة تعكس هذه الثقافة.
- الثقافة الأمازيغية: يعيش الأمازيغ، الذين يشكلون جزءًا كبيرًا من سكان المغرب، في مراكش. لديهم تقاليد ولغة وثقافة فريدة.
- الثقافة اليهودية: كان لمراكش اليهودية تاريخ مديد عبر القرون، وكانت المدينة موطنًا لمجتمع يهودي نشط لا سيما بحي الملاح الشهير، فهناك العديد من الأماكن المقدسة اليهودية التي تحتضنها مراكش كأم رؤوم.
- السياحة: بوصفها وجهة سياحية شهيرة، تجلب مراكش سنويًا ملايين الزوار من جميع أنحاء العالم، وبالتالي تسهم في تعدد الثقافات واللغات في المدينة.
٢) الأجناس:
مراكش تجمع بين السكان الأصليين والمهاجرين من مناطق مختلفة. تجد هنا أجناس مغاربية وأفريقية وأوروبية مما يسهم في تنوع الجينات والمظهر البشري للسكان.
٣) الديانات:
-
- الإسلام: الدين الرئيسي في المغرب هو الإسلام، ويشكل معظم السكان مسلمين.
- اليهودية: مراكش كانت لها تاريخ يهودي طويل، وما زالت هناك بقايا من المجتمع اليهودي في المدينة.
- الديانات الأخرى: هناك أيضًا وجود لأقليات دينية أخرى، بما في ذلك المسيحية وبعض الأديان الأفريقية التقليدية.
إن هذا التنوع الثقافي والتعدد الديني في مراكش يساهم في إثراء الحياة الثقافية والاجتماعية في المدينة ، ويمنحها هويتها المميزة كوجهة تجمع بين مختلف الثقافات والأعراق والديانات. مراكش ، مدينة الألوان والتباينات ، حيث يتجسد التعدد الثقافي كسردٍ شعري يُبهج القلب والروح. في أزقتها الضيقة وساحاتها الواسعة ، نلتقي بلوحات بشرية تتجلى بتنوعها الرائع.
هنا ، تتلاقى الأصوات واللهجات في لحن متناغم يروي قصصًا متعددة. اللغة العربية تجتمع مع التميز الأمازيغي ، واللغات الأوروبية تنسجم مع لغة السياحة. في هذا اللفاف اللغوي تتعاقب الحوارات وتتلاقى الثقافات. تعج الشوارع بالحياة والألوان ، حيث الأزياء التقليدية تتناغم مع الأزياء العصرية. المأكولات المغربية الشهية تختلط مع المأكولات العالمية ، مما يجعل مراكش وجهة لذيذة للمذاقات المتنوعة.
تجمع مراكش بين المنازل التقليدية والفنادق الفخمة ، حيث يمكنك الاستمتاع بأجواء القرون الوسطى والرفاهية العصرية في آن واحد. في ينعكس بمراكش التعدد الديني في المساجد والكنائس والمعابد ، حيث يشترك الناس في الصلوات والاحتفالات بروح التسامح والتعايش. هذه المدينة الساحرة تعلمنا أن التعدد ليس معضلة ، بل هو ثروة. إنها تدعونا إلى الاحترام والتفهم والتعاون ، وتذكرنا دائمًا بجمال التنوع وقيمة التواصل بين الثقافات المختلفة.
Formularbeginn
مراكش في عهد العلويين والاستقلال:
عهد العلويين في مراكش بدأ في القرن الثامن عشر بعد الميلاد. مولاي إسماعيل بن شريف ، الذي حكم منذ عام 1672م حتى وفاته في عام 1727م ، كان مؤسس السلالة العلوية. حكم العلويين شمل معظم المغرب ، بما في ذلك مراكش ، واستمر هذا العهد حتى العصر الحديث. ومن ثم ، تاريخ العهد العلوي في مراكش يعود إلى القرن السابع عشر ويستمر حتى الوقت الحاضر.
خلال فترة حكم العلويين ، خصصت جهود كبيرة لتجديد وترميم مدينة مراكش. قام العلويون بإصلاح جدران المدينة وبناء مجموعة كبيرة من المساجد والأضرحة لإضافة الروحانية والجمال للمدينة. هذا الفترة شهدت تجديدًا ثقافيًا وفنيًا كبيرًا.
في القرن العشرين ، استعاد المغرب استقلاله ، وأصبحت مراكش جزءًا من دولة مستقلة. تطورت المدينة وازدهرت من جديد في هذه الفترة. بدأت مراكش في الانتعاش والتقدم ، وأصبحت واحدة من أهم الوجهات السياحية في المغرب والعالم. حافظت المدينة على تاريخها الغني والتراث الثقافي العريق .Formularbeginn
مراكش بأسلوب بلاط الفسيفساء القديم:
إن مراكش ، المدينة الحمراء ، تمتلك بلا شك سحرًا خاصًا ، يشبه تلك البلاطات الفسيفسائية القديمة التي تزين جدران المنازل والأماكن المقدسة في هذه المدينة الساحرة. هذا السحر ليس هباءً ، بل هو إرث تاريخي يمتد عبر قرون من الزمن ، ورمز للكثير من القيم والتقاليد التي تعرف بها مراكش.
تعتبر مراكش مدينة معطاءة بحق ، حيث تفيض بالعطاء لأهلها وزوارها على حد سواء. إنها مكان يعلن عن حبها وسخائها بكل سخاء ، دون الانتظار لمقابل أو اعتراف. ومن هذا المنطلق ، تتجلى روح العفوية والجمال في أنحاء المدينة. إنها تحتضن الإنسان وآماله بدافع الحب والعطاء ، وتكشف عن أسرارها الخفية التي تشير إلى عشق وحب يختبئ في أعماق الأرواح.
في ساحة “جامع الفنا”، يمكن للزائر أن يجد نفسه محاطًا بعوالم فسيحة من الإبداع وفنون القول. هناك ، يتراقص المسرح بإبداعه وتجسيده وتمثيله ، حيث يتم إحياء الحكايات التاريخية والدينية على ألسنة رجال مغمورين يسعون لاستعادة تراث الأمة العربية والإسلامية من جديد ، دون أي توقع لمقابل. الشعراء البسطاء هناك يترنحون بكلماتهم وأبياتهم ، يتراوحون بين مشاعرهم وأفكارهم بطريقة تلامس القلوب.
مراكش ، وكما يقول التاريخ ، لم تكن مجرد مدينة عابرة للزمن ، بل كانت العاصمة الإسلامية للمغرب في العصور الوسطى. هذا التاريخ الطويل يبرز تأثيرها العميق على الفن المعماري والثقافي. إن مراكش لا تقدم فقط لزوارها جمالها الطبيعي والمعماري ، بل تقدم أيضًا قصصًا تاريخية غنية ومذهلة.
في الختام ، مراكش تظل مصدر إلهام دائم للشعراء والكتّاب ، وتتواصل مع حاضرها وماضيها بكل جمال وروعة. إنها مدينة تعيش وتتنفس التاريخ والثقافة في كل زاوية من زواياها ، وتبقى مكانًا يمنح دومًا من دون مقابل، ويحب بلا تبادل.
ذاكَ خضَّبَ بالأزرقِ
جفنيْكِ
وبينما كان يَمَسُّكِ كان يجرح
عابري السُّوقِ.
مراكش الأطلس وابن الخطيب:
يبدأ الأستاذ الدكتور عبد الإله بن عرفه كتابه “اِبن الخطيب في روضه طه” بقصيدة شعريّة رائعة ، حينما أقرأها أقول في نفسي مجازا : ابن الخطيب هو أنا … روضة طه هي المغرب وبالمغرب روضتي الغناء هي مراكش حيث أمضي الليالي الطوال في جنان أوراد على طريق آسفي ، حيث الجنان الأورادية ، التي تختلج في نفسي بالحب والثقة والتاريخ ، أورادية لأنها تعبر بكل وريد في جسدي السودانيّ المغربي، العربيّ الأمازيغي. ما كنت أحسب أنّ أصولي من “دواور” (جمع دوّار، وهو القرية بلسان أهل المغرب المبين) الأطلس وأنّ في دمي يجري دم الأجداد من بني مزاب ، وما كنت أعلم أن أهلي أتو من ستات وما جاورها ، هجروا البلاد إلى تونس ، ثمّ إلى ليبيا ومنها إلى بلاد النيل ، ذاك النهر الخالد، حيث ألقوا بها عصيهم وأقاموا بها بيتًا وخيمة.
يبدأ بن عرفة روايته المذكورة أعلاه بهذه الأبيات ، التي أجدها تعكس بصورة أو أخرى ، حبّي إلى هذه الربوع إلى أهلها ، وديانها ، قراها ، ثقافاتها ، وسماحتها التي لن تجد لها مثل من المحيط إلى الخليج. اللهم أجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات في كل لمحة ونفس ، وعدد ما جادت به أيادي الله:
ولقد أنخت ركائبي برياضِهِ وسرحتُ بين جداولٍ وغدائرِ
وقرعتُ بابَ رضاه في سِنةِ الكرى فأجابني متناديًا ببشائرِ
يا كوكب الإسعاد جُد بزيارةٍ تُجلى على فلكٍ رفيعٍ دائرِ
سحر المدينة الحمراء على أعتاب فناءات الكتبيّة:
في فصل الربيع أرفل بفرح وحب وأختال على “بلغتي” كالأمير ، وأمشى الهوينا كما يمشي الوحي الوجل ، ذلك تحت ألطاف المدينة الحمراء ، “مراكش” الفنّ والحضارة ، بين حواريها وعلى هامش زنقاتها الملتويّة، أحثّ حينئذ خطاي حثًّا ، فرحا جزلا بوجودي ، لكني أخطو تارة أخرى حسب وقع المدينة وايقاعها الدفين في تؤدة وسكينة فيتهادى إليّ وأنا في طريقي من مسكني برياض العصافير مارًّا بالكتبيّة صوب جامع الفناء صوت الأذان العالق في الأفق ومن ثمّة يهجع صداه ويضجع ويسجع في الدواخل ، فتتعالى حينئذ أصوات الطبول وتزغرد الأبواق ويغرّد الناي المقدس وينتشي رويدا رويدا أهل المغنى والطرب وحتى القرود كما الثعابين يسحرها نداء المنشد : “الصلاة والسلام عليك يا رسول الله”؛ تنساب في الأعماق من بعد أغنيات أخرى بلون الرُّمّان الأطلسيّ وسحنة التمازج بين جليد الأطلس الناصع البياض وحمرة صخوره الشامخة ، فينزلق الطرب كما اللون في النفس كما ينزلق في الحلقوم ويتدلى مذاق فطائر “المسمن” بالسمن والعسل البلْدِي. عالم “الحرشة” عالم آخر ، تماما كبرزخ الطنجيّة المراكشية ، حتى وإن تباعدت مدينة طنجة عن مراكش ، وحتى إذا اختلفتا في المكان والزمان ، بيد أن اختلاج الأرواح يظل باقيا كما في شهيّة الطنجيّة ، كوحدّة لا يُعلى عليها إلا عندما يختلج المشهد بطاجن اللحم بالبرقوق ، هذا الأمير! هذا هو مذاق المغرب بطعم أطلسيّ ، لم يعرف قدره الشرق والشرقيّون إلى الآن ، إلا من رحم ربّي. مدهشة تلك اللوحة ، حيث تطل قمم الأطلس ناصعة البياض ببرودتها العاليّة على حَميَّة المدينة الحمراء من علٍ. يا لها من مفارقات مدهشة ، تناغم الفصول بين رطوبة الشتاء في الأفق ونيران الصيف المتقدة على البيداء : مشهد استثنائيّ في لحظة متفرّدة ، وهي حقيقة حصريّة فقط على مدينة واحدة بالدينا : المدينة الحمراء : مراكش الجن والملائكة! .
گناوه گناوه … مدد يا مولانا :
أذكر أنني أوّل مرّة زرت فيها المغرب كانت مأمورية جامعية وكنت بصحبة صديقي الأستاذ يوسف زرّاد ، شقيق إسماعيل زرّاد زميلي بالجامعة ، وكنّا ذات يوم نتجوّل في إحدى أسواق الرباط، فحدث شيء عجيب شحذ فضولي، إذ مررنا بشيخ يحمل قيثارة الهجهوج القناوي مقتعد زربيّة مبثوثة على قارعة الطريق وكان يغني: سوداني سوداني ، مولانا يا مولانا. “عيطت” أي ندهت على سي يوسف قائلا أخاطبه بالمغربيّة : “حبس يا مولاي ، جوج دقايق الله يرحم الوالدين ، تنسمع هاد السيّد!”. حقيقة في تلك اللحظة العجيبة ولا زلت أذكر قعدة الشّيخ ، عصفت بيّ الأشواق وهنًا فوهنًا وحلّق حينها بي الطرب وامتلكت لبّي آلهة الأغنيات ومن ثمّة حملتني التراتيل الخالدة إلى بلاد النيلين ، أعود لأترجّل وأقف سائلا ذاتي: كيف عرف؟! وتمر الأيام وهي دولٌ فطلبتُ من صديقة عزيزة لي ، للا ليلى، لنفسي هجهوج لدى صانع ودود بالصويرة بحي الملَّاح وبدأت بعدئذ أنا “ذادا” أردد وأغني: “مغربي مغربي … سوداني سوداني … يا مولانا يا مولانا”.
انطلقتُ حينئذ على متن رحلة شيقة، مذهلة ، مثيرة ، مدهشة وعجيبة في استكشاف هذا التراث العظيم وأخذت العهد مع وعلى نفسي أن أدرس اللهجة المغربية ومن بعد الأمازيغية وأن أنساب في التعمق في معرفة هذا البلد (فإذا كنت في المغرب فتلا تستغرب) بيد أن الطريق لا يزال “واعر”، كما يقول الشاعر والملحن الرائع مصطفى الإدريسي في أغنية المطرب الجميل عبد الله الداودي: (“واعر واعر حبّك واعر، منو راه نخاف ، خفت معاك نزيد نغامر، وطبعي ولّاف”)! .
من أين أتى هذا الحبّ والوله لبلاد الأطلس؟
هذا البلد الآمن الأمين، وفي الحقيقة لا من أين أتى هذا الحب والوله والشوق الذي يغمرني في كل ساعة بل في كل لمحة ونفس. لماذا أحبّه وكيف ومتى؟ هل هي أصولي المغربية لأُسرتي السودانيّة من صوفية التجانية أم أنها محبّة تلقائية ربانيّة أُنزلت بوحي من يعلم “صادقة الأعين وما تُملِي الصدور”. على كل لازلت أحمل لبلاد الأطلس الشامخة ولأهله كل المودة والحب الدافق الدفين. سوف أسر لكم سرًا يا سادتي، تجدني في كل صباح ومع نفحاته البهية ، أفطر “متحرشًا ، متحنشًا ، متبغررً ومتبطبطًا” تارة أخرى أتحرش وأتحنش وأتبغرر وأتبطبط كل يوم مع أملو يملأُ نفسي بحلاوته المتميزة. هذا البلد أعطى وما فتئ ، جاد بالعلماء والفنانين والأدباء والصناع المهرة في كل المجالات وعلى مرّ العصور ولا يزال ، وسوف يرى العالم بأسره فتنته وبهاءه ، لا سيما أن كأس الأمم الأفريقية على الأبواب وكأس العالم وحدث ولا حرج وسوف نقف كلنا وقفة رجل واحد لنمثل بلدنا المغرب ذلك على أحسن وجه وما التوفيق إلا من عند الله.
أعود لأذكر، أن الفرد منّا يجد في كل ركن بالمغرب آي الفنّ والجمال وكأنك بالأندلس المفقود ، ولولا المغرب لما عشنا أجواء الأندلس البتّة ، فهم الذين فتحوه وهم الذين رجعوا منه وكانوا في تردد دائم بين البقعتين.
“فإذا كنت في المغرب فلا تستغرب” من الكم الهائل للثقافات والأعراق والموروث للمعارف ، فتعلم من أهل الدار وصلي على النبي المختار! .
ذكريات لقائنا الأول: معشوقتي الباهية:
أذكر أنه أوكل إليّ في بداياتي بجامعة كونستانس أن أدّرس الأدب العربي والأفريقيّ الناطق بالفرنسية فبدأت رحلتي مع التنقيب عمن يكون هؤلاء؟ وهل لهم بالأساس أيّ وجود؟ فتفجرت وقتئذ أمام ناظريّ مكتبات لكتّاب مغاربة من أولئك الذين يخلقون الأدب الفرنسي ويطوعون مهره الجموع إلى آيات من الجمال في النص والسرد والفِكَر، مثال ادريس الشرايبي والطاهر بن جلون وغيرهم فصاروا منذ عقود طويلة من الكلاسيكيين على شاكلة بوريس فيان ، ألبرت كامو وأندريه جيد، وغيرهم. صارت كتبهم تُدرّس كما تدرس روايات الكلاسيكيين في مادة الأدب بالمدارس الثانويّة وبالجامعات. ومن جهة أخرى نجد أدباء المغرب الحائزين على الجوائز بالوطن العربي لا يعدُّون، على سبيل المثال : جائزة الطيب صالح العالمية ، وهم يتجددون كل سنة بتردد مضطرد ، فيا لهم من أدباء ويا له من علم بهذا البلد الكريم.
غويتيسولو ومراكش… وجذور الفن الإبداع:
المدن ليست مجرد أماكن في الخريطة بل هي أرواح تنبض بالحياة ، وهي مرايا تعكس ملامح البشر وثقافاتهم. هذا ما اكتشفه الكاتب الإيطالي غويتيسولو في رحلته إلى مدينة مراكش الحمراء ، التي أصبحت له أكثر من مجرد مكان. بالنسبة لغويتيسولو ، أصبحت مراكش أسلوبًا في حياته وكتاباته. ولم يكن ذلك مجرد تأثر بمدينة ساحرة ، بل كان تكريمًا لروح المكان وأهله. فقد أعلن غويتيسولو أن مراكش أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياته. تعلّق بأجواء المغرب وتنوعه الهائل ، ورأى فيه تحوّلًا أساسيًا في حياته ومساره الأدبي.
مراكش لم تكن مجرد وجهة سياحية بالنسبة له ، بل أصبحت مصدر إلهام يمتد إلى كتاباته. قال إنها ساعدته على تجاوز الحدود بين الكتابة والتراث الشفوي ، وبين الأفكار وتعبيرات الحواس الشائعة في الساحات والحواري. بفضل تلك الرحلة إلى مراكش ، نجح في تشكيل رؤية جديدة للإبداع، وأدرك دور الثقافة في بناء الجسور بين الثقافات المختلفة.
إنها قصة حب بين غويتيسولو ومراكش ، قصة تحدثنا عن تأثير المكان على الإبداع والأدب. حيث أن المدينة لم تكن مكانًا فقط بل أصبحت رفيقًا للشاعر في رحلته الأدبية ، تلك الرحلة التي أعادت تعريف الحدود بين الكلمات والأماكن ، وبين الأفكار والثقافات المختلفة.
محمد بن إبراهيم … شاعر الحمراء:
شاعر الحمراء ، محمد بن إبراهيم ، عبقري الألفاظ وسفير الشعر في عصره وما بعده. اسمه بات مرتبطًا بمراكش بمزيد من العشق والوله. لم يكن هذا الشاعر مجرد قائل للأبيات ، بل كان صانعًا للأثر ، محفزًا للتفكير ، ومصدرًا للإلهام. عندما استخدم لقب “شاعر الحمراء” في قصيدته الشهيرة “من المغرب الأقصى أتتْكَ تحية”، أراد أن يجسد مربطه العميق بأصوله ومدينته. ولكن لم يكن يعلم أن هذا اللقب سيصبح جزءًا لا يتجزأ من هويته الأدبية.
قدم محمد بن إبراهيم نمطًا شعريًا مميزًا ، وباستمرار تحدي القواعد الأدبية المألوفة. قصائده كانت جريئة ومليئة بالعواطف ، مما جعله يتألق في عالم الأدب ويجذب القراء والنقاد على حد سواء. مدينة مراكش كانت حبه وشغفه. رسمها بألوان الشعر بأمانة وإخلاص. صورها بدقة وأبدع في نقل جمالها وتاريخها بأسلوبه الخاص. كانت قصاؤه تحكي قصص المدينة وتمجدها بكل طياتها ومعالمها.
قصيدة “بمقدمك الحمراء قد عبقت عطرَا” تعكس حبه العميق للمدينة وتقديره للشخصيات التاريخية التي أثرت في تراثها. محمد بن إبراهيم أخلى مراكش وأهلها بمكانة مرموقة في قلبه ، وأسهم في تخليد تراثها الأدبي. شاعر الحمراء بات جزءًا لا يتجزأ من تاريخ وأدب مراكش ، ورغم أنه رحل عنا ، إلا أن أثره وإرثه الشعري ما زالا يعيشان ويزهوان بين صفحات التاريخ وأدب المغرب.
بِمقدمِكَ الحمراءُ قد عَبقت عِطراً
وتاهت ونالت كلَّ مَرتبةٍ كُبرى
نعم عادَ لِلحمراءِ بعدَ غِيابِه
فَتيهِي على الأقطارِ يا بَلدةَ الحَمرا
نعم عادَ مَحفوفًا بكلِّ عِنايةٍ
ولن تعدمَ الحسناءُ تَقليدَها الدُّرَّا
ألا أيها الباشا التهاميُ ذو العُلى
ومِن بينِ أربابِ الصُّدورِ غَدا الصَّدرا.
خاتمة:
في الختام ، يمكن القول إن مراكش تظل مصدر إلهام دائم للشعراء ومحبي الجمال والثقافة. إنها مدينة للأحلام ومكان للبحث عن الذات ، وتظل تحفز الخيال وتمنح الزائرين تجارب لا تُنسى في عالم السحر والجمال.
للهِ مراكشَ الغرَّاءَ منْ بلَدٍ
وحبَّذَا أهلها السادَات منْ سكنِ
إنْ حلها نازِحُ الأوْطانِ مغتَرِب
أسلَوْه بالأنْسِ عنْ أهْلٍ وعنْ وطَنِ
بيْن الحدِيثِ بها أوِ العيَانِ لها
ينْشَأُ التّحاسُدُ بيْنَ العَيْنِ والأُذُنِ.
المصدر: صحيفة الراكوبة