اندلاع الصراعات الجيوسياسية يواصل التحكم في أسعار المنتجات البترولية
رغم تداعيات اقتصادية واسعة وحصيلة بشرية ثقيلة، لم تهدأ بعدُ حمّى التوترات الجيوسياسية في أكثر من “رقعة عالمية ساخنة”؛ تمتد من “حرب غزة” وجبهاتها في مناطق متعددة بالشرق الأوسط ومنطقة البحر الأحمر إلى الحرب الروسيةالأوكرانية التي قارب عُمرها عامين ونصف العام، وهو ما يدفع المتتبعين إلى الإجماع على حقيقة واحدة: ضرورة “التعايش” مع الراهن في ظل صعوبة التنبؤ وهيمنة “اللايقين”.
وبينما يدخل الصراع في غزة شهراً تاسعاً من الحرب الطاحنة، لم تهدأ بعد هجمات الحوثيين على سفن الملاحة التجارية العالمية، كما لم يُوقف “حزب الله” اللبناني قصفه بلدات إسرائيلية، مهدداً بين الفينة والأخرى بإشعال “جبهة حرب شاملة جديدة”، وهي العوامل التي تُنذر باحتمال تحقق فرضية “استمرار تقلبات أسعار النفط” ومشتقاته من المحروقات في السوق العالمية، خصوصا باستحضار معطى “ارتفاع الطلب الطاقي صيفاً على الوقود والغازوال” ما قد يرجَح معه سيناريو “عودة الأسعار إلى الارتفاع”، التي ستمس شظاياها المغرب بالنظر لاستمرار تبعيته فيما يخص مواد الطاقة الأحفورية.
سيناريوهات مفتوحة
كان آخر إصدار لـ”مجموعة البنك الدولي” من “نشرة آفاق أسواق السلع الأولية”، أواخر شهر أبريل الماضي، قد أكد أنه “إذا تصاعد الصراع في الشرق الأوسط، فإن تعطل إمدادات النفط يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم العالمي”، متوقعاً سيناريو أسوأ هو أن “يؤدي تعطل حاد في الأسعار تجاوز أسعار النفط 100 دولار للبرميل، مما يزيد التضخم عام 2024 بنقطة مئوية واحدة تقريبا”.
النشرة الصادرة عن خبراء البنك، وفقاً لما طالعته هسبريس، رصدت فكرة ثابتة مفادها أن “استمرار التوترات الجيوسياسية على مدى العامين الماضيين أفضى إلى ارتفاع أسعار النفط والكثير من السلع الأولية الأخرى حتى مع تباطؤ النمو العالمي”.
وفي وقت تشير توقعات المصدر ذاته إلى أن أسعار “خام برنت” ستبلغ 84 دولاراً للبرميل في المتوسط في عام 2024 قبل أن تتراجع إلى 79 دولاراً في المتوسط خلال العام القادم، بافتراض عدم حدوث اضطرابات في إمدادات النفط بسبب الصراع، فإنها تستدرك بأنه “في حال ثبوت سيناريو تصاعد الصراع في الشرق الأوسط”، يمكن أن تؤدي هذه الاضطرابات إلى دفع معدلات التضخم العالمي نحو الارتفاع. أما إذا حدثت “اضطرابات بسيطة”، فقد تؤدي إلى رفع متوسط سعر خام برنت إلى 92 دولاراً للبرميل خلال العام الحالي.
انخفاض طفيف
مصطفى لبراق، محلل اقتصادي مغربي مختص في اقتصاديات الطاقة، قال إن “المعطيات الجيوسياسية التي تعتمل في الساحة الدولية تتسارع بشكل يبعث على الخوف ويزيد منسوبَ الللايقين الاقتصادي رافعاً حدة ضبابية التوقعات”، مسجلا أن “تقلبات السوق العالمية للنفط خاضعة لصعوبة الرؤية إلى أن يتبين مخاض تحولات السياسة العالمية الجارية”.
واستدل لبراق، في تعليق لهسبريس، بأحدَثِ ما يعتمل سياسيا “اتفاقية “المساعدة المتبادلة” الموقعة بين قائدَي كوريا الشمالية وروسيا التي ترفع بحسبه من احتمالات اتساع رقعة الحرب في أوروبا (انطلاقا من أوكرانيا) التي كانت السبب منذ فبراير 2022 في قفزة تاريخية لأسعار المواد الأولية، خصوصا الطاقية، مع تقليله في المقابل من خطر انعكاسات صراعات الشرق الأوسط التي قال إن “9 أشهر الماضية أثبتت التحكم النسبي في الأسعار عبر تغطية أمريكا للخصاص من الإنتاج مع محاولة ضبطها دينامية العرض والطلب بشكل لا يتضرر معه سعر البرميل رغم قرارات تمديد خفض الإنتاج الطبيعي من منتجي تحالف أوبك بلس”.
كما استحضر المحلل الطاقي “آخر قرار للفيدرالي الأمريكي تثبيت سعر الفائدة، ما دفع نحو عدم تشجيع المستثمرين لخوض استثمارات النفط”، ليخلُص إلى أن “انعكاس تقلبات أسعار النفط على السوق المغربية لن يكون قويا”، قائلا: “أتوقع إما استقرارا أو استمرار انخفاضات طفيفة في الأسعار”.
وذكر لبراق في إفاداته لهسبريس أن “ربط البترول بالدولار” (منذ سبعينات القرن العشرين) بدأ في الانفكاك أمام عامل ضعف العملة الأمريكية وتراجع تعاملاتها في بعض الدول الفاعلة في سوق النفط، وهو ما توقع أن “ينعكس إيجابياً على أحجام مستوردة من حيث القيمة، ما يعني انخفاض الفاتورة الطاقية للمغرب”.
تأثير باعتدال
أمين بنونة، خبير مغربي في علوم الطاقة، أيَّـدَ من جانبه سيناريو “عدم تضرر أسعار النفط العالمية من حرب غزة وتداعيات اتساعها”، مبرزا أن “تتبُّع مسار ومنحنى الأسعار يُثبت انخفاضها التدريجي أو تقلبها ضمن نطاقات معقلنة منذ ارتفاعها في ربيع 2022”.
“التحولات الجيوسياسية تظل في معظمها إحساساً وارتسامات، ولا يمكن البناء عليها كمعطى اقتصادي مضبوط”، يقول بنونة في إفادات تحليلية لهسبريس، كاشفاً أن “الجديد حاليا ما تقُوده الصين (أكبر مستهلك عالمي للنفط) التي تعاطت بشكل مكثف مع الكهرباء الشمسية الريحية خلال السنوات الثلاث الأخيرة”، أي مع اشتداد الأزمات الإقليمية؛ وكذلك انتقالها من الشحن بالغازوال إلى الغاز الطبيعي، علما أن اقتصادها ضخم مبني على الصناعة (30 في المائة من الاستهلاك العالمي للمحروقات السائلة).
ولفت المتحدث إلى أن “تقليص استهلاك الغازوال في الصين يضمَن وفرة في العرض بشكل يُجابِه ارتفاع الأسعار العالمية، ما سيكون له انعكاس في انخفاض الطلب على النفط ومشتقاته عالميًا وسيساهم في عدم ارتفاع الأثمان”، مسجلا أن “التوقعات في بداية صراع غزة كانت تقول بانعكاس على أسعار الشحن والتأمين البحري للنقل، وهو ما يمثل سوى أقل من 5 في المائة من القيمة المشحونة على السفن التي أجبرها الحوثيون على تغيير المسار للمرور إلى سواحل جنوبي القارة الإفريقية، ما جعل طول مدة الشحن تـزيد 40 يوماً”.
بالنظر إلى ذلك، قلّل الخبير الطاقي المغربي من أثر “تغيير قليل ومتفاوت تشهده سوق المحروقات السائلة رغم استمرار الصراعات الجيوسياسية”، وهو ما يعد أيضا في مصلحة المغرب الذي يتأثر فعليا بتقلبات السوق إلا أن مشترياته مازالت بالوتيرة نفسها عموما؛ لأن التوريد يتم عبر شراء بعُقدة لمدة سنة فيها كمّيات تغطي حوالي 80 في المائة من استهلاك المغرب، بينما يتم اقتناء الباقي عبر السوق الحرة، وهو ما يخضِعها للتقلب أكثر (نسبة 20%)”.
“تفاوت التأثير على السوق المغربية”، معطى آخر شدد عليه بنونة في حديثه لهسبريس، قائلا إن “العقود السنوية الآجلة للمحروقات التي يتعامل بها المغرب عادة تتأثر أسعارها صعوداً ونزولاً ولكن تظل عموما بمفعول معقول”، وفق توصيفه، خاتما بالقول: “أصبحنا في ظل التعايش مع التحولات نشهد اعتدالاً في تقلبات الأسعار”.
المصدر: هسبريس