رضع للبيع.. “العمق” تكشف خيوط شبكة اتجار في الأطفال وتميط اللثام عن قصص ضحايا التبني السري
“اتجار في البشر، ورضع للبيع”.. كان هذا عنوان بحث قضائي حركته السلطات المختصة قبل أشهر، يتابع فيه أزيد من 30 متهما، ملف جرنا للبحث داخل الفصول المظلمة لهذه الجريمة، وبعد عدة أسابيع من البحث، تمكنا من الإمساك بطرف خيط يحيل على سماسرة يتاجرون بالرضع بإقليم الجديدة، ويعرضون الأسر التي يسلمونها الأطفال للابتزاز والتهديد بسحب الطفل في حال لم يحولوا لهم مبالغ مالية إضافية.
للحصول على تفاصيل أوفى حول المعطيات التي توصلنا إليها من مصادر موثوقة، واصلنا البحث لأسابيع، عن مكان تواجد هؤلاء السماسرة ومقرات سكنهم وأرقام هواتفهم، أو أحد الأسر التي تعاملت معهم، فتمكنا من التعرف على هوية إحدى الأسر، وحصلنا على رقم هاتفها، وخلال مكالمة تقمصت فيها معدة التحقيق دور سيدة تبحث عن طفل للتبني حاولت الحصول على معطيات أكثر حول الشبكة.
ولأن خطورة الفعل الجرمي وبشاعته لا تقف عند نقطة البيع، تتبعنا خيوط مسلسل بيع الرضع، فكشفنا قصص ضحايا تم بيعهم صغارا، منهم من علم من أسرته بالتبني السري، غير القانوني، أنه طفلهم لكن دون صلة بيولوجية، ومنهم من قلب الصمت عن حقيقة كونه طفل بيع وتم تبنيه سريا حياته رأسا على عقب، كما هو حال “ابراهيم” الذي فطن بالحقيقة في سن متأخرة، فتحول من طفل وديع محب لأسرته إلى مدمن مخدرات وقاتل غير متعمد لأمه بالتبني، في مشهد تراجيدي لم يكن هو نفسه يتخيله.
أرقام تعود لسنة 2012، كشفت أن حوالي 25 ألف رضيع مغربي تم بيعه مند سنة 1975، وفق جمعية ” Rif des droits de l’Homme”، وهي الجريمة التي عوقبت على إثرها شخصيات وراهبات في إسبانيا، بحسب مقال نشرته قبل سنوات صحيفة aujourd’hui le Maroc، التي أكدت أن الأطفال المغاربة الذين تم بيعهم في تلك الفترة كانوا ضمن 300.000 طفل تم بيعه بين سنتي 1939 و1980 بإسبانيا، وهو الرقم الذي نقلته الصحيفة عن الجمعية الإسبانية “Anadir”، من طرف شبكة تضم سماسرة وممرضين وأطباء ومحامون ورجال دين، كما أشارت الصحيفة إلى أن راهبة كانت تعيش في مليليا كانت المسؤولة بالدرجة الأولى عن عملية البيع ضمن شبكة خطيرة، حيث قامت ببيع الأطفال لعائلات أوروبية وإسبانية بشكل أساسي مقابل مبالغ تتراوح بين 3500 إلى 9000 درهم.
وفي حديثها لـ”العمق” أوضحت القاضية برئاسة النيابة العامة، عزيزة الهنداز، أن هذه الأرقام لم تعد بهذا الحجم المهول، لكن البحث قادنا فعلا إلى معطيات تفيد أن معظم الأطفال يتم بيعهم لأسر خارج أرض الوطن، وبينهم هاجر التي نشأت داخل أسرة فرنسية بعدما باعتها والدتها المغربية قبل حوالي عقدين من الزمن.
“المكتوب” عبارة كررتها هاجر أكثر من مرة لتعبر عن رضاها بالقضاء والقدر، مؤكدة بإيمان عميق وابتسامة راضية، أن القدر كما أبعدها عن والدتها، منحها لأم أخرى، عاشت معها في حياة شبه عادية.
أما ياسين، الذي بدا على كلامه بعض الخجل والانطوائية وعدم القدرة على الحديث عن قصته بسهولة، فلا يرجو سوى إيجاد والدته البيولوجية، “لا أكرهها، أريد فقط العثور عليها…”، يقول الشاب الذي لا يعرف عن قصته سوى أن شاطئ المهدية بإقليم القنيطرة كان المكان الذي عثرت عليه السلطات الأمنية فيه، قبل أن يتحول إلى طفل يعيش بفرنسا، وتسكنه أسئلة لازال يبحث لها عن إجاباتها.
جرائم الاتجار في الأطفال ليست منعدمة من خلال معاينة الواقع، إلا أن الملفات القضائية التي فتحت حول الاتجار واستغلال الأطفال تكاد تكون منعدمة، وهو ما أكدته معطيات قدمتها المديرية العامة للأمن الوطني، ورئاسة النيابة العامة لجريدة “العمق”، وتعد صعوبة كشف هؤلاء السماسرة واشتغالهم بأساليب ملتوية واحدة من الأسباب التي تنعكس على الأرقام الرسمية بهذه الضآلة.
سمسرة ومصنع للرضع
من أجل الحصول على معطيات من الأسرة التي سبق أن تعاملت مع شبكة الجديدة، حول الشبكة ومكان تواجدها، تقمصت الصحفية دور سيدة متزوجة في حاجة إلى الوصول إلى من يساعدها من أجل تبني طفل، تحفظت الزوجة (س.م) التي تابعت حديثها معنا خلال الدقائق الأولى بكثير من القلق والخوف، وبعد حوالي 15 دقيقة من محاولة طمأنتها، خاصة بعدما سألت عما إذا كان من وجهنا إليها قد أخبرنا أنها على صلة بهده الشبكة وأنها وسيط، أخبرناها بأن الأمر ليس كذلك وأننا نحتاج فقط إلى مساعدتها من أجل أن تدلنا على مرادنا.
وبعد إصرار طويل منها، وتشبتها بمعرفة من دلنا على رقم هاتفها، خاضت معها معدة التحقيق في نقاش ودي، انطلقت فيه من كون أصدقاء لها يعرفون السيدة أخبروها بأنها تعاملت في السابق مع سماسرة للرضع وأن للصحفية (متقمصة الدور) مصلحة خاصة في الوصول إلى هذه الشبكة. وبعد حوالي نصف ساعة من محاولة إقناعها تمكنا من الحصول على ما يدل على أنها تعرضت للابتزاز بعدما حصلت على طفل، حيث أكدت أن عناصر من الشبكة كانوا يتصلون بها من حين لآخر من أجل المطالبة بالمزيد من الأموال.
“لا يمكنني أن أدلكم عليهم، يغيرون أرقام هواتفهم في كل مرة، حتى عندما كنا نرغب في التواصل معهم بشأن بعض التفاصيل التي تهم طفلنا كنا نجد صعوبات كبيرة ونتوصل إليهم بعد أسابيع” تقول السيدة محاولة إقناعنا بصعوبة الوصول إليهم. إذ لم تتخلص أسرة الطفل من الابتزاز إلا بعد صراع طويل، زاد من حدته الخوف من سلب الشبكة للطفل والدخول في متاهة المحاسبة القانونية.
“أصدقاء لنا تعاملوا مع نفس الأشخاص سلب منهم طفلهم بعد حوالي تسعة أشهر من تربيته، فدخلت على إثر ذلك الأم في حالة من الاكتئاب، والانهيار النفسي، دون أن تتمكن من استرجاع الطفل، أخبروها بأن الطفل سيعاد إلى والديه البيولوجيين، وأن والدته مصرة على استرجاعه، فدفعها التهديد المتواصل والخوف من تبعات الابتزاز إلى إعادة الطفل”، تؤكد (س.م) في حديثها لـ”العمق”.
وبخصوص طريقة حصولها على الطفل، قالت إن الأمر تم عن طريق امرأة تلعب دور الوساطة بين أعضاء الشبكة والأسر الباحثة عن الرضع للتبني بطرق غير قانونية، مؤكدة أن الوصول إلى السيدة أضحى صعبا لكونها غيرت مكان سكنها في الجديدة.
واصلنا الحوار معها لإقناعها بزيارتها في مقر سكنها بالقنيطرة، من أجل الحصول على تفاصيل أوفى حول الموضوع، ومن أجل أن تدلنا على أصدقائها الذين سحب منهم السماسرة طفلهم، إلا أنها رفضت بشكل قطعي مؤكدة أنها والأسرة الثانية لن يكون بإمكانهم تعريف أنفسهم لأي كان والحديث في هذا الموضوع الذي جر عليهم في السابق مشاكل عدة.
الأمر لا يتعلق فقط ببيع وشراء في أبناء أمهات عازبات لا معيل لهن، بحسب المعطيات التي توصلنا بها، وإنما بـ”إنتاج للرضع” وعرضهم للبيع عن طريق فتح مقر الشبكة لممارسة علاقات جنسية مع نساء بمقابل مادي، وكل طفل ينتج عن تلك العلاقة فهو مشروع “إنسان للبيع”، فتحنا هذا النقاش ضمن نفس المكالمة الهاتفية التي كانت أجوبة السيدة فيها متحفظة، دون أن نتمكن من جرها للحديث حول الموضوع، وانتهت المكالمة بوعد من الأسرة بمساعدتنا في حال توصلت لمقر السماسرة.
ملف واحد أمام القضاء
المديرية العامة للأمن الوطني أكدت أن مصالح الشرطة القضائية، لم تسجل خلال السنوات الأخيرة، 2020 و2021 و2022، أي قضية تتعلق بملف الإتجار بالرضع، في حين تم تسجيل قضية واحدة خلال شهر فبراير المنصرم 2024، لا يمكن التحدث عن حيثياتها بينما القضاء لم يقل فيها كلمته الأخير، تقول مريمة العراقي، رئيسة مصلحة القضايا الماسة بالأسرة والأخلاق العامة بمديرية الشرطة القضائية، مضيفة أنه لم يتم تسجيل شكاية، أو وشاية، أو الوقوف على حالة ملموسة لنقل طفل من شخص إلى آخر، بمقابل مادي.
وجوابا على سؤال جريدة “العمق” حول الصعوبات التي تواجهها المصالح الأمنية من أجل الوصول لهذه الشبكات، واستنادا على البحث الذي أجريناه وما تبين لنا من خلال التواصل مع ضحية ابتزاز شبكة الجديدة، التي أكدت لجوء هؤلاء السماسرة إلى تغيير مقرات سكنهم وأرقام هواتفهم، قالت مريمة العراقي، من البديهي أن يقوم مرتكبو الأفعال الجرمية بالتخلص من الأدلة.
وأمام هذه التحديات تسعى المصالح الأمنية، لتطوير إمكانياتها ووسائلها اللوجستيكية، وتشرف على تكوين ضباط الشرطة القضائية في جميع أنواع الجرائم سواء في الإطار المحلي أو في إطار شراكات دولية، لتجويد المنتوج الأمني، سواء على صعيد تلقي شكايات المواطنين، أو المقاربة الاستباقية عن طريق تغطية الشارع العام بدوريات راجلة أو راكبة، وكدا اقتناء المعدات والأدوات اللازمة من أجل إجراء الخبرات، وتطوير المختبرات العلمية للشرطة.
تزوير مفضي للقتل
“ماشي دنبك، وكتلقى راسك قدام واحد كيقول ليك ولد الحرام”، يقول إبراهيم، شاب ثلاثيني جار عليه الزمن مرتين، الأولى حينما كان موضوع بيع وشراء بين أم بيولوجية يجهل هويتها تخلت عنه طواعية وكرها نتيجة ظروف قاسية، وأم أخرى دفعتها رغبتها في الأمومة لتبنيه بطريقة غير قانونية، والثانية حين اكتشف فجأة وفي سن متأخرة أنه ليس الطفل البيولوجي للأسرة، ليتعرض بعد ذلك لحالة عدم توازن دائمة، أدخلته مسلسلا تراجيديا عنوانه الإدمان والمخدرات، والعجز، كانت حلقته الأخيرة، سجن لأزيد من عقد من الزمن على خلفية التسبب في مقتل والدته بالتبني.
“حنا عائلات مغربية، معروف أن أغلبها تتحدث أمام أطفالها حول مواضيع الجيران والمعارف، وولد الجيران سمعها من والديه ورماها فوجهي”، يقول إبراهيم، الذي تطلب إقناعه بالتحدث إلينا في هذا التحقيق أزيد من خمسة عشر يوما، وهو يحكي تفاصيل لحظة معرفته وعمره لا يتجاوز 14 سنة، بأنه طفل بيع لأسرة أخرى رعته كما لو أنه ابنها البيولوجي، قبل أن تندلع خصومة بينه وبين ابن الجيران ستبقى راسخة في ذاكرته، فعبارة “سير أولد الحرام قلب على والديك” أوقعته أرضا كما لم تفعل لكمات ابن الجيران خلال مجريات الخصومة الطفولية.
كان ابراهيم قبل أن يعرف أنه حامل لبطاقة وطنية تحمل رمز “x” سجلت له وللأطفال مجهولي الهوية في سنوات التسعينات، قبل أن تعدل عنها التشريعات الجديدة، طفلا وتلميذا يعيش حياة بريئة، يحب أسرته، متمتعا بحقوقه المادية، “عمري حسيت بشي حاجة ناقصاني، وكانت ظروفنا المادية جيدة، لكن لحظة معرفة الحقيقة لم أعد أشعر أنني بحاجة لأي شيء”، يضيف محاولا منع انفلات دموعه من وجه بريئ يتساءل بأي ذنب وئد، حتى غدا الضحية والمنتقم في الآن ذاته.
“بغيت نرد ليهم نفس التعامل”، تصرف إبراهيم بشكل عادي ولم يظهر لوالديه بالتبني أنه علم بالحقيقة، إلا أن التساؤلات ملأت حياتهم، جراء تغير سلوكه غير المبرر بحسب اعتقادهم، فقد لجأ للتدخين، فشرب الكحول بشكل شبه دائم، ثم تعاطي أشكال متعددة من المخدرات.
وجهنا لمديرية الأمن الوطني أسئلة متعلقة بهوية الأطفال الذين تقوم الأسر المتبنية بتسجيلهم في سجلهم المدني، وتتمكن من إخفاء هويتهم، كما حصل لإبراهيم الذي اكتشف أن لحظة ولادته دشنت بالرمز x، ولا علم له بنسبه الحقيقي،فقالت المسؤولة الأمنية مريمة العراقي إنه لا يمكن أن يتم بيع الرضيع ومنحه هوية الأسرة التي اشترته إلا بطرق خارجة عن القانون، كتزوير وثائق الثبوت، وشهادة الولادة، مبرزة أن السلطات الأمنية تتحرك إما بعد التوصل بتبليغ من مصحات أو أشخاص، أو في حالات وجود شكوك حول الأمهات في بعض المصالح الصحية، حيث تظهر عليهن علامات تدل على أنهن لسن الأمهات البيولوجيات للرضع المستهدفين، إذ يتم إشعار المصالح الأمنية من أجل القيام بجميع التحريات والتأكد من المعطيات.
“وجه الحبس”
سلوك الشاب ضحية الاتجار، انعكس على مظهره الخارجي، وهي نتيجة كان يسعى لبلوغها عمدا، “باش يبعد عليك البشر خصك تبانلو خايب، باش يخاف منك، وفعلا كانو كيشوفوني كيقولو وجه الحبس”، مجتمع لا يرحم ولا يتوانى عن توجيه أصابع الوصم والأدى للناس، دفع بشاب لتقمص دور الشرير ليتقي شر من يسيؤون له دون وجه حق.
تحولت عبارة وجه الحبس إلى حقيقة قاتلة في حياة إبراهيم، في يوم عاد إلى بيت صار يدخل إليه للنوم من أجل الاستيقاظ صباحا، لمواجهة حقيقته ونفسه والمجتمع، لكن عودته هذه المرة كانت الأخيرة، نقاش حاد بينه وبين أمه بالتبني تطور لينتهي بجريمة قتل غير متعمدة.
بعد مدة من مكوثها في المستشفى توفيت الأم المتبنية، “دفعتها ملي تطور النقاش بيناتنا وما حسيتش براسي”، خلال النقاش الأم كانت تجادله في موضوع يهمه، لكن ردة فعله كانت مدفوعة دون وعي منه بتلك الحقيقة التي صمت عنها لأزيد من سنة، ليبدأ بعدها مسارا من المعاناة داخل أسوار السجن، بعد الحكم عليه بخمسة عشر سنة سجنا نافدة.
حاول إنهاء حياته أكثر من مرة داخل المؤسسة السجنية، ولم يثنه خضوعه للعقوبة بسبب أفعاله عن تكرار المحاولات، ولم تشفه إحالته على الطبيب النفسي، “الطبيب كيقولي عندك مشكل مع راسك، ما متصالحش مع نفسك، ولكن أنا لداخل ديالي كنت عارف راسي ما داير حتى حاجة خايبة وإلى أديت كنآدي راسي ماشي الناس”.
تجارة عابرة للحدود
الفعل نفسه والجريمة ذاتها، تسليم طفلة بمقابل مادي لأسرة خارج المغرب، لكن أبعاده اختلفت عند هاجر، شابة تم بيعها لأسرة عاشت معها بالتبني بفرنسا، لكن الفوارق هنا متعددة وكانت كافية لتصنع منها فتاة قوية لم تنهر كما هو الشأن بالنسبة لابراهيم، أهمها أن من تبنتها وإن بطريقة غير قانونية وعن طريق البيع، إلا أنها أخبرتها مند نعومة أظافرها بأنها ليست أمها البيولوجية و أنها تمتلك أمين، ومن هذه الفوارق أيضا أن هاجر، العشرينية التي تابعت دراستها في مجال تسيير الإدارة، تعمل إلى جانب مهنتها على رعاية أطفال في وضعية صعبة، من بينهم أطفال جلبتهم الظروف من المغرب نحو فرنسا.
“المكتوب، والحياة هي هادي، ما عندناش خيار”، تقول هاجر بابتسامة عريضة وروح راضية بالقدر، وهي تروي قصتها بلغة مواطنة فرنسية من أصول مغربية، كطفلة تم بيعها قبل حوالي عقدين من الزمن بالمغرب لأسرة في فرنسا، وإن كانت تتمنى أن تحصل على حياة أخرى رفقة والديها البيولوجيين، “لكنني ممتنة لأن الله منحني لأمي بالتبني”، عاشت معها طيلة العشرين سنة قبل أن تتوفى سنة 2023، تاركة وراءها امرأة متزنة تشغل وظيفة محترمة، وتسعى لمساعدة الأطفال في وضعية صعبة والعناية بهم بإحدى مؤسسات الرعاية، “قصتي دفعتني للتعاطف مع هؤلاء الأطفال، وأتمنى أن يحظوا بحياة أفضل مني، يملؤها الحب والاهتمام “.
ياسين يشترك مع هاجر نفس المصير، كطفل عاش في فرنسا، إلا أنه لا يعلم عن قصته وقصة والدته البيولوجية سوى شذرات رواها له أشخاص قريبون منه، أهمها أنه رضيع وجد بشاطئ مهدية بإقليم القنيطرة، قبل حوالي عشرين سنة، وأمضى حياته بين الميتم وأسرة فرنسية تكفلت به وظل بين أحضانها لحوالي ستة عشر سنة، قبل أن يقرر التخلي عن هذه الأسرة كرها بسبب خلافات واختلافات لها علاقة بالدين.
“كان الجدال أحيانا يصل إلى مستويات لم يكن مقبولا معها أن أظل معهم في نفس المنزل، لذلك غادرت والتحقت بالعمل بمؤسسات تعليمية” يتابع كلامه بصوت خجول وعين شزر خزر.
تمنى ياسين لو وجد عائلته كي لا يضطر لهذه الرحلة إلى فرنسا، التي انتهت بشعوره بالتخلي للمرة الثانية، “هل يمكنك مساعدتي وأنت بالمغرب في العثور على والدتي لأنني أبحث منذ سنوات ولم أتمكن من الإمساك بأي طرف خيط؟ كرر الشاب المغربي الفرنسي هذا السؤال لأزيد من خمس مرات خلال مقابلتنا معه.
أرقام مقلقة
السماسرة الذين ينشطون في تجارة الرضع والأطفال، يرتادون أماكن بعينها ويتربصون بـ”الأمهات العازبات”، اللواتي يكن عرضة لشبكات الاتجار التي تسعى لأخذ أطفالهن المولودين خارج مؤسسة الزواج، كالمحطات الطرقية، والمستشفيات العمومية…إذ يتم في الغالب إقناعهن بالتخلي عن أبنائهن للأسر الراغبة في “التبني” بمقابل مادي، كما يستغل من ينشط في “تجارة البشر” الأطفال المهملين المتواجدين خارج مؤسسات الرعاية لنفس الغرض.
بحسب معطيات التي توصلنا بها من رئاسة النيابة العامة، متعلقة بالأطفال المهملين لسنة 2019، تم تسجيل 284 ملفا يتعلق بالأطفال حديثي الولادة الذين تم العثور عليهم، و 2149 طفلا متخلى عنه، و609 رضيعا تم العثور عليه سنة 2020 و1454 طفلا متخلى عنه في نفس السنة، بينما تم تسجيل ما مجموعه 531 رضيعا تم العثور عليه خلال سنة 2021 و2656 طفلا متخلى عنه، و416 رضيعا عثر عليه سنة 2022 و1293 طفلا متخلى عنه.
من جهة أخرى تعالج جمعية التضامن النسوي سنويا، حوالي 1000 ملف متعلق بإشكالية الأطفال المولودين خارج إطار الزواج، كما تستقبل 20535 “أما عازبة”، يتم توجيههن و مساعدتهن من قبل مركز الاستماع من أجل إعادة تأهيلهن داخل المجتمع، بينما ولجت 810 أم عازبة إلى دروس محو الأمية أو التكوين المهني من أجل إدماجهن الاقتصادي لمدة ثلات سنوات، بحسب ما أكدته هنية بونوار، مسؤولة القطب الاجتماعي بمركز التضامن النسوي.
وبحسب الفاعلة المدنية فقد استفاد حوالي 824 طفلا صغيرا من الولوج إلى حضانة الجمعية من بينهم توائم، وحوالي 28 أم عازبة انخرطن في منصة التشغيل الذاتي (الكشك)، ومئة بالمئة من الأمهات العازبات اللاتي تتم مواكبتهن من طرف مؤسسة التضامن النسوي يحتفظن بأطفاله، ويتمكن من الحصول على عمل و توفير الحاجيات اليومية الأساسية.
هاجر التي تمنت معرفة أصولها، قالت إنها لا تكن مشاعر الكره لوالدتها، لكنها نبهت لكونها شابة لم تحظى برعاية عاطفية من قبل الأب، “كل امرأة تحتاج أن تعيش بين أحضان أمان الأب، وإن حاولت أمي بالتبني تقديم كل ما لديها من اهتمام، إلا أنني لم أحصل على شعور السند والحماية، أدعو كل شخص إلى تحمل المسؤولية قبل أن يقوم بخيار إنجاب طفل”.
مكفولين وليسوا سلعة
كل مولود إلا وله الحق في أن يحيا حياة كريمة في ظل أسرة ترعاه وتعتني به حتى يبلغ أشده ويصبح قادرا على العناية بنفسه، حتى وإن ولد خارج مؤسسة الزواج، سواء عن طريق الزنى أو البغاء أو الاغتصاب، يقول لحسن سكنفل، رئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة الصخيرات تمارة.
واستدل سكنفل في هذا السياق بالآية الكريمة من سورة فاطر “وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ “، وما جاء في السنة من قصة الغامدية التي أقرت وهي متزوجة بأن حملها من زنى، فأجل النبي صلى الله عليه وسلم تنفيذ حكم الشرع عليها حتى تضع حملها وتفطمه، فلما فطمته جاءت به إلى النبي يمشي على رجليه فقال للصحابة من يتكفل بهذا”. وفي ذلك إشارة إلى أن المجتمع مسؤول عن رعاية هؤلاء الأطفال، ولا يجوز بحال نعتهم بما يجرحهم في شعورهم ولا النظر إليهم أنهم خارج المجتمع، لأن آباءهم من ذلك المجتمع، بحسب تعبيره.
وشدد المتحدث على أن تغيير هذا الواقع في مجتمع ينظر إلى هؤلاء الأطفال نظرة تنقيص وازدراء يحتاج إلى تربية وتوعية لكي يعيش أولئك الأطفال دون إحساس بالنقص. وكم من حالة من هذه الحالات الاجتماعية أنتجت أفرادا صالحين حينما توفرت لهم العناية والرعاية المصحوبة بالحب والعاطفة المليئة بالرحمة.
وحذر رئيس المجلس العلمي من خطورة الضلوع في جرائم بيع الرضع، موضحا أن هذا الأمر لا يجوز سواء كان الأطفال نتاج زواج أو علاقة غير شرعية، مبرزا أن الآباء لا يملكون أبنائهم وهم ليسوا سلعة وإنما هبة من الله ويجوز في المقابل التكفل بهم من طرف أسر أخرى قادرة على ذلك ماديا ونفسيا وتربويا مادام الآباء البيولوجيون لا يستطيعون ذلك لظروف مادية أو اجتماعية.
وقد تكفل النبي بزيد بن حارثة فكان له مثل الأب في التربية والرعاية، يقول سكنفل لكن لم يكن ابنه حقيقة بالنظر لتحريم التبني في الشريعة الإسلامية: “ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” الأحزاب الآية 5.
ولدته بقلبها
نجاة وزوجها أسرة قررت بعد حوالي 12 سنة من زواج سادته المودة والرحمة لكنه لم يثمر أطفالا، التكفل بطفل أخبراه بأنهما والديه بالكفالة خلال الثلاث سنوات الأولى، وبشكل تدريجي.
“قالي ماما واش القصة لي كنتي كتحكي لي صحيحة ولا كذوب، حيت كنحس بيك ولدتيني”، تقول أم عادل في إشارة منها إلى سؤال طرحه عليها ابنها حول القصة التي اعتمدتها كوسيلة لإخباره منذ سنته الأولى أنه ليس الطفل البيولوجي للأسرة، وهي تخبرنا عن جوابها لطفلها أخبرتنا نجاة بابتسامة تعلو ثغرها وعيون براقة وصوت تداعبه ترددات عفوية، “قولتلو أنا ولدتك بقلبي”.
أسرة عادل، نبهت إلى أن نظام الكفالة تواجهه عدد من المشاكل من أهمها خوف الأسر من مطالبة الأم البيولوجية باسترجاع الطفل.
في هذا الإطار قال والد عادل بالكفالة، إن الأسر في السابق كانت تتجه لمؤسسات الرعاية، لذلك لم تكن تواجه تعقيدات على مستوى المساطر من أجل الحصول على طفل للتكفل به، وبعد التعديلات التي لحقت مدونة الأسرة وأصبح بإمكان الأمهات العازبات تسجيل أبنائهم بأسمائهم، أضحت الأسر تواجه مشاكل على مستوى طول المساطر وتعقيداتها.
بحسب الأرقام التي قدمتها عزيزة الهنداز قاضية برئاسة النيابة العامة، فقد تم تسجيل 2623 طلبا للتصريح بالإهمال سنة 2019، و2107 سنة 2020، و2140 سنة 2021 و2130 سنة 2022، فيما بلغ عدد الكفالات المنفذة 1382 في سنة 2019، و1223 سنة 2020، و1554 سنة2021، و1413 سنة 2022.
القاضية شددت على الدور الهام لوكيل الملك في قضايا الكفالة، مشيرة إلى أنه يتم إيداع الأطفال المهملين في مراكز الرعاية بشكل مؤقت، وإجراء بحث حول وضعية الإهمال، والإجراءات الرامية إلى تسجيل الطفل المهمل بسجلات الحالة المدنية، وتقديم طلب التصريح بالإهمال لدى المحكمة، والتسليم المؤقت لطالبي الكفالة، وهو إجراء تتولى النيابة العامة القيام به إلى حين البت في طلباتهم، وهو إجراء يشجع الأسر الكافلة على الاستمرار في الإقبال على طلبات الكفالة.
عند اتباع المساطر القانونية في حالات التكفل، تتوصل المصالح الأمنية بتعليمات من قسم قضاء الأسرة في المحكمة الابتدائية من أجل القيام بالأبحاث المحيطية حول طالب الكفالة، إذ يتلخص دور ضباط الشرطة القضائية في إجراء بحث مع الأم البيولوجية التي اختارت التخلي عن الطفل والوالد البيولوجي، والاستفسار حول ما إذا كان الأمر يتم بمقابل مادي أم لا، وإن كانت الأم تتوفر على شهادة تسجيل في حال وضعت مولودها في مصحة.
وأوضحت المراقب العام مريمة العراقي، متحدثة عن عمل الشرطة القضائية في البحث حول ملفات طلب الكفالة، أن “الطفل لا ينشأ من فراغ، فهو يحتاج إلى وثائق التسجيل والولادة، ووثيقة التلقيح، ووثيقة التسجيل في المدرسة”، مشددة على المغرب دولة مؤسسات مترابطة، وفي حال عدم توفر وثيقة من هذه الوثائق أو وجود شكوك يتم تبليغ النيابة العامة والمصالح الأمنية.
ضابط الشرطة القضائية، تضيف المتحدثة، يقوم كذلك ببحث اجتماعي، حيث يتم التدقيق حول ما إذا كان الأمر يتم تحت التهديد والضغط، أو بإجبار الأم على التخلي عن الطفل، فيما يتم الشق الثاني من البحث مع الأسرة التي ستتكفل، ويهم مدى توفرها على عمل قار وسكن قار وظروف مناسبة للتكفل بالطفل.
وأشارت العراقي إلى أنه عند تسجيل أي شبهات خارج القانون كتزوير الوثائق، يتم تحريك مسطرة المتابعة في حق المتابعين، وتبحث الشرطة القضائية في نوع الفعل الجرمي، وإن كان الأمر يتعلق بتزوير وثائق، أو بيع، أو تعريض الطفل للخطر أو إهماله، وبناء على ذلك تحدد النيابة العامة نوع المتابعة.
المسؤولية
المشرع يتحمل مسؤولية سن قوانين وتعديل التشريعات الخاصة بنظام الكفالة بالمغرب، من أجل تشجيع الأسر على سلك الطرق القانونية، بعيدا عن الفصول المظلمة لجريمة الاتجار بالأطفال، والتبني السري، الذي يجر وراءه ضحايا لا يتمكنون من متابعة دراستهم أو الانخراط في أي نشاط، وكذا الاندماج داخل المجتمع دون خوف من الوصم من جهة، ومن ثقل الأثر النفسي لحقيقة كونهم أطفال تم وزنهم ببضع دولارات.
من جهة أخرى يتحمل المجتمع مسؤولية بناء الوعي وتكريس القيم الإنسانية الرافضة لأي تشجيع لسوق تجارة البشر، مهما كانت الظروف، كما يواجه الفاعل السياسي مسؤولية تنزيل سياسات عمومية قادرة على مواجهة مظاهر الهشاشة وضعف العدالة المجالية، التي تدفع في أحيان كثيرة نساء نحو علاقات مجهولة المصير نتيجتها أطفال متخلى عنهم وآخرون تلفهم أوراق اليورو.
المصدر: العمق المغربي